الأعراس المغربية بين الاستعراض الاجتماعي وفقدان المعنى.. قراءة في طقس متحوّل

الأعراس المغربية بين الاستعراض الاجتماعي وفقدان المعنى.. قراءة في طقس متحوّل العرس المعاصرتحول من المعنى إلى الاستعراض

تُعدّ الأعراس المغربية اليوم فضاءً بالغ الدلالة لفهم ديناميات التحول داخل البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمع المغربي، حيث أصبحت تمثل مرآة تعكس التناقضات العميقة التي تَسمُ هذا الواقع. فهي ليست مجرد مناسبات احتفالية، بل منظومة مركّبة من الطقوس والسلوكيات والتمثلات، تكشف عن ذهنية جماعية ما زالت مشدودة إلى التقاليد، رغم استعارتها المكثّفة لمظاهر الحداثة. هذا التداخل يُنتج تركيبة هجينة، لا تنتمي بالكامل إلى الماضي، ولا تستقر تمامًا ضمن أفق الحاضر، ما يجعل العرس المغربي المعاصر مجالًا للتفاوض الرمزي بين القديم والجديد. ورغم ما تشهده هذه الطقوس من تحوّلات شكلية على مستوى المظاهر، فإنها تواصل إعادة إنتاج بنى تقليدية راسخة في العمق، ما يُبرز مفارقة لافتة بين التغير السطحي والاستمرارية البنيوية. ويتجلّى ذلك في الترتيبات المرهقة التي تُصاحب إقامة العرس، والتنافس الاجتماعي المحموم الذي يطبعها، حيث تُوظّف المظاهر الباذخة كوسائل رمزية لإبراز الفوارق الطبقية والمكانة الاجتماعية، سواء كانت واقعية أو متخيلة. وفي هذا السياق، يبدو أن الدلالة الأصلية للعرس، بوصفه احتفالًا جامعًا ببناء وحدة أسرية، قد تراجعت لصالح منطق الاستعراض، لتغدو هذه المناسبات واجهات جوفاء من المعنى، تُخفي خلفها تحوّلات سوسيو-ثقافية عميقة. هكذا، تتوارى القيم الرمزية التي كانت تمنح الأعراس المغربية عمقها ودلالتها لصالح رموز جديدة تكتسب قداسة مستحدثة داخل المخيال الجمعي، دون أن تخضع للمساءلة أو التفكيك. ومن هذا المنظور، يفرض السؤال نفسه بإلحاح: هل نحن أمام تشكّل ثقافة عرسية جديدة تعبّر عن تحوّل حقيقي في الذهنيات وأنماط التمثّل؟ أم أننا بصدد ترميم سطحي لطقس تقليدي فقد أصالته، ولم يعثر بعد على شكله المعاصر المستقر؟

تاريخ السوسيولوجيا الكولونيالية ودراسة الزواج الإسلامي:

لقد حظي الزواج الإسلامي في المغرب وطقوس الاحتفال به باهتمام خاص من قبل السوسيولوجيا الكولونيالية، التي اعتبرته مدخلًا لفهم البنية الاجتماعية وأداة لضبط المجتمع والتحكم فيه. شكّلت مدينة طنجة مختبرًا ميدانيًا لهذا الاهتمام، إذ نشرت مجلة "الأرشيف المغربي" في عددها الأول (مارس 1904)، بإشراف عالم الاجتماع الفرنسي إدوارد ميشو بيلير، دراسة مفصلة عن الزواج لدى المسلمين في طنجة، اعتمدت على الملاحظة الدقيقة للطقوس، وسعت إلى فهم ذهنية الإنسان المغربي وأنماط تفكيره. صحيح أن هذا الاهتمام كان مدفوعًا بدوافع استعمارية تهدف إلى بناء جهاز مفاهيمي لتوظيفه في التحكم بالمجتمع. لكن لا يمكن إنكار أن تلك المقاربات الكولونيالية كانت تتميز بالصرامة المنهجية والجدية، مما يطرح تساؤلًا حول مدى إنتاجنا، بعد الاستقلال، سوسيولوجيا مغربية قادرة على مواكبة التغيرات العميقة التي مست نسيجنا المجتمعي؟ وهل رصدنا بالفعل التحولات التي طالت الطقوس الاحتفالية الخاصة بالزواج، أم بقينا أسرى عموميات لم تعد تلتقط نبض الواقع؟

مقاربات نظرية لفهم أعراس المغاربة:

منذ ستينيات القرن الماضي، بدأت تتشكل سوسيولوجيا مغربية وأنثروبولوجية تسعى إلى قراءة العرس بما هو أكثر من احتفال، باعتباره بنية دالة، ومسرحًا للتفاوض الاجتماعي، وحقلًا لإنتاج السلطة والرمز. في هذا الإطار، قدّم بول باسكون مقاربة بنيوية للزواج القروي، اعتبر فيها أن العرس ليس حدثًا فرديًا بل أداة لإعادة إنتاج البنية الاجتماعية وضبط آليات الإرث والتحالف الطبقي. ورأى إرنست غيلنر في طقوس الزواج داخل المجتمعات الأمازيغية آلية لتثبيت الانتماء الهوياتي وترسيم الحدود الرمزية داخل القبيلة، في علاقة جدلية مع السلطة والمقدس. أما عبد الله حمودي فقرأ الزفاف بوصفه "طقس عبور" يعيد إنتاج علاقات السيطرة والتراتبية، مسلطًا الضوء على رمزية "السيد والمريد". بينما قدّمت فاطمة المرنيسي منظورًا نسويًا نقديًا رأت فيه أن الجسد الأنثوي في العرس يُعاد تقديمه كموضوع للعرض، رغم مظاهر التحديث. بدوره، درس رحال بوبريك أعراس الصحراء بوصفها أداة لصياغة الانتماء الجماعي، من خلال الغناء واللغة والزينة. ورغم اختلاف مناهج هؤلاء، فإنهم يتفقون على أن الزفاف المغربي، في جوهره، لا ينفصل عن التوازنات الاجتماعية، ولا عن الرموز التي تهيكل العلاقات بين الأفراد. وهنا يطرح التساؤل: هل ما زالت هذه الوظائف قائمة اليوم، أم أننا أمام نسخة حديثة مفككة المعنى، مأخوذة بسطوة الصورة؟

العرس المعاصر: تحول من المعنى إلى الاستعراض:

إذا كانت أعراس الأمس لحظة جماعية مشبعة بالرموز، ومناسبة لبناء الروابط العائلية وتبادل المعونة، فإن أعراس اليوم باتت أقرب إلى عرض بصري ضخم، يُقاس نجاحه بمدى الإبهار لا بعمق المعنى. والسؤال الجوهري هنا: هل أصابت التغيرات قلب الطقس وأعادت صياغة مضامينه، أم أنها اكتفت بإلباسه قناعًا عصريًا يخفي تحت ملامحه موروثًا لم يتغير في جوهره؟

يشي المشهد المعاصر بأن العرس المغربي تحوّل إلى مسرح للاستعراض الاجتماعي أكثر منه احتفالًا ببدء حياة زوجية. أصبحت القاعات الفخمة وألوان الإضاءة والديكورات المصممة على الطراز العالمي وموائد الطعام المبالغ في تنوعها، عناصر أساسية، لا بوصفها مكمّلات بل باعتبارها معيارًا للحكم على نجاح العرس أو فخامته. في ظل هذا المنطق، صارت طقوس العرس خاضعة لهيمنة مقاولات الخدمات التي تتكفل بكل تفاصيل الحفل، من ديكور القاعة إلى جلسات التصوير الاحترافية، مرورًا بالفرق الموسيقية والمطربين والمطربات. غير أن هذه الخدمات لا تكتفي بتأطير الحفل، بل تعيد صياغته بالكامل وفق منطق السوق، حيث تتحول "الفرحة" إلى سلعة لها ثمن محدد، و"المكانة" إلى منتج جاهز للتسويق. هذا التحول لم ينفصل عن صعود ثقافة الصورة، إذ لم يعد العرس حدثًا يُعاش فقط في حضوره، بل يُنتَج أيضًا من أجل التوثيق والنشر على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يصبح الفيديو الدعائي للزفاف جزءًا من الحفل نفسه، وأحيانًا أهم من التجربة الفعلية للحاضرين. وبهذا، تُختزل رمزية الزواج في مشهد استهلاكي صاخب، تُقاس قيمته بمدى قابلية مشاركته على المنصات الرقمية، لا بمدى ما يخلّفه من معنى في ذاكرة الأفراد. لكن خلف هذا البريق، تتوارى أحيانًا مظاهر أقل بهاءً: أصوات الموسيقى المرتفعة حتى ساعات متأخرة، ومواكب سيارات تحتل الطرقات وتطلق المنبهات بلا توقف، وسلوكيات مرورية تعرض حياة الآخرين للخطر. هنا يتجاوز الأمر حدود الذوق إلى حدود القانون، ليطرح سؤالًا أوسع: هل الحداثة في الزفاف هي حقًا تقدم في الثقافة المدنية، أم مجرد فوضى مغطاة بالديكور؟

من التضامن الجماعي إلى الخدمات التجارية:

في الماضي، كان تنظيم العرس المغربيي قوم على شبكة متينة من التضامن العائلي والجماعي. الجيران والأقارب والأصدقاء يتقاسمون المهام: إعداد الطعام وتزيين الفضاء واستقبال الضيوف، وحتى مرافقة العروس أو العريس في طقوس الانتقال بين البيوت. كان هذا العمل الجماعي يعزز الروابط ويخلق إحساسًا بالانتماء إلى مجتمع يتشارك الفرح كما يتشارك الأعباء. لكن مع تحولات العقود الأخيرة، انسحب هذا التضامن أمام صعود المقاولة المتخصصة في تنظيم الحفلات. لم يعد حضور الجار ضروريًا، ولا تعب أفراد العائلة جزءًا من "حق العرس"، بل أصبح المال هو الوسيط الأساسي: تدفع الحصول على الخدمة مقابل الدفع المسبق. هذا التحول جعل الحفل أكثر دقة في التنظيم، لكنه أفقده دفء المشاركة الإنسانية، وحوّل العرس من مناسبة جماعية إلى مشروع تجاري يشتغل بعقلية الربح والخسارة. حتى تفاصيل صغيرة كانت تُنجز بالمحبة، مثل إعداد الحلويات أو خياطة اللباس التقليدي، أصبحت تُشترى جاهزة أو تُؤجر كجزء من "عرض متكامل" للحفل. وبقدر ما ساهم هذا التغيير في رفع مستوى الإبهار البصري، فإنه قلص مساحة الروح الجماعية، واستبدلها بمنطق الزبون والمزود. في المحصلة، لم يعد السؤال: "من ساعدك في تحضير العرس؟"، بل "كم كلفك العرس؟".

المرأة كموضوع للعرض والاستعراض:

لطالما كان العرس المغربي، في جانبه الأنثوي، فضاءً تتجلى فيه المرأة بوصفها محور الطقس وزاويته. غير أن المشهد الحديث كشف عن منافسة جديدة بين المرأة التي تحتفل بزفافها أو بزفاف أحد أقاربها، وبين المرأة الأخرى التي تُستدعى لتضفي على الحفل لمسة من "الاحتراف الجمالي" — سواء كانت خبيرة ماكياج، أو مصممة أزياء، أو مؤدية عروض غنائية أو فولكلورية. في هذا الترتيب الجديد، لم تعد العروس وحدها مركز الانتباه المطلق، بل تتقاسم الأضواء مع "النجوم المستأجرة" للحفل، ممن يصنعن لحظة بصرية خاطفة لكن باهظة الكلفة. وبعض هذه الوجوه قد يطغى حضورها في ذاكرة الحاضرين على حضور العروس نفسها، خاصة حين تتحول صورها وفيديوهاتها إلى أيقونات على مواقع التواصل الاجتماعي. هذا التحول لا ينفصل عن ثقافة السوق، حيث تتداخل معايير الجمال مع مقاييس العرض، وحيث تتحول الأنوثة من تعبير شخصي إلى منتج مُصمَّم وفق ذوق استهلاكي. وهكذا، يتزحزح المعنى الرمزي للعرس من كونه إعلانًا عن بداية حياة مشتركة، إلى كونه منصة عرض لمنتجات وخدمات جمالية تُستهلك في ليلة واحدة، لكنها تترك أثرًا طويلًا على صورة المرأة في المخيال الاجتماعي.

فوضى التغيّرات: من العشوائية الرمزية إلى التعدي على المجال العام:

ما نراه اليوم في بعض الأعراس المغربية لا يعكس دائمًا مسارًا نحو التمدن، بل يكشف أحيانًا عن حالة من الفوضى الاجتماعية التي ترتدي قناع الحداثة. لم يعد الطقس العرسي مقتصرًا على فضائه الخاص، بل تمدد إلى المجال العام على نحو يخرق أعراف العيش المشترك والقوانين المنظمة له. قاعات الحفلات تُقام أحيانًا وسط أحياء سكنية مكتظة، فتتحول ليالي الصيف إلى سباق صاخب بين مكبرات الصوت وصرخات الجيران الباحثين عن لحظة نوم. أصوات الموسيقى لا تتوقف إلا مع بزوغ الضوء، إلا في حالات نادرة، وكأن الحق في الاحتفال يبرر الإضرار براحة مئات الأشخاص من غير المدعوين. أما مواكب العرسان، التي كانت في الماضي لحظة احتفاء رمزية تتسم بالوقار، فقد تحولت في بعض الحالات إلى استعراض صاخب على الطريق العام: مواكب سيارات تطلق المنبهات بشكل هستيري، وتسير أحيانًا في الاتجاه المعاكس، أو بسرعة مفرطة داخل المدار الحضري، معرضة المارة ومستعملي الطريق للخطر، في إخلال واضح بقانون السير. يحدث ذلك وسط نوع من التواطؤ الاجتماعي الصامت، ومن السلطات، حيث يُبرر السلوك الجماعي هذه الأفعال بوصفها "جزءًا من الفرحة"، متناسين أن القانون يعاقب عليها، وأنها في جوهرها تعبير عن لا مبالاة بحقوق الغير وبالمجال العام. بهذه الممارسات، ينزاح العرس من كونه طقسًا اجتماعيًا إلى كونه حدثًا فوضويًا يختبر قدرة المجتمع على احترام القانون. إنها لحظة تكشف عن فجوة بين الشكل الحديث الذي نلبسه لاحتفالاتنا، وبين القيم المدنية التي يُفترض أن ترافق أي تحول نحو الحداثة الحقيقية.

خاتمة:

إن تتبّع تحوّلات الأعراس المغربية يكشف عن مسار معقّد، تتداخل فيه عناصر التحديث مع أنماط عميقة من إعادة إنتاج التقليد. فالمظاهر التي قد تبدو من سطحها حداثية – من قاعات فاخرة، وطقوس باذخة، وتقنيات تصوير متطوّرة – لا تعكس بالضرورة قطيعة مع الماضي، بل كثيرًا ما تُخفي وراءها استمرارًا لبُنى رمزية واجتماعية تقليدية، تُعيد إنتاج نفسها بأقنعة جديدة. لقد تحوّل العرس المغربي، في صيغته المعاصرة، إلى مساحة صاخبة للاستعراض الطبقي والتمايز الاجتماعي، على حساب معناه الأصلي كطقس جماعي مشبع بالدلالة والارتباط العاطفي والرمزي. كما أظهرت فصول هذا المقال، فإننا لسنا بالضرورة أمام ولادة ثقافة عرسية جديدة بقدر ما نحن أمام مشهد انتقالي مضطرب، تُعيد فيه السوق تشكيل الطقس وفق منطق الربح، وتُعلي فيه وسائل التواصل من شأن الصورة على حساب المعنى، بينما تتوارى فيه القيم التضامنية والتشاركية التي شكّلت في الماضي جوهر المناسبة. وبين ماضٍ مُثقل بالتقاليد وحاضر مأخوذ بسطوة المظاهر، يظل العرس المغربي لحظة غنية بالأسئلة: عن الهوية، والتمثلات، والعلاقات الاجتماعية، والذوق، والمجال العام. وهي أسئلة لا يمكن حسمها إلا من خلال دراسات ميدانية مستمرة، تُنصت إلى الناس لا إلى الصور، وإلى المعاني لا إلى الأضواء.