أحمد الحطاب: العقول المٌتجمِّدة أو المجمَّدة

أحمد الحطاب: العقول المٌتجمِّدة أو المجمَّدة أحمد الحطاب
أول ما أبدأ به هذه المقالة، هو التَّمييز بين كلِمتي "مُتَجَمِّد" و"مُجَمَّد". "مُتَجَمِّد" اسم فاعلٍ منسوبٍ لفعلِ "جمَّدَ". والتجميد، مجازياً، هو بقاء الشيءِ على ما هو عليه، أي أصابه الجمودُ أو أصابه عدم التغيير. وهذا يعني أنه، عندما نقول "فِكر شخص ما مُتجمِّد"، فالمقصود هو أن فكرَ هذا الشخص أصابه الجمود، أو "التجميد". وعندما نقول "عقلٌ مُتجمِّدٌ"، فالفاعل هو الشخص نفسُه، أي أن "التَّجميد" فعلٌ ذاتيٌّ أو إرادي une action propre à une personne ou volontaire، أي أرادها الشخص عن سابق معرفة.

أما عندما نقول "عقلُ فلان مجمَّدٌ"، فالفاعل، أي العامل الذي يتسبَّب في "التجميد" أو "الجمود"، يكون، عادةً، خارجيا عن شخصِ الفلان. بمعنى أنه يوجد شيء خارجَ إرادة الفلان، يتسبَّب في "التجميد" أو"الجمود".

وعندما عنونتُ هذه المقالة ب"العقول المٌتجمِّدة أو المجمَّدة"، فالمقصود هو أن هناك عقولاً اختارت، طوعاً، الجمود، وعقولاً أخرى لم تختر هذا الجمود، لكنها تأثرت بشيء خارجي فَرَضَ عليها هذا الجمودَ، علماً أنه، مع مرور الوقت، لم يعد هناك فرقٌ بين الفاعل والمفعول به، أي أن العقولَ تتعوَّد على الجمود، فيُصبح هذا الأخير هو خيطُها النَّاظمُ لأفكارها le fil conducteur de ses pensées.

وفي هذا الصدد، هناك سؤالٌ يفرض نفسَه علينا، هنا، وهو : "مَن هم أصحاب العقول المُتجمِّدة أو المُجمَّدة"؟

إنهم علماء وفقهاء الدين، القدامى والحاليون، وخصوصا، منهم الرافِضون لتشغيل العقول من أجل الاجتهاد والمتطرفون، أي المتشدِّدون في فَهمِهم للنصوص الدينية، الذي يكاد يكون حرفيا لهذه النصوص. بمعنى أنهم عوَّدوا عقولَهم على الجمود وأصبحوا غير قادرين على القراءة بين السطور. أو بعبارة أخرى، أصبحوا عبيداً للجمود العقلي، وبالتالي، غير قادرين على تشغيل عقولِهم، مخافةَ أن يؤدِّيَ بهم التفكير إلى ما قد يُخالف النَّصَّ الديني، كما يدَّعون. وهذا الجمود هو الذي أدى إلى ظهور المعتزلة في أواخر العصر الأموي. المعتزلة الذين كانوا يُعطون الأولوية للعقل قبل النقل وللفكر قبل السمع.

وهذا هو ما نصَّ عليه القرآن الكريم حين قال، سبحانه وتعالى، في الآية رقم 29 من سورة ص : "كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ".

في هذه الآية، كلام الله موجَّهٌ للرسول (ص) مُوصِياً إياه بأن الوحيَ الذي هو القرآن الكريم، المنزَّل عليه، ما عليه إلا أن يبلِّغَه للناس "لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ". فكيف للناس أن يتدبروا آياتِ القرآن الكريم، دون أن يشغِّلوا عقولَهم؟ والتَّدبُّرُ هو الذي يقود أصحابَ العقول النَّيِّرة والمُستَنيرة لتذكُّر وتذكِير ما أوصى به الله، سبحانه وتعالى، من خيرٍ للبلاد والعباد.

وعندما أقول "تشغيلَ العقل"، فالمقصود ليس العقول التي تفصل نفسَها عن النصوص الدينية وتَغرَق في تشريع لا علاقة له بالإسلام. بل المقصود هو العقول القادِرة على الاجتهاد دون أن تخرجَ عن نطاق النصوص الدينية. وهذا شيءٌ ممكِنٌ، أي الاجتهاد، ما دام، سبحانه وتعالى، طلب من الناس أن يتدبَّروا آيات القرآن الكريم. وما طلب، عزَّ وجلَّ، من الناس أن يتدبروا آيات القرآن الكريم إلا وهذا التَّدبُّر ستكون له نتائج تعود بالنفع على البلاد والعباد.

ولا حاجةَ للتذكير أن الفهمَ الحرفي للنصوص الدينية، هو الذي يُؤَدي إلى جمود العقل الضاربِ، أي الجمود، عرضَ الحائط كل التغييرات التي تحدث داخل المجتمعات، والتي، من المفروض، أن يتكيَّف معها فهمُ النصوص الدينية. ولهذا، فالعقل الجامِد يتنكَّر لهذه التَّغييرات، وبالتالي، يعتبر أحكامَ الماضي صالحَةٌ لكل زمان ومكان. والله، عزَّ وجلَّ، يقول في القرآن الكريم، وبالضبط، في الآية رقم 140 من سورة آل عمران : "...وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ…". وهل الأيام، المرتبطة بالزمان والمكان، تمضي مُتشابِهةٌ بعضها بالبعض الآخر؟ وهل مجتمع الإنسان البِدائي l'homme primitif يشبه المجتمعات البشرية للعصر الحاضر؟

بالطبع لا، ثم لا ولاشيءَ غير لا. ولستُ أنا مَن يردِّد هذا الجواب. بل التاريخ هو الذي يشهد ويقصُّ علينا ما كانت عليه المجتمعات البشرية الماضية، وفي جميع المجالات. ولهذا، فحينما قال، سبحانه وتعالى، "...وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ…"، أي أن هذه الأيام، كما بيَّن ويُبيِّن ذلك التاريخ، لا تتشابه من حيث الأوضاع المعرفية، الثقافية، الاجتماعية والاقتصادية.

ثم ألم يقل، سبحانه وتعالى، في الآية رقم 13 من سورة الحجرات : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".

في هذه الآية الكريمة، قال، سبحانه وتعالى، "إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ…"، أي من تزاوج رحل وإمرأة. غير أن كلمتَي "ذكر" و"أنثى" وردتا، في هذه الآية، بصيغة إسمَين نَّكرة. والإسم النكرة يدل، إما على شيءٍ غير محدَّدٍ، وإما على وضعٍ غير محدَّد. والوضع غير المحدد، في هذه الآية، هو الخلقُ الإلهي للناس من ذكر وأنثى. وكون هذا الوضع غيرَ محدَّد، يعني أنه مستمِرٌّ في الزمان والمكان، أي كان موجودا في الماضي وسيستمِرُّ إلى أن يرثَ اللهُ، سبحانه وتعالى، الأرض ومَن/ما عليها. وهذا هو سرُّ وُرود كلمتَي "ذكر" و"أنثى" قي صيغة اسمين نكرة.

وفي نفس الآية، وَرَدَ فعل "لِتَعَارَفُوا" الذي، من خلاله، لخٍَّصَ، سبحانه وتعالى، العلاقات التي تُقيمها البلدانُ أو الدولُ مع بعضها البعض، سواءً في الماضي أو في الحاضر. ومن بين هذه العلاقات، أذكرُ التعاونَ بين البلدان في مجالات معينة. والمجالات قد تشمل تبادلَ الخبرات، وخصوصا، تبادل الخِبرات الاقتصادية والتِّكنولوجية…

وإذا قُمنا بتقريب الآية رقم 13 من سورة الحجرات، التي لخَّص فيها، سبحانه وتعالى، العلاقات القائمة بين اليلدان في فعل "لِتَعَارَفُوا"، من الآية رقم 140 من سورة آل عمران، التي يقول فيها، عزَّ وجلَّ، "...وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ…"، أي أن أوضاعَ الأيام المتداولة بين الناس لا تبقى على حالِها، سنستَنتِج أن العلاقات بين الدول لا تبقى ثابتة، بل تتغيَّر حسب ما وصل إليه الفكر البشري أو العقل البشري من تطوُّرٍ.

والعقل البشري أو الفكر البشري، من خصائصه القدرة على معرفة الأشياء la capacité de connaître ou cognition. وهذا العقل لم يتوقف عن التَّطوُّر، منذ أن خلق اللهُ، سبحانه وتعالى، الإنسانَ إلى يومنا هذا. والدليل على ذلك، الأشواط الهائلة التي قطعها الإنسانُ العاقل في التَّقدم العلمي والتكنولوجي، منذ وجوده على سطح الأرض، وبالأخص، خلال القرون الثلاثة الماضية. فكيف لعقولِ علماء وفقهاء الدين أن تبقى مُتجمِّدةً إراديا ولا تجرؤ على تغيير أفكارها s'opposent au changement volontairement أو مجمَّدة تحت تأثير عوامل خارجية؟ أين هو تدبُّر آيات القرآن الكريم الذي أوصى به، سبحانه وتعالى، الناسَ عن طريق الرسول (ص)؟ فما هي هذه العوامل الخارجية؟

جوابا على السؤال الأخير، أي "فما هي هذه العوامل الخارجية:؟، أقول إن هذه العوامل الخارجية يمكن تلخيصُها في الإنتاج المعرفي الغزير الذي عرفه الفِقهُ الإسلامي بعد وفاة الرسول (ص). وهذا الإنتاج المعرفي الغزير هو الذي تتوارثه الأجيال المُتتالية من العلماء والفقهاء، وأحيانا، تُضفَى عليه هالة القداسة la sanctification، وبالتالي، يصبح غير قابل للنقاش. وهكذا، فإن تجميد أو تجمُّدَ العقول يصبِح، هو الآخر، متوارثاُ، أي ينتقل من جيل إلى آخر من العلماء والفقهاء. والغريب في الأمر، أن علماءَ وفقهاءَ الدين الحاليين، هم أنفسُهم، ساروا على نهج القدامى. فورثوا عنهم هذا الجمود العقلي. وذلك رغم أنهم شهداء على التغييرات الهائلة التي تحدث أمام أعينهم داخل المجتمعات الإسلامية المُعاصِرة.

قد يقول قائلٌ إن الاجتهادَ في الأمور الدينية له ضوابطه وقواعِده الشرعية. نعم وبكل تأكيد! له ضوابطُه وقواعدُه الشرعية! لكن السؤال الذي لم تجرُؤ العقول المتجمِّدة والمجمِّدَة على طرحه هو الآتي : "هل هذه الضوابط والقواعد أمطرتها السماء أم هي من صُنعٍ بشري، اعتماداً على ما جاءت به النصوص الدينية"؟

بالتأكيد، إنها من صُنعٍ بشري. وهل ما يصنعه العقل البشري، سواءٍ على المستوى الفكري/النظري sur le plan intellectuel et théorique أو على المستوى العملي ou ،sur le plan pratique صالحٌ لكل زمان ومكان؟

لو كان الأمر على هذا النحو، فكيف تعاقدت الحضارات البشرية واختلف بعضُها عن البعض الآخر، بل وكيف انقرضت هذه الحضارات؟ العادي والطبيعي في حياة البشر هو التَّغيير. والتغيير لا يعترف بما هو مُطلقٌ ne reconnaît pas ce qui est absolu. بل يعترف، فقط وحصريا، بما هو نسبي reconnaît exclusivement ce qui est relatif.

فما على علماء وفقهاء الدين الحاليين إلا أن يكونوا واعين بهذه الحقيقة، ولا شك إنهم واعون بها، أن يصنعوا لنا، عبر جُهد فكري اجتهادي à travers un effort juridique intellectuel ضوابط وقواعد اجتهاد جديدة تتماشى مع روح العصر وتأخذ بعين الاعتبار التغييرات الهائلة التي حدثت وتحدث فيه، وبالطبع، دون مخالفة ما جاء به القرآن الكريم.

فعندما عنونتُ هذه المقالة ب"العقول المٌتجمِّدة أو المجمَّدة"، فهذا ليس، على الإطلاق، قدحاً أو تنقيصاً من قيمة علماء وفقهاء الدين الحاليين، لكن دعوتُهم إلى مزيدٍ من الاجتهاد.