أعادت التسريبات الأخيرة التي طالت تقارير جديدة غير منشورة للمحاكم المالية إلى الواجهة جدلًا واسعًا حول مدى احترام قواعد الشفافية والحكامة داخل الجماعات الترابية، خاصة فيما يتعلق بتدبير الصفقات العمومية، تضارب المصالح، والإثراء غير المشروع. التقارير الذي تم تداول مقتطفات منها عبر بعض المنابر الإعلامية رغم طابعها السري، كشفت عن خروقات خطيرة تمس مبادئ المسؤولية والنزاهة، وتدعو إلى اتخاذ تدابير عاجلة بدل الاكتفاء بالتشخيص.
تسريبات تسبق النشر الرسمي: أين تقف حدود القانون؟
أثار تسريب مقتطفات من تقارير للمحاكم المالية، قبل نشرها الرسمي، موجة تساؤلات بشأن مشروعية تداول مثل هذه الوثائق. فالقانون يعتبر التقارير الرقابية مشمولة بالسرية إلى حين إصدارها الرسمي، وأي تسريب أو نشر قبل ذلك قد يُعد خرقًا لواجب التحفظ وإخلالا خطيرا بأخلاقيات المهنة، وقد يمس بسمعة الإدارة المعنية وبمصداقية المؤسسة الرقابية سواء بسواء. غير أن هذا الحادث سلط الضوء على العطش المجتمعي للمعلومة وضرورة تعزيز آليات الولوج إليها بشكل قانوني وشفاف، دون الإضرار بمبدأ استقلالية المؤسسات أو انتهاك مواثيق سلوك المنتسبين إليها من مسؤولين وموظفين وأعوان.
اختلالات جسيمة في تدبير الصفقات العمومية
التقارير، كما ورد في التسريبات، ترصد اختلالات خطيرة في عدد من الجماعات الترابية، خاصة بجهات الدار البيضاء – سطات، مراكش – آسفي، وفاس – مكناس. من بين أبرز الملاحظات المسجلة:
تضارب المصالح وتصريح الممتلكات: آليات شبه معطلة
من بين القضايا التي أعادتها التسريبات إلى السطح، مسألة تضارب المصالح، حيث يستغل بعض المنتخبين مواقعهم لاتخاذ قرارات قد تخدم مصالحهم الشخصية أو مصالح مقربين منهم. ورغم أن القانون يفرض على المنتخبين تقديم تصريح بالممتلكات، فإن هذه الآلية لا تُستغل بالقدر الكافي لكشف حالات الإثراء غير المشروع.
والمفترض أن التصريح بالممتلكات يجب أن يتحول من مجرد إجراء شكلي إلى أداة تحقيق ومساءلة، خصوصًا عندما تظهر مؤشرات على تضخم غير مبرر في الذمة المالية لبعض المسؤولين المحليين.
الإثراء غير المشروع: مشروع قانون مجمد منذ سنوات
رغم ما تكشفه التقارير من حالات مشبوهة تتعلق بالإثراء غير المشروع، فإن الإطار القانوني لم يواكب بعد هذه التطورات. مشروع القانون المتعلق بتجريم الإثراء غير المشروع لا يزال حبيس الرفوف في البرلمان، منذ أن تم تقديمه قبل عدة سنوات. ويعتبر هذا التأخر نقطة ضعف مؤسساتية تُضعف أدوات الردع القانونية وتُسهم في تعزيز ثقافة الإفلات من العقاب.
هل آن الأوان لتفعيل أكثر صرامة لآليات المساءلة؟
في ظل هذه الأوضاع، تتزايد الدعوات إلى تفعيل إجراءات العزل الإداري ضد المسؤولين المنتخبين الذين يثبت تورطهم في اختلالات جسيمة خصوصا أن وزارة الداخلية سبق لها أن قامت بمبادرات فعلية في هذا الاتجاه. كما أن المجلس الأعلى للحسابات، إلى جانب وزارة الداخلية، مطالب اليوم أكثر من أي وقت مضى بمضاعفة جهود الرقابة وتقديم خلاصاتها للرأي العام بشفافية تامة مع التحرك على جبهة التصريح بالممتلكات، خصوصا في ظل تعثر إخراج قانون الإثراء غير المشروع إلى حيز الوجود.
خلاصة
ما يحدث داخل بعض الجماعات الترابية اليوم لا يتعلق فقط بسوء تدبير أو خروقات معزولة، بل بمنظومة تحتاج إلى إصلاح عميق يعيد الاعتبار لقيم المسؤولية والمحاسبة. وإلى أن يتم ذلك، تبقى المسؤولية السياسية والتشريعية قائمة لإعادة الثقة في تدبير الشأن العام المحلي. وستبقى التسريبات والمعطيات غير الرسمية المتنفس الوحيد للرأي العام للاطلاع على ما يجري خلف الأبواب المغلقة.