مقدمة:
يُعدّ موضوع القيم والمجتمع المدني من القضايا المركزية في الفكر السياسي والاجتماعي المعاصر، إذ يرتبط بمدى قدرة الفاعلين المدنيين على ترسيخ المبادئ الأخلاقية والإنسانية في الحياة العامة، وإعادة تشكيل التوازن بين الدولة والمجتمع. فالقيم ليست مجرد مبادئ نظرية، بل هي أطر موجِّهة للسلوك الفردي والجماعي، بينما يشكّل المجتمع المدني مجالاً مؤسسياً لتنظيم هذه القيم وتحويلها إلى ممارسات ومشاريع.
مفهوم القيم وأبعادها النظرية
تُعرَّف القيم بأنها منظومة من المبادئ والمعايير التي يعتمدها الأفراد والجماعات في تحديد ما هو مرغوب أو مشروع (Durkheim, 1912) وهي بذلك تمثّل أسس الضبط الاجتماعي والموجهات الرمزية للسلوك.
على المستوى الفلسفي، تُعَدُّ القيم معايير أخلاقية يُميِّز بها الإنسان بين ما هو حق وما هو باطل، وما هو خير وما هو شرّ، وتُشكِّل هذه القدرة على التمييز أساس الحُكم على الأفعال والسلوكات، كما ورد عن الفيلسوف إيبير في عام 1905.
على المستوى الاجتماعي، تُشكّل القيم قاعدة للتماسك والتضامن، كما اعتبرها طوماس بارسونز أساساً للنظام الاجتماعي
يمكن تصنيف القيم كالحرية، العدالة، الكرامة الإنسانية قيم كونية، قيم محلية/ثقافية التضامن الأسري، احترام الكبير العرف، قيم مدنية/ديمقراطية المواطنة، المشاركة، المساواة، التسامح.
المجتمع المدني: الإطار والمفهوم
يُقصد بالمجتمع المدني شبكة التنظيمات والفضاءات الوسيطة بين الفرد والدولة، وتشمل الجمعيات، النقابات، المنظمات غير الحكومية، المبادرات التطوعية والتعاونيات.
المجتمع المدني هو مجال الصراع على الهيمنة الثقافية، حيث تُنتج وتُكرَّس القيم والمعاني وفقًا لغرامشي (Gramsci, 1971).
بينما يعتبره هابرماس فضاءً عموميًا للنقاش والحوار الحرّ، بعيدًا عن منطق السلطة والربح الاقتصادي (Habermas, 1992).
إذن، المجتمع المدني ليس فقط إطارًا تنظيمياً، بل هو حامل للقيم، يعيد إنتاجها ويمنحها شرعية اجتماعية.
العلاقة الجدلية بين القيم والمجتمع المدني.
المجتمع المدني كفاعل قيمي
ينهض المجتمع المدني بوظيفة تجسيد القيم الأخلاقية الكبرى، وعلى رأسها التضامن والمساواة، عبر تحويلها إلى ممارسات عملية تتجسد في العمل التطوعي، وتنظيم حملات التوعية، والانخراط في الدفاع عن الحقوق الأساسية.
كما يضطلع بدور محوري في ترسيخ مبادئ الشفافية والمساءلة، سواء على المستوى الداخلي من خلال تبنّي آليات الحكامة الجيدة، أو على المستوى الخارجي عبر المرافعة ضد مختلف أشكال الفساد والاختلالات المؤسساتية.
القيم كموجّه للمجتمع المدني
تُسهم القيم المدنية في تحصين المجتمع المدني من الانزلاق نحو منطق الريع أو التوظيف السياسي الضيق، بما يحافظ على استقلاليته ونجاعته في خدمة المصلحة العامة كما تشكّل هذه القيم إطارًا موجّهًا لتحديد أولويات الفعل المدني في مواجهة الأزمات، كما برز بشكل جلي خلال جائحة كوفيدء19، حيث اضطلعت العديد من الجمعيات و منها حركة الطفولة الشعبية بأدوار تضامنية حيوية ساهمت في التخفيف من حدة التداعيات الاجتماعية والاقتصادية للأزمة.
التوترات القيمية
يواجه المجتمع المدني توتراً قيمياً بارزاً يتمثل في الصراع بين المرجعيات التقليدية والمحلية، القائمة على سلطة الأعراف، وبين القيم الكونية الحديثة مثل حقوق الإنسان والمساواة الجندرية. ويؤدي هذا التباين أحياناً إلى إرباك في تحديد أولويات العمل المدني وتباين في ممارساته.
كما يتهدد دوره خطر الاختزال في قيم مصلحية أو حزبية ضيقة، الأمر الذي يُفقده استقلاليته ويضعف رسالته المجتمعية الأصلية.
إضافة إلى ذلك، تكشف الممارسة الميدانية عن اختلالات بنيوية أبرزها ضعف التأطير وتراجع الوظيفة التربوية التوعوية، حيث تحوّلت بعض الجمعيات إلى مجرد خزانات انتخابية محتواة من طرف سماسرة الانتخابات، وهو ما يعكس فجوة قيمية صارخة بين الخطاب النظري الذي يرفع شعارات المواطنة والديمقراطية، وبين الواقع العملي الذي تحكمه منطق المصالح والزبونية.
التحديات الراهنة
أزمة الثقة وانتشار الجمعيات الصورية
يشهد الحقل الجمعوي في كثير من السياقات تنامياً لظاهرة الجمعيات الصورية التي تُنشأ لأغراض ظرفية أو مصلحية، دون أن تضطلع بدور حقيقي في خدمة الصالح العام. هذا الوضع يضعف منسوب الثقة بين المواطنين وهذه التنظيمات، ويجعل المجتمع المدني في نظر فئات واسعة مجرد واجهة شكلية تُستغل لتحقيق مكاسب سياسية أو مالية. إن فقدان المصداقية يقوّض جوهر الفعل المدني القائم على القرب، والشفافية، والعمل التطوعي النزيه.
ضعف التربية على القيم المدنية
تعاني المؤسسات التعليمية، في مستوياتها المختلفة، من قصور في إدماج القيم المدنية في المناهج والأنشطة التربوية فالتربية المدنية غالباً ما تُختزل في مواد نظرية دون ممارسات تطبيقية تُنمّي لدى المتعلمين حسّ المسؤولية، وروح المواطنة، وثقافة المشاركة هذا الضعف يؤدي إلى عزوف الأجيال الجديدة عن الانخراط في العمل الجمعوي أو السياسي، ويحصر المشاركة المدنية في فئات ضيقة، بدل أن تكون ممارسة مجتمعية شاملة.
الاستقطاب السياسي والإيديولوجي
يواجه المجتمع المدني تحدياً يتمثل في محاولات التوظيف السياسي والإيديولوجي، حيث تسعى بعض التيارات الحزبية أو العقائدية إلى السيطرة على الجمعيات واستغلالها كأدوات تعبئة انتخابية أو دعائية. هذا الاستقطاب يُفرغ العمل المدني من مضامينه القيمية، ويحوّله إلى امتداد لصراعات السلطة، مما يهدد استقلاليته، ويُضعف دوره كفاعل مستقل يعبّر عن حاجات المجتمع وقضاياه الفعلية.
تأثير العولمة الرقمية والقيم الجديدة
أحدثت الثورة الرقمية والعولمة الثقافية تحولات عميقة في أنماط التفكير والسلوك، حيث أصبحت القيم الفردانية، والاستهلاك المفرط، والبحث عن الربح السريع، تفرض نفسها على حساب قيم التضامن التقليدية وروح الجماعة. ورغم ما توفره الوسائط الرقمية من فرص هائلة للتعبئة المدنية والمشاركة المجتمعية، إلا أنها تحمل في الوقت ذاته مخاطر تفكيك الروابط الاجتماعية، وإضعاف روح المسؤولية المشتركة، إذا لم يتم توجيهها نحو خدمة المصلحة العامة.
هذه التحديات مجتمعة تكشف عن الحاجة الملحة إلى إعادة بناء الثقة في المجتمع المدني، وتقوية التربية على القيم المدنية، وضمان استقلالية الفعل الجمعوي، مع ترشيد استخدام الفضاء الرقمي بما يخدم التضامن والتنمية المشتركة.
آفاق إعادة الاعتبار للقيم في المجتمع المدني
ترسيخ ثقافة المواطنة عبر التربية المدنية في المدرسة والجامعة
يُعتبر النظام التربوي والجامعي مدخلاً أساسياً لترسيخ ثقافة المواطنة، إذ لا يمكن للمجتمع المدني أن يؤدي وظائفه القيمية دون جيل مشبع بالمعرفة المدنية ومؤهل للمشاركة الواعية. إن إدماج التربية على المواطنة بشكل فعّال في المناهج الدراسية والأنشطة الموازية يساهم في تنمية حسّ الانتماء والمسؤولية، ويؤسس لعلاقة إيجابية بين الفرد ومحيطه الاجتماعي والمؤسساتي.
تعزيز قيم الحوار والتعددية لمواجهة التطرف والكراهية
يُشكل المجتمع المدني مجالاً خصباً لتجسيد قيم الحوار وقبول الاختلاف، باعتبارها عناصر ضرورية لضمان التماسك الاجتماعي. فمواجهة التطرف العنيف وخطابات الكراهية لا يمكن أن تتم فقط عبر الأدوات الأمنية أو القانونية، بل تحتاج إلى ترسيخ ثقافة تعددية قادرة على احتضان التنوع الفكري والثقافي. ومن هنا تنبع أهمية المبادرات المدنية في بناء جسور الثقة بين المكونات المختلفة للمجتمع.
مأسسة الشفافية والمحاسبة داخل الجمعيات
تعد الشفافية والمحاسبة من المرتكزات الأساسية لضمان مصداقية العمل المدني. فغياب آليات واضحة للحكامة الداخلية يؤدي إلى فقدان الثقة بين الجمعيات والمجتمع، ويجعلها عرضة للاتهامات بالريع أو الاستغلال. إن إرساء قواعد مؤسساتية للشفافية، مثل نشر التقارير المالية وتفعيل آليات الرقابة المستقلة، يُعزز ثقة المواطنين في العمل الجمعوي ويدعم استمراريته.
تشجيع العمل التطوعي كقيمة مجتمعية مركزية مرتبطة بالهوية الوطنية
يمثل العمل التطوعي أحد أبرز تجليات المواطنة الفاعلة، وهو ركيزة لتعزيز التضامن الاجتماعي. غير أن هذه الممارسة تحتاج إلى تأطير قانوني ومؤسساتي يجعلها مستدامة ومنظمة، بدل أن تظل ظرفية أو موسمية. إن تثمين ثقافة التطوع وربطها بالهوية الوطنية يساهم في إحياء روح المسؤولية الجماعية، ويمنح المجتمع المدني قوة دفع إضافية في مشاريع التنمية.
دعم استقلالية المجتمع المدني عن الضغوط السياسية والاقتصادية
لا يمكن للمجتمع المدني أن يؤدي أدواره القيمية إذا ظل خاضعاً لهيمنة المصالح السياسية أو الاقتصادية. فالتوظيف الحزبي أو التحكم في التمويل يفرغ العمل المدني من مضمونه، ويجعله أداة لتصفية الحسابات. لذلك، فإن استقلالية الفاعلين المدنيين تمثل شرطاً أساسياً لضمان حيادهم، وتركيزهم على خدمة المصلحة العامة، وتعزيز رسالتهم في ترسيخ القيم الديمقراطية والاجتماعية.
إن تعزيز أفق المجتمع المدني رهين بترسيخ المواطنة عبر التربية، وتثبيت قيم الحوار والتعددية، وضمان الشفافية الداخلية، وتشجيع العمل التطوعي، إضافة إلى الحفاظ على استقلاليته. هذه المحاور مجتمعة تشكّل قاعدة صلبة لتقوية دوره كحامل للقيم المجتمعية والإنسانية.
خاتمة:
يتضح أن العلاقة بين القيم والمجتمع المدني ليست علاقة أحادية الاتجاه، بل هي جدلية: فالقيم تمنح المجتمع المدني شرعيته ومشروعيته، بينما يقوم المجتمع المدني بدور حاسم في نشر هذه القيم وتجسيدها عملياً. غير أن التحديات المرتبطة بضعف التربية المدنية، وهيمنة الاعتبارات السياسية والاقتصادية، تفرض ضرورة إعادة التفكير في الأسس القيمية للعمل المدني، لضمان أن يظل المجتمع المدني فضاءً لإنتاج الحرية، العدالة، والتضامن.