في زمنٍ تتكثف ملامح الغد في ومضةٍ واحدة تُسمى الذكاء الاصطناعي، نقف على عتبة سؤال يشبه المرآة: هل نكتفي بأن نستهلك ما يصنعه الآخرون، فنمضي في ركبٍ لا يقوده أحد منا، أم نجرؤ على أن نصبح صُنّاعًا للحلم، نخطّ بأيدينا قواعد اللعبة الجديدة؟ هذا النص رحلة في عمق الظاهرة، بحث في جذورها وأسبابها، استبصار بما تحمله من آفاق، ومحاولة لرسم معالم طريق ضيق لكنه ممكن نحو التحول
لماذا نعيش كمجتمع مستهلك في زمن الابتكار
في زمنٍ ينهض على الخوارزميات ويتسارع على إيقاع البيانات، تبدو مجتمعاتنا وكأنها متأخرة خطوة خلف الركب. لا لأننا نفتقر إلى الذكاء أو الطموح، بل لأن البُنى التي تُوجّه مسارنا ما تزال أسيرة أنماط قديمة من التفكير والاختيار
فنحن نميل إلى ثقافة التلقي والاعتماد الخارجي؛ نستقبل ما يُنتج في المختبرات البعيدة وكأنه معيار لا يُمَسّ، ونستهلكه من دون أن نطرح سؤالًا عن جدواه في بيئتنا أو لغتنا أو حاجاتنا الخاصة. ومع ذلك، لا يقتصر الأمر على العقلية وحدها، بل يمتد إلى الفجوة التعليمية والمهارية مدارس وجامعات تدرّب على الحفظ أكثر مما تفتح أبواب الخيال، وتُخرّج شبابًا يفتقرون إلى أدوات التصميم والبرمجة والتفكير النقدي
أما في ميدان البحث العلمي، فالواقع أوضح من أن يُخفى أبحاث متناثرة وتمويل هزيل ورأس مال محلي يفضل الربح السريع على الاستثمار طويل الأمد في المعرفة. ويزيد الطين بلة ضعف البنية التحتية والبيانات المحلية؛ إذ كيف يمكن أن نُبدع في الذكاء الاصطناعي من دون قواعد بيانات تعكس لغاتنا وثقافاتنا، أو من دون مراكز حوسبة قادرة على منافسة ما يملكه الآخرون؟
ثم تأتي السياسات العامة لتكرّس هذا النمط الاستهلاكي؛ إذ تفتقر إلى استراتيجيات واضحة للابتكار، ولا تستعمل الحكومة قوتها الشرائية لفتح الطريق أمام منتجات محلية ناشئة في النهاية يجد العلماء والمهندسون أنفسهم أمام خيارٍ مؤلم إما البقاء في بيئة خانقة، أو الرحيل إلى حيث يجدون تمويلًا وتقديرًا وفرصًا أفضل وهكذا تتسع دائرة هجرة العقول، ويتحول النزيف الفردي إلى عَرَضٍ لمرضٍ اجتماعي-اقتصادي عميق
هذا التشخيص ليس جلدًا للذات بقدر ما هو محاولة لرؤية المرآة بوضوح نحن مجتمع استهلاك في زمن يطلب الإنتاج، ومجتمع تقليد في عصر يقدّس الخيال والابتكار والسؤال الذي يفرض نفسه هل نملك الإرادة لتغيير المسار، أم سنظل نكتفي بما يبدعه الآخرون ونستهلكه حتى التخمة؟
لماذا يجب أن نستثمر الآن؟
الانتقال من مجتمع يستهلك التكنولوجيا إلى مجتمع ينتجها لم يعد ترفًا يمكن تأجيله، بل صار رهانًا اقتصاديًا وسياسيًا وجوديًا فالذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة جديدة، بل هو المفتاح لإعادة رسم ملامح المستقبل
تخيّلوا نظامًا صحيًا أكثر ذكاءً يُشخّص الأمراض بدقة ويقترح العلاج الأمثل، وزراعةً أكثر إنتاجية قادرة على مواجهة تحديات المناخ، وتعليمًا موجهًا يفتح أبواب النجاح لكل طالب بحسب قدراته، وإدارة عمومية شفافة وسريعة تخدم المواطن بفعالية.
الذكاء الاصطناعي يعني أيضًا فرص عمل نوعية للشباب، وظائف عالية المهارة تُخرجنا من دوامة البطالة البنيوية، وتمنح العقول المبدعة مكانًا يليق بها. والأهم من ذلك، هو استقلالنا التكنولوجي؛ أن نبني سيادة رقمية تحمينا من التبعية للغير وتجعلنا طرفًا فاعلًا في صناعة المستقبل، لا مجرد متلقين لفتاته
إنها لحظة تاريخية: إما أن نغتنمها لنصبح شركاء في صياغة الغد، أو نضيعها فنظل عالقين في مقاعد المستهلكين
كيف ننتقل عمليًا من استهلاك إلى إنتاج
إذا كنا جادّين في الانتقال من مجتمع يستهلك التكنولوجيا إلى مجتمع يُنتجها ويُصدّرها، فالطريق واضح، لكنه يحتاج إلى شجاعة ورؤية بعيدة المدى.
أول خطوة تبدأ من المدرسة والجامعة علينا أن نكسر جدار التلقين، ونُدخل في مناهجنا مسارات تطبيقية في علوم الحاسوب، علوم البيانات، والتفكير التصميمي. شبابنا لا يحتاجون فقط إلى الدروس النظرية، بل إلى تجارب عملية وبرامج تدريبية مكثفة مرتبطة مباشرة بالشركات العالمية، ليخرجوا إلى سوق العمل بمهارات جاهزة للتوظيف
لكن التعليم وحده لا يكفي. نحتاج إلى منظومة بحثية قوية، بمراكز أبحاث جامعية تطوّر حلولًا في الصحة والزراعة والطاقة، وصناديق تمويل مبدئية تقلّل من خوف المستثمرين وتفتح الباب أمام المغامرة العلمية.
ولا يمكن الحديث عن الذكاء الاصطناعي من دون البيانات والبنية التحتية قواعد بيانات وطنية باللغتين العربية والأمازيغية محمية ومفتوحة للباحثين، إلى جانب منح سحابية وحوافز للحوسبة عالية الأداء تمكّن الشركات الناشئة من المنافسة عالميًا.
ثم يأتي دور الحاضنات والمسرّعات التي تجمع الجامعات والقطاع الخاص والحكومة، لا لتقدّم دعمًا تقنيًا فقط، بل لتوفّر أيضًا قنوات تسويق دولية تجعل المنتج المحلي حاضرًا في الأسواق العالمية.
أما الحكومة، فيجب أن تتحول إلى أول زبون داعم للابتكار فلتكن الوزارات من يشتري أولًا أنظمة الصحة الرقمية، وبرامج إدارة المدارس، وأدوات التحليل الزراعي التي تطورها العقول المحلية.
وبجانب ذلك، نحن بحاجة إلى إطار قانوني وأخلاقي شفاف يحمي خصوصية المواطنين، ويضع حدودًا واضحة لاستخدام الذكاء الاصطناعي، من خلال قوانين صارمة ومنصات رقابية مستقلة.
وأخيرًا، لا يمكن أن نغفل عن شبكاتنا الدولية وجاليتنا بالخارج شراكات مع مراكز بحث في أوروبا وإفريقيا، وبرامج تستقطب خبراءنا في المهجر بمشاريع قصيرة وطويلة المدى، لتتحول الهجرة من نزيف للعقول إلى جسرٍ للإبداع المشترك.
مخاطر التحول وسبل التخفيف
لم يعد السؤال اليوم هل سننخرط في ثورة الذكاء الاصطناعي بل أصبح كيف سنتفادى أن نكون مجرد زبائن لتكنولوجيات الآخرين؟
فالتحول من الاستهلاك إلى الإنتاج يتطلب مواجهة أربعة تحديات كبرى بحكمة وجرأة، وإلا سنجد أنفسنا على هامش المستقبل.
فقدان الوظائف: بين خطر الأتمتة وفرصة إعادة التأهيل
يشير معنى اوتوماتيون وهو الأتمتة أو التشغيل الآلي إلى التقنية التي تُستخدم في تشغيل العمليات دون تدخل بشري، وتتراوح مهام الأتمتة من المهام البسيطة والمتكررة إلى العمليات المعقدة، وبالتالي فإن الاستعانة بالأتمتة يمنح الفرصة للعمال للتركيز على مهام أخرى، ولذلك يقوم المهنيون بأتمتة العديد من العمليات لتوفير الوقت والموارد والتكاليف، في مختلف الصناعات.
صحيح أن الذكاء الاصطناعي يهدد آلاف الوظائف التقليدية، لكن الأجدر بنا ألا ننظر إلى هذه الحقيقة بعيون الخوف فقط. فالتاريخ يُثبت أن كل ثورة صناعية حررت طاقات بشرية وأوجدت مهنًا جديدة. المطلوب اليوم هو إعادة تأهيل مهني واسع النطاق، يجعل من شبابنا ونساءنا قوة عمل في قطاعات ناشئة: تحليل البيانات، صيانة الأنظمة الذكية، التسويق الرقمي، أو حتى ريادة أعمال صغيرة في الزراعة الدقيقة والصحة الرقمية.
باختصار: لا يمكننا أن نوقف الموجة، لكن يمكننا أن نتعلم ركوبها
تركيز السلطة التكنولوجية: كسر الاحتكار بالانفتاح
الخطر الأكبر ليس في الذكاء الاصطناعي ذاته، بل في احتكاره من قِبَل حفنة من الشركات العالمية التي تفرض معاييرها وتجعلنا أسرى "حبس تقني" الحل يكمن في تشجيع البرمجيات مفتوحة المصدر، وضمان وصول الجامعات والشركات الناشئة إلى قدرات الحوسبة، حتى لا يتحول الابتكار إلى امتياز خاص بالقلة. بكلمة أوضح لا سيادة رقمية بدون انفتاح، ولا انفتاح بدون بناء قدرات محلية قادرة على المنافسة.
انتهاك الخصوصية: الثقة رأس المال الجديد
في عالم الذكاء الاصطناعي، من يملك البيانات يملك السلطة. لكن البيانات دون حماية تتحول إلى قنبلة موقوتة. الحل هو تشريعات قوية تحمي خصوصية المواطن، وهيئات رقابية مستقلة تفرض الشفافية، وتقييمات إلزامية لأي نظام خوارزمي يُطلق في الفضاء العمومي أو الاقتصادي.
الثقة هنا ، هي شرط أساسي لنجاح أي مشروع وطني في الذكاء الاصطناعي
تشتّت الجهود: من العشوائية إلى استراتيجية وطنية
ما يقتل المشاريع الطموحة ليس قلة الأفكار، بل غياب التنسيق. اليوم لدينا مبادرات جامعية، وبرامج وزارية، وتجارب قطاعية… لكن دون رؤية جامعة، سنبقى ندور في حلقات مفرغة.
الحل هو استراتيجية وطنية واضحة للذكاء الاصطناعي، تقودها مؤسسة عليا وتُنسّق بين الجامعات والقطاع الخاص والحكومة. استراتيجية تُحوِّل الطموحات إلى أرقام، والأفكار إلى إنجازات، والمبادرات المتفرقة إلى قوة وطنية موحّدة.
الذكاء الاصطناعي ليس قدرًا مفروضًا، بل ورشة مفتوحة لمن يملك الإرادة إما أن نكون مجتمعًا منتجًا يكتب خوارزمياته بيده، أو نظل مجتمعًا مستهلكًا يشتري مستقبله من رفوف الآخرين.
والفرق بين السيناريوهين لا تصنعه الشركات الكبرى ولا القوى العظمى… بل نصنعه نحن، بقرارات جريئة واستراتيجيات محكمة، تبدأ من اليوم لا من الغد.
الحرص أكثر من التحذير
التحول ممكن، لكنّه لا يحدث بالندوات وحدها. يحتاج إطارًا وسياسات متكاملة، تمويلًا مستهدفًا، تغييرًا ثقافيًا في التعليم، وشراكة حقيقية بين القطاع العام والخاص. إن لم نبدأ اليوم في تحويل الشباب من مستهلكين لتقنيات الحاضر إلى صانعين لها، فسنجد أنفسنا غدًا مجرد أسواق لمخرجات الآخرين وبأسعار تفوق كلفة الفرصة الضائعة.