أولاً: خلفية القرار وسياقه الدستوري
قرار المحكمة الدستورية جاء في سياق إحالة مشروع قانون المسطرة المدنية، الذي يُعدّ ركيزة حيوية لتنظيم سير العدالة الإجرائية في المادة المدنية في المغرب. ارتكزت المحكمة في قرارها على مجموعة متكاملة من الفصول الدستورية، أبرزها الفصل 1 الذي يؤكد على أن القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة، والفصل 117 الذي يحصّن القاضي في حماية حقوق الأشخاص وأمنهم القضائي، فضلًا على الفصل 126 الذي يُقر حجية الأحكام النهائية. كما اعتمد القرار على مضمون الفصل 120 الذي يضمن حقوق الدفاع أمام جميع المحاكم. تشكل هذه المواصفات الدستورية إطارًا صلبًا لحماية التوازن بين السلطة القضائية والسلطتين التشريعية والتنفيذية، خاصة في ظل مبدأ فصل السلط الذي يشكل الضامن الأساسي لاستقلال السلطة القضائية. نبهت المحكمة إلى ضرورة الالتزام بهذه المبادئ في تشريع قانون المسطرة المدنية، لما له من أثر مباشر على الحقوق والحريات وضمانات المحاكمة العادلة.
ثانيًا: أسباب عدم دستورية مواد المشروع
قررت المحكمة بعد دراسة معمقة بعدم مطابقة مواد مركزية للدستور من شأن الإبقاء عليها التأثير بشكل مباشر على ضمانات حقوق المتقاضين أثناء الممارسة القضائية، والتي من أبرزها:
1- المادة 17 (الفقرة الأولى): تنص هذه الفقرة على أن النيابة العامة المختصة يمكنها، وإن لم تكن طرفًا في الدعوى، وبدون التقيد بآجال الطعن المعتادة، طلب التصريح ببطلان أي مقرر قضائي مخالف للنظام العام داخل أجل خمس سنوات من حيازته لقوة الشيء المقضي به. المحكمة الدستورية أكدت أن هذا النص يمس مبدأ الأمن القضائي، إذ لا يجوز التصريح ببطلان المقرر القضائي الحائز لقوة الشيء المقضي به إلا من قبل السلطة القضائية، وفق شروط قانونية مضبوطة. كما أشارت إلى أن النص يمنح النيابة العامة سلطة تقديرية واسعة وغير محدودة بدون ضوابط موضوعية واضحة، وغياب تحديد حالات معينة لاستخدام هذه الصلاحية يعد إخلالًا بالتوازن الدستوري بين السلطات وينافي مبدأ استقلال القضاء وحجية الأحكام النهائية.
2- المادة 84 (الفقرة الرابعة) والمقتضيات المتعلقة بها: تسمح هذه الفقرة للمكلف بالتبليغ، عند عدم العثور على المطلوب تبليغه، بتسليم الاستدعاء لمن يثبت وكالته أو عمله لفائدته، أو لمن يقطنه من الأزواج أو الأقارب أو الأصهار الذين بلغوا سن السادسة عشر، بشرط عدم تعارض مصالحهم مع مصلحة المطلوب تبليغه. المحكمة أكدت أن هذه الصيغة ترفع العبء على المكلف بالتبليغ لاتخاذ قرارات بناءً على الشك والتخمين بدل الجزم واليقين، مما يخل بمبدأ الأمن القانوني وحقوق الدفاع المكفولة دستورياً، ويجعل التبليغ عرضة للشك وعدم اليقين، واعتبرت المواد المرتبطة بهذه الفقرة مخالفة للدستور.
3- المادة 90 (الفقرة الأخيرة): تنص على إمكانية حضور الأطراف أو من ينوب عنهم الجلسات المنعقدة حضورياً أو عن بعد بأمر من المحكمة، دون تنظيم واضح وشروط محددة لهذا الحضور عن بُعد. المحكمة أوضحت أن الدستور لا يمنع الحضور عن بعد لكن يشترط احترام ضمانات حقوق الدفاع وعلنية الجلسات، تشمل التواصل المتزامن، وسرية البيانات، وتنظيم حالات انقطاع التواصل، مما لم تتضمنه المادة، فكانت غير مطابقة للدستور.
4- المادتان 107 (الفقرة الأخيرة) و364 (الفقرة الأخيرة): تواصلا حرمان الأطراف أو وكلائهم من التعقيب على مستنتجات المفوض الملكي للدفاع عن القانون والحق، وهو ما يعد انتهاكًا لحقوق الدفاع ومبدأ التواجهية، حيث تضمن مقتضيات الدستور حق الأطراف في الرد والتعقيب على تلك المستنتجات. فاعتبرت المحكمة الدستورية في قرارها المذكور هذه الفقرات مخالفة لمقتضيات الدستور.
5- المادة 339 (الفقرة الثانية): تشير إلى عدم إلزامية تعليل القرارات في حالة رفض طلب التجريح، بينما الدستور يشترط تعليل جميع الأحكام بشكل لا يحتمل الاستثناء، ما يجعل هذه الفقرة مخالفة لمقتضيات الدستور المتعلقة بحقوق الأطراف في معرفة أسباب القرارات القضائية.
6- المادتان 408 (الفقرة الأولى) و410 (الفقرة الأولى): تناولت هاتين المادتين منح وزير العدل أو الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض حق تقديم طلبات الإحالة بخصوص تجاوز القضاة لسلطاتهم أو التشكك المشروع، وهذا يتعارض مع مبدأ استقلال السلطة القضائية وفصل السلط، حيث إن الوزير عضو في الحكومة ويمارس السلطة التنفيذية، ولا يجوز له التدخل بهذا الشكل في الشؤون القضائية. المحكمة قضت بعدم دستورية هذه الفقرات.
7- المادتان 624 (الفقرة الثانية) و628 (الفقرتان الثالثة والأخيرة): تنص المواد على أن وزارة العدل تتولى تدبير النظام المعلوماتي القضائي وتعيين القضاة إلكترونياً، مع التنسيق مع المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، وهذا خرق لمبدأ الفصل بين السلط واستقلال القضاء، حيث يجب أن يتم تدبير النظام المعلوماتي القضائي حصرياً من قبل السلطة القضائية لتعزيز استقلالها وحماية حيادها. المحكمة قضت بعدم دستورية هذه المواد وأكدت وجوب إعادة تنظيم هذه الصلاحيات بما يحفظ استقلال القضاء.
من خلال هذه الملاحظات، أظهرت المحكمة ضرورة صياغة نصوص قانونية دقيقة، تراعي التوازن بين حماية النظام العام وحقوق الأطراف، وتدقق في صياغة اختصاصات الأجهزة القضائية والتنفيذية ضمن نطاق دقيق.
ثالثًا: أثر القرار على العمل القضائي والمنظومة القانونية
كان قرار المحكمة مليئًا بالدلالات القانونية والمؤسساتية، إذ إنه لم يلغ مواد مجتزأة فقط، بل أفصح عن خلل عميق في بناء النص التشريعي، حيث تكتنف تلك المواد منظومة مترابطة لا تحتمل الاجتهادات الواسعة أو الغموض في تحديد الاختصاصات. من الناحية العملية، يظل قانون المسطرة المدنية القديم ساريًا حتى إتمام مراجعة شاملة للمشروع وأخذه بعين الاعتبار المتطلبات الدستورية التي أرستها المحكمة. يمثل هذا القرار إشارة إلى ضرورة تعزيز ثقافة التشاور مع الفاعلين القضائيين، من قضاة ومحامين وخبراء، ضمانًا لوصول التشريع إلى مستوى قانوني وتقني يليق بالتحديات المتجددة. كما يرسخ القرار مفهوم استقلال القضاء وتحصين حق الدفاع من أي تدخلات أو ضغوط خارجية، خصوصًا فيما يتعلق بمسائل التبليغ وتنظيم الجلسات والإدارة الرقمية للمساطر.
رابعًا: استشراف منطلقات قانون مسطرة مدنية مستقبلية يلبي تطلعات العدالة المغربية
تفرض هذه المخرجات على المشرع المغربي أن يعيد النظر في قانون المسطرة المدنية وفق معايير واضحة ومتينة تسعى لتحقيق:
* ضمان الأمن القضائي من خلال وضع ضوابط دقيقة لصلاحيات النيابة العامة، بحيث لا تخلّ بحجية الأحكام النهائية، مع احترام الحماية الدستورية للمكاسب القضائية المتحققة. * إرساء نظام تبليغ قضائي يعتمد على الجزم واليقين، بعيدًا عن التخمين أو الإجراءات الظنية، لتعزيز حق الدفاع وحق المواجهة وتمكين الأطراف من متابعة قضيتهم بكفاءة. * حماية استقلالية القضاء في إدارة العدالة الرقمية، بما يشمل التسيير الإلكتروني للمساطر القضائية، وعدم إفساح المجال للسلطة التنفيذية بالتدخل في تدبير هذه الأنظمة. * توسيع المشاركة التشاورية للشركاء القضائيين والمجتمع المدني المهني لتقوية صياغة قوانين تعكس خبراتهم العملية، وتراعي خصوصيات الممارسة القضائية، بما يؤهل العدالة لتحديات العصر، الرقمي والاجتماعي. * اعتماد منهج إصلاحي متدرج ودقيق، يستوعب المتطلبات الدستورية دون تسرع أو حلول مؤقتة، مع الحرص على المرونة التشريعية التي تسمح بالتفاعل الإيجابي مع محيط العدالة الديناميكي.
ختاماً، فقرار المحكمة الدستورية بخصوص مشروع قانون المسطرة المدنية هو بمثابة إضاءة على ضرورة بناء قانون إجرائي يعكس مرتكزات العدالة الحديثة القائمة على الحماية الدستورية لحقوق المتقاضين واستقلالية السلطة القضائية. يمثل هذا القرار دعوة وطنية لتأسيس عقد قضائي جديد يرتكز على مشاركة حقيقية ووعي مهني رصين، يمكن من خلاله تطوير مسطرة مدنية تستجيب فعلاً لمتطلبات الوطن في ظل دولة الحق والقانون. يبقى الطريق أمام المشرع والفاعلين القضائيين مفتوحًا لإنتاج قانون متوازن، حداثي ومستدام، يقود العدالة المغربية إلى مزيد من الثقة والفعالية، ويجسد منجزاتها الدستورية في ممارسة يومية.
كريم الشرايبي، رئيس المنتدى المهني للحوكمة والابتكار القانوني