محمد خير: ... ولا حتى كبش فداء

محمد خير: ... ولا حتى كبش فداء

بقليل من التأمل يمكن رؤية الخيط الواصل بين أحكام البراءات المتوالية للرئيس المخلوع محمد حسني مبارك وأركان نظامه وقادته وحتى صغار ضباطه وجنوده، وبين سمة ميزت سنوات الحكم الأخيرة للرئيس العجوز. وهي سمة كانت تُرى كأنها الغرور والتعالي عن تقديم حتى كبش فداء من صغار المسؤولين، لكنها في واقع الأمر قد تعني ما هو أكثر من ذلك: العجز عن تقديم كبش الفداء.

في أبريل 2006 غادر ممدوح إسماعيل، مصر، إلى باريس، ومنها إلى لندن التي ليس بينها وبين مصر اتفاقات لتسليم المتهمين أو المدانين. إسماعيل هو صاحب عبّارة "السلام" 98، التي غرقت  في فبراير من العام نفسه، قبل سفر/ هروب صاحبها بأكثر من 40 يوماً، وغرق معها أكثر من 1300 من ركابها، في واحدة من أسوأ كوارث الإهمال في التاريخ المصري. وانتظر الجمهور المحاسبة، متوقعاً -كالعادة- أن تتم التضحية ببعض المسؤولين الصغار أو ربما رؤية بعض الاستقالات الحكومية، لكنه هذه المرة لم يظفر حتى بتلك الإجراءات الصغيرة، أمام تلك الكارثة الكبرى لم يُحاسب عليها أحد. وظل مالك العبارة بلا استدعاء قانوني، ستة أسابيع، إلى أن غادر البلاد بسلام ومن مطار القاهرة، وبمجرد خروجه من مصر صدر أمر من النائب العام بمنعه من السفر!

كان ذلك مساراً جديداً آنذاك، بعدما تعودت، حتى السينما والدراما التلفزيونية، على التنديد بسلوك التضحية بالصغار لتهدئة الرأي العام، واعتمدت حبكات أعمال درامية عديدة على قصة البطل الذي يسعى إلى محاسبة الرؤوس الكبيرة بدلاً من الصغيرة، فينجح أحياناً ويفشل غالباً.

كانت قضايا الإهمال، هي ما يُضحّى فيها عادة بكبش الفداء الذي اتخذ اسماً كودياً هو "عامل التحويلة"، في إِشارة إلى العامل المسؤول عن تبديل قضبان القطارات، والذي كثيراً ما كان يدان باعتباره مسؤولاً عن حوادث القطارات العديدة والمروعة، وكأن مؤسسة ضخمة كالسكك الحديدية يمكن لشخص واحد أن يكون مسؤولاً عن كوارثها المتوالية.

أما في قضايا التعذيب، فكان الدارج أن يخوضها النظام في شكل مواجهة صفرية، يدافع فيها عن أصغر مسؤول كما عن أهمّ وزير. ومن المفارقات، أن تلك السنوات المباركية الأخيرة نفسها، والتي توقف فيها النظام عن تقديم كبش فداء في كوارث الإهمال، شهدت تقديم "الكبش" ذاك في بعض الحالات وبطرق ملتوية، في قضايا تعذيب محدودة، تحت ضغط الإعلام وتراكم العمل الحقوقي. فقُدّم بعض الضباط إلى المحاكمة، ونالوا أحكاماً بالسجن فعلاً. لكنهم، تماماً كما جرى مع مبارك قبل أيام، كانوا يحصلون على البراءة في درجات التقاضي التالية.

وكثيراً ما كان يُنظر بعين الدهشة إلى أنظمة دول الربيع العربي، في إصرارها حتى اللحظات الأخيرة، على عدم تقديم إصلاحات، وكثيراً ما تم تفسير ذلك بالثقة في النفس وبقوة الأجهزة الأمنية. بينما كانت زاوية النظر الأخرى، والتي كانت تحتاج إلى ضوء أكثر، هي العجز عن تنفيذ إصلاحات، كان أي منها سيؤدي بالضرورة إلى انهيار النظام كله. فكيف يمكن لأنظمة استبدادية بالكامل أن تحتمل حرية إعلام أو استقلال قضاء أو انتخابات نزيهة واحدة؟

كذلك، وفي تفسير الحكم ببراءة مبارك ووزير داخليته وقادته الأمنيين، قيل أن أحكام البراءة بدأت من أسفل، بتبرئة صغار الجنود والضباط والتي انتهت إلى "تبرئة منطقية" لمن هم أعلى منهم. والواقع أنه من الصعب إدانة وسجن أي رئيس حتى في نظام  ديمقراطي، ناهيك عن رئيس ما زالت قوانينه -المصممة لحماية من هم أعلى- هي الحاكمة. لكن الدلالة الحقيقية هنا، هي أن النظام القضائي القادر بسهولة على سجن وتمديد  حبس رئيس (محمد مرسي) وحكومة (إخوان) كاملة كانت تحكم حتى قبل أشهر قليلة، وكذلك وضع شبان التظاهرات في السجون بأحكام مشددة، هو النظام ذاته الذي "يعجز" عن إدانة أصغر ضابط في نظام مبارك.

وذلك لا يعطي دلالة على مدى استقلالية ذلك النظام القضائي فحسب، بل كذلك على مدى استقلالية نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي وأركان حكمه، عن مبارك وأركان حكمه. ويعكس ارتباطاً بين النظامين، تبلغ شدته درجة عجز واحد عن إدانة الثاني، ولو من أجل شعبية الأول. وبعدما كان وضع مبارك -وكل من ارتبط به- في السجن أمراً سهلاً وبديهياً خلال أسابيع من ثورة يناير، بدا مبارك في  قفص البراءة، قبل أيام، كما لو كان أكبر بكثير من أن يكون كبش فداء لحكم السيسي.

(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)