عبد العزيز كوكاس: أكتب كي لا أختنق.. والغزارة ليست تهمة بل حياة

عبد العزيز كوكاس: أكتب كي لا أختنق.. والغزارة ليست تهمة بل حياة عبد العزيز كوكاس (يمينا) وسعيد الوزان

ما يزال عبد العزيز كوكاس يُمسك بجمرة الكلمة. كاتبٌ قادم من زمن الأسئلة الصعبة، سليل القلق الجمالي والفكري، تشهد له افتتاحياته وتحليلاته المتميزة بقُدرة نادرة على قول الحقيقة دون أن تفقد اللغة بريقها، وكذا كتاباته الإبداعية المحتفى بها. ظل يتنقّل بين السرد، الشعر، الترجمة، النقد، الحكاية والتأملات دون أن يفقد عمق المعالجة بل أصبح هذا "التيه الإبداعي" جزءًا من مشروعه.

نُفتّش معه في هذا الحوار في طفولة المعنى، في دهشة البدايات، وفي صموده وسط العاصفة الرقمية، وفي سرّ ذلك الحضور الذي لا يخفت. ننصت لعبد العزيز كوكاس، لا كصحافي أو شاعر أو كاتب فحسب بل ككائن يعيش الكتابة بوصفها مكيدة للنجاة وشهادة على الخسارات العظمى.

 

تكتب بغزارة، ولك تعدد غريب في مجالات كتابتك، من الصحافة بكافة أجناسها إلى الشعر، الرواية، النقد والسينما إنجازا ونقدا... ألم تخَف على نفسك من التيه في هذه العوالم؟

ما عرفتُ شيئا في حياتي غير القراءة والكتابة والحب، فشلت في الموسيقى، انقطعت عن المسرح، نسيت براعتي في الرياضيات، والرياضة -خارج السباحة- لا أجيدها لأني إنسان خامل، طيلة مسار حياتي كنت أقرأ أو أكتب وأنا أمشي، وأنا جالس وأنا مستلق، في البيت، في البحر، في العطل، بالنهار وبالليل... فوجدتُ نفسي كائنا متعددا، وجنس صحافي أو أدبي أو فن واحد عاجز عن احتضان ما أفور به، أنا كاتب مُجتاز أعبر بين الحقول ولا أسكنها، لأن تجربتي لا تُختزل في زاوية واحدة بل هي تعدّدٌ يتجسد في تنوع الأشكال والمواضيع، أكتب لأنني لا أطيق الصمت، وأكتب كثيرًا لأن ما أعيشه وما أحسّه وما أفكّر فيه يفيض عن جنس وصنف واحد، وكل موضوع أكتبه ليس ترفًا بل يأتي من قلق وجودي أو فكري حقيقي. أكتب كثيرًا لأنني أعيش كثيرًا ولأنني لا أؤمن بالاقتصاد في الحب ولا في المعرفة.. أكتب كما أتنفس لأبقى على قيد الحياة. وقد أكون في كل هذا بصدد البحث عن كتاب واحد لم أهتد له بعد.

 

لكن نحن في زمن التخصص، والغزارة تؤدي إلى التسرع؟

يجب أن ننقض هذه المسلّمة الزائفة: الغزارة تعني التسرّع، هذه فكرة شائعة ولكنها لا تصمد أمام التحليل: فالغزارة ليست نقيضًا للجودة بل قد تكون شرطًا من شروطها. فكما أن الموسيقي أو الرسام أو المفكر لا يصير عميقًا من عمل واحد، كذلك الكاتب، هو ثمرة تراكم، اختبار، احتكاك مستمر بالمواضيع والأنماط. كما أن الغزارة الحقيقية تدل على قدرة خلاّقة عالية، وعلى شغف أصيل بالكتابة بوصفها أسلوب وجود لا مجرّد إنتاج. لأننا لا نتكلم عن إنتاج بغير معنى ولا بأي قيمة مضافة.

زد على ذلك أن العالم الآن يتطلب منك أن تكون كاتبًا متعدد الأبعاد لأن الأسئلة لم تعد أحادية. كما أن الغزارة والتعدد تعكس وعيًا بأن الحدود بين الأجناس المعرفية تنهار، فالأدب يدخل في السياسة، والفلسفة في السيرة، والنقد في الاعتراف، والشذرة في الشعر... وبذلك تغدو الكتابة الغزيرة استجابة وجودية لسؤال معقّد: كيف نعيش ونكتب في عالم متغير نحس كل يوم بأننا على شفير قيامته؟ بشرط أن نعي جيدا أن الغزارة ليست التكرار بل الرغبة في الحفر داخل الذات والعالم من زوايا متعدّدة.. وليست ضعف التركيز بل قوة الاحتمال والانفتاح على التجريب، تعني الغزارة أحيانًا أن الزمن ضيق والقول كثير، ولعل ما لم يُكتب أكثر ممّا يُنشر، لن أستشهد بابن رشد الذي كتب في الفقه والفلسفة والطب والفلك وعلم الكلام والترجمة، ولا بابن سينا الذي كتب في الفلسفة، الطب، الموسيقى، النفس، الكيمياء... ولا بأرسطو العظيم والجاحظ المتعدد، لأنك ستقول لي هؤلاء من زمن المثقف الموسوعي، أعطيك أمثلة لمعاصرين وفي مقدمتهم فيلسوف الغزارة، إذا صح القول، جيل دولوز الذي كتب في الفلسفة، السينما، السياسة، علم النفس، الموسيقى، الأدب... وإدوارد سعيد الذي كتب في الاستشراق، الموسيقى، الأدب، السياسة، التاريخ، النقد، السيرة، وكان غزير المقالات والمداخلات الفكرية، ولم يُعتبر مشتتًا بل موسوعيًّا. ولدينا بالمغرب عبد الفتاح كيليطو وعبد السلام بنعبد العالي على سبيل المثال لا الحصر...

من ينتقد الغزارة أحيانًا لا يفعل ذلك لأن الإنتاج ضعيف بل لأن الوتيرة تكشف تباطؤه. أو لأنه اعتاد على صورة الكاتب كـ"كائن غامض قليل الظهور"، بينما الكاتب الغزير يعيد تعريف حضوره كفاعل حي. تزعج الغزارة لأنها تهدّد الكسول والمحدود الأفق.


هل لا تزال الكتابة فعلًا ضروريًا في زمن اختلطت فيه الحقائق بالهذيان الجماعي؟
لا تستمد الكتابة، يا صديقي، ضرورتها من الزمن، بل من وجع الكائن، من خيبته، من حيرته. نحن لا نكتب لأن العالم واضح بل لأن هناك شيئًا لا يُفهم، لا يُقال، يُقاوم المعنى. كلما ازداد الضجيج، ازدادت الحاجة إلى النبر الداخلي، إلى كتابة تجعل الحبر دما ثانيًا.


تمارس الكتابة في "براد المخزن ونخبة السكر" كمن يحفر في الذاكرة المحرّمة. هل هي لعبة أم مواجهة؟
ليست لعبة ولا مواجهة.. هي رقصة على حدّ خطوط التماس. أن تكتب عن المخزن يعني أن تكتب عن الأشباح التي تسكن جلد الدولة، عن السلط التي لم تتخلّ عن طقوسها رغم تبدّل الأقنعة. أنا لم أفضح شيئًا، فقط وضعت الأضواء على الكواليس، حيث لا شيء بريئًا ولا أحد نقيًّا.

 

تبدو قصائدك في "رائحة الله" مشبعة برغبة ميتافيزيقية، لكنها تُروى بلسان جسد مجروح، متشظٍّ. من هو الله في هذه القصائد؟
الله رائحة. ليس صورة. ليس سيفًا ولا حكمًا. هو ما يتبقى حين نفقد الجميع. أبحث عنه بين طيّات الغياب، وألمس جلالته في التفاصيل الصغيرة: في قلب امرأة، في صمت مقبرة، في دمعة طفل، في خدّ زهرة، في خيبة عاطفية أحيانًا... تحاول قصائدي أن تعثر على الله حين يتعذر على الخطاب الديني أن يقدّمه.
ليس الله اسمًا في الكتب بل أثرٌ في الحواس وعمق متجلّ في الوجود. هو تلك الرعشة التي تصيب القلب في لحظة خذلان، تلك النار الهادئة التي تضيء لك الجمال. أنا لم أهرب من الله، بل من الذين يدّعون امتلاكه. كتبتُ "رائحة الله" حين ضاقت عليّ السماء، فصرت أستنشقها في تراب أمي، في أنين عاشقة، في ظلال الجدران التي تحفظ الأسرار.


بين الصحافي والشاعر والناقد والمحلل السياسي، أي الأقنعة تسكنك أكثر؟
لم أسكن قناعًا واحدًا، أنا أقيم في التجاور. كان السرد صحبة سرية، وكان الشعر مرآة، والصحافة أشبه بالمصيدة الكبرى... لكنّ كل هذا لم ينقذني من ذاتي. أنا أكتب لكي لا أضيع بين هذه الأدوار ولكي أحتفظ بشيء يشبه "الجوهر"، إن وُجد.

أنا لا أؤمن بالحدود بين الأجناس والفنون، أكتب ما يُلحّ عليّ، لا ما يُصنَّف. كانت الصحافة صراخي، وكان الشعر بكائي، والتأمل كان محاولتي للفهم. لكنّ كل هذه الأصوات تتقاطع في مكان واحد: رغبة مُلحّة في أن أترك أثرًا حقيقيًا. ليس على الورق فقط بل في الوجدان العام، في الذاكرة وفي العتمة المغرية.


من موقع من خَبِر الصحافة، واحتكّ بالسلطة، ولامس هشاشة الثقافة، كيف ترى اليوم موقع المثقف المغربي؟ هل لا يزال فاعلًا أم أنه انسحب في صمت رمادي؟
ربما فعل لأنه فهم متأخرًا أن الحقيقة لا تنفع في شيء، أو لأنه ذاق طعم العزلة... يعيش المثقف المغربي، في الغالب، داخل مفارقة: يعرف الكثير ولا يستطيع قول شيء، أو يقول كل شيء ولا يصدّقه أحد. بين مكر السلطة وخيبات التغيير، تحوّل إلى كائن رمادي، ساخر، مُحبط... لكنه لا يزال يكتب، رغم ذلك.
خسر المثقف المغربي، وهنا لا يجب أن نعمم فهناك يراعات استثنائية، قلت خسر شرعيته مرتين: حين صمت، وحين تكلّم بلغة لا تُشبه الجموع. هو ممزق بين الخوف من السقوط في الشعبوية والخوف من التجاهل الكامل. لقد أصبح، للأسف، مثل نبيٍّ بلا نبوءة، يرى، ولا أحد يصدّقه. يعيش المثقف في المغرب في "المنطقة الرمادية"، لا هو داخل السلطة ولا خارجها، لا هو في المعارضة ولا في المساندة... بل فيما يمكن تسميته حيادًا مريبًا.

لكن رغم كل هذا، لا أؤمن بسقوط الدور الثقافي. قد يتوارى، قد يتشوه، لكنه لا يُلغى. ربما لم يعد المثقف هو الذي يُحرّك الأحداث، لكنّه لا يزال من يُؤرّخ للألم ويكشف المخبّأ. وذلك، في نظري، أعمق من الفعل السياسي المباشر.


لو طلبت منك أن تختصر مشروعك كله في جملة واحدة؟
أكتب كي لا أُصاب بالخرس ولكي أترك أثرًا يشبهني في هذا الوحل الجميل..

 

لماذا تُصرّ على نبش الذاكرة السياسية المغربية، وأنت تعرف أنها كالجمر تحت الرماد؟
لأننا نعيش في وطن بلا أرشيف. لم أكن فضوليًا بل مهووسًا بالنجاة من النسيان. لا تُحاكم السلطة في المغرب على ما تفعل بل تُقدّس بالصمت. أنا أكتب ضد الصمت، أكتب لأقول إن ما خفي لم يكن أبدًا أنظف مما ظهر.. لم أكتب لأُعجب أحدًا بل لأُربّي في نفسي جرأة الهشاشة. أحيانًا أخاف من النص أكثر من السلطة، لأن النص يفضحك أمام نفسك.

 

ما الذي يؤلمك اليوم أكثر: بؤس السياسة أم تهافت الأصوات في الإعلام؟
يؤلمني أكثر تآكل المعنى، حين يُسحق المعنى لا تعوّضه أي بلاغة. يحز في نفسي أكثر أننا بتنا نعيش في عصر كثرة الأصوات وقلة الضمائر. تُستهلك الكتابة اليوم مثل القهوة السريعة. صار الكاتب مؤثرًا، وصار الشاعر يوتيوبرًا. أخشى أننا بدأنا نضحك من كل شيء لأننا خسرنا القدرة على البكاء على أي شيء.


يتسرّب الموت كثيرًا إلى كتاباتك وتأملاتك خاصة في "الصحو مثير للضجر" و"حبل قصير للمشنقة"، وكتابك الأخير "لو يخجل الموت قليلا"، كأنّه شرط للمعنى. كيف تقيم علاقتك بالموت؟
أنا أكتب بالموت لا ضده. ليس الموت عندي حدثًا بيولوجيًا بل تجربة وجودية. إنه ذلك الشعور اليومي بأن شيئًا فيك ينكسر، يتآكل، يتلاشى، وأنت صامت وكل كتابة حقيقية هي قفزة في الفراغ. في "لو يخجل الموت قليلا"، لم أُرِد أن أرتّب العزاءات بل أن أستدعي الله في غياب اليقين. وفي السياسة، لا يوجد الموت فقط في الاغتيال أو المنفى بل في القتل البطيء للمعنى. أنا لا أهاب الموت بقدر ما أهاب التفاهة. قد يكون الموت الطبيعي جميلًا أما الموت البطيء في حياة بلا معنى، فهو أقسى من أي موت. لهذا أكتب كمن يبحث عن جملة واحدة أنجو بها من العدم.

 

تكتب بحسّ لغوي خاص، يدمج السياسي بالشعري، واليومي بالفلسفي. هل هذه استراتيجية أم طبيعة؟
ربما الاثنان معًا. أؤمن أن اللغة ليست مجرد وسيلة، بل كائن حيٌّ يحمل رؤيتك للعالم. حين تكتب بلغة فقيرة، فأنت تُفقّر الواقع. الصحافي الذي لا يتقن أدوات اللغة مثل الذي يدخل معركة بلا سلاح. أنا أقرأ الشعر لأكتب الافتتاحية، وأستلهم من الصوفية كي أكتب في السياسة.

الكتابة عندي هي فن الإنصات للبنية العميقة للأشياء، لذلك تصلني بعض انتقادات زملاء لي بكوني "أتفلسف في كل شيء"، وربما لهذا السبب استمرت مقالاتي في الحياة حتى تلك التي كتبتها قبل 30 عاما، وها أنا أُخرجها في سلسلة "أحلام غير منتهية الصلاحية" التي وصلت إلى الجزء الخامس حتى الآن، ولغتي تسعى دائما لتكون أكثر من مجرد أداة: أن تكون طقسًا، طعنة، أو حضنا حسب المقام.


لو قدر لك أن ترسم صرختك الأخيرة، ماذا ستكتب على الجدار الأخير؟
سأكتب: "هنا عبَر إنسان، لم يكن نبيّا ولا قديسًا، فقط كان يحب المعنى كما يُحب العشّاق ظلّ الحبيبة."