الخبشي: تاونات تتحول لساحة حرب كلامية بين "الحمامة" و"المصباح" بعيدا عن هموم الساكنة

الخبشي: تاونات تتحول لساحة حرب كلامية بين "الحمامة" و"المصباح" بعيدا عن هموم الساكنة عبد العزيز الخبشي
يستعرض عبد العزيز الخبشي، الكاتب والمحلل السياسي، تجليات صراع سياسي محلي في إقليم تاونات بين حزب التجمع الوطني للأحرار وحزب العدالة والتنمية، وهو صراع يعكس التوترات الوطنية بين الحزبين، حيث يدور النقاش حول الإنجازات والاتهامات، لكنه يغفل مشاكل التنمية الحقيقية في الإقليم مثل البنية التحتية والماء والصحة. ويتحدث الخبشي عن كون هذا الصراع تحوّل لمعركة كلامية بعيدًا عن حل مشاكل الناس الحقيقية.
 

من يقرأ السجال القائم بين محمد السلاسي، المنسق الإقليمي للتجمع الوطني للأحرار بتاونات ورئيس مجلسها الإقليمي، وعلي العسري، الأمين الإقليمي لحزب العدالة والتنمية، يدرك سريعاً أن ما جرى ليس مجرد تبادل للآراء السياسية، بل انعكاس لصراع أكبر يتجاوز حدود الإقليم ليعكس التوتر القائم بين الحزبين على الصعيد الوطني.

ففي الوقت الذي اصطف فيه السلاسي مدافعاً عن عزيز أخنوش ومهاجماً “المصباح” عبر مقال سياسي مشحون بالمقارنات التاريخية والدعاية المضادة، جاء رد العسري محملاً بخطاب مضاد يعيد رسم صورة العدالة والتنمية كحزب الإصلاح والنزاهة، محملاً الأحرار وزعيمهم مسؤولية الإخفاقات الراهنة.

إقليم تاونات، بطابعه القروي، وبتأخره المزمن في مؤشرات التنمية، ليس ساحة هامشية في المشهد السياسي، بل مختبر حقيقي لفهم كيف تنعكس الصراعات الوطنية على الحقل المحلي. هنا، يتداخل السياسي بالاجتماعي، وتصبح مواقف القيادات الحزبية جزءاً من معركة رمزية حول “من يملك خطاب المصداقية” ومن يملك القدرة على استقطاب الناخبين في الاستحقاقات المقبلة.

خطاب السلاسي اعتمد على ثلاثة مرتكزات أساسية: أولاً، تشويه صورة العدالة والتنمية من خلال ربطه بأسلوب “غوبلز” في الدعاية النازية، وهي مقارنة تحمل شحنة أخلاقية قوية تهدف إلى نزع الشرعية عن خصم سياسي عبر ربطه بالكذب والتضليل. ثانياً، إبراز ما يراه “إنجازات” حكومة أخنوش وحزبه في إطار الدولة الاجتماعية، مستنداً إلى خطاب التماهي مع التوجيهات الملكية، وهي استراتيجية خطابية تمنح حزبه غطاء شرعياً ووطنياً. ثالثاً، محاولة تصوير المعركة ضد أخنوش كجزء من حملة سياسية مغرضة تستهدف ضرب الحزب ورموزه استعداداً للانتخابات المقبلة.

لكن هذا الخطاب، حين يوضع تحت المجهر النقدي، يظهر أنه يعكس استراتيجية دفاعية أكثر مما يعكس هجوماً واثقاً. فإحالة السلاسي على “نجاحات” الحكومة الحالية تتجاهل مؤشرات اقتصادية واجتماعية متراجعة مسجلة في تقارير رسمية ودولية، وهو ما يمنح لخصومه فرصة الطعن في خطابه باعتباره انتقائياً أو مبهماً. كما أن تصوير العدالة والتنمية كخصم وحيد، في ظل وجود أكثر من ثلاثين حزباً، يوحي بأن الحزب الإسلامي لا يزال يشكل تهديداً انتخابياً فعلياً للأحرار، رغم الهزيمة المدوية في انتخابات 2021.

في المقابل، جاء رد علي العسري ليعتمد على استراتيجية خطابية مضادة تقوم على ثلاثة محاور: أولاً، استدعاء الذاكرة الشخصية والعلاقة السابقة مع السلاسي لإبراز تناقضاته وتحولاته في الموقف من العدالة والتنمية، بما يشي أن الأمر مرتبط بحسابات حزبية داخلية أكثر منه بقناعة سياسية. ثانياً، توظيف الأرقام والمؤشرات الإيجابية خلال فترة حكم العدالة والتنمية (كارتفاع نسب النمو، إطلاق برامج اجتماعية، وإنجاز بنى تحتية كبرى) لمقارنة “الإنجازات” بين الأمس واليوم. ثالثاً، تسليط الضوء على ملفات الفساد وارتفاع عدد المنتخبين المعتقلين من صفوف الأحرار، كوسيلة لتقويض خطاب “النزاهة” الذي يسعى الحزب إلى تبنيه.

رد العسري لم يكتف بالمرافعة عن حزبه، بل حاول إعادة صياغة الصراع باعتباره مواجهة بين مشروعين: “مشروع إصلاحي” تمثله العدالة والتنمية حتى في المعارضة، و”مشروع مصلحي” يمثله الأحرار، وفق توصيفه، الذي حوّل السياسة إلى مجال للريع الانتخابي واستغلال النفوذ. لكن رغم قوة الحجة الرقمية في رده، فإن هذا الخطاب يظل حبيس النبرة الدفاعية التي تسعى إلى تبرئة الذات أكثر من تقديم بديل واضح المعالم للمستقبل.

عند ربط هذا السجال بالسياق الوطني، نلحظ أن التوتر بين الحزبين له جذور ممتدة. فالعدالة والتنمية، منذ هزيمته في 2021، يرى أن القانون الانتخابي المعدل وتدبير العملية الانتخابية أسهما في تقليص تمثيله بشكل غير عادل، بينما الأحرار يعتبرون أن فوزهم الكاسح كان ثمرة عمل تنظيمي واستراتيجي ناجح. وفي ظل هذه الخلفية، أي خطاب يصدر عن أحد الطرفين ضد الآخر يقرأ دوماً في ضوء المعركة الانتخابية المقبلة، لا سيما مع اقتراب الاستحقاقات التشريعية لعام 2026.

إقليمياً، تاونات تعاني من إشكالات بنيوية في البنية التحتية، الماء، الصحة، والتعليم، وهي ملفات تضع رؤساء المجالس الإقليمية والجماعية تحت ضغط مستمر. وهنا، يكتسب السجال بين السلاسي والعسري بعداً إضافياً: فالأول يُسأل عن حصيلة تدبيره المحلي، والثاني يذكره بمؤشرات التنمية المتدنية للإقليم كمقياس على فعالية قيادة “الحمامة” في المنطقة. بهذا المعنى، المعركة ليست فقط حول “من كذب ومن صدق” في الخطاب السياسي، بل أيضاً حول من أنجز فعلاً على الأرض.

إذا طبقنا منهج التحليل النقدي السياسي على النصين، نخلص إلى أن كلا الخطابين يعاني من إشكالات مشتركة:

- الانتقائية في عرض الوقائع: كل طرف ينتقي المؤشرات التي تخدم روايته، متجاهلاً ما قد ينقضها.
- الشخصنة المفرطة للصراع: التركيز على صورة الزعيم (أخنوش أو قيادات العدالة والتنمية) أكثر من التركيز على البرامج والسياسات.
- التاريخنة الانتقائية: استدعاء الماضي (تجربة العدالة والتنمية في الحكومة أو مواقف السلاسي السابقة) ليس من أجل الفهم التاريخي، بل من أجل التشهير السياسي.
- الاستثمار في العاطفة السياسية: كلا الطرفين يوظف خطاباً يستثير الانحياز العاطفي للأنصار، سواء عبر لغة “المظلومية” أو عبر لغة “الخطر على الوطن”.

يمكن القول، كخلاصة، إن هذا السجال يعكس مأزق السياسة الحزبية في المغرب: أحزاب تتحرك في إطار انتخابات قادمة منذ الآن، وتعتبر كل حدث فرصة لإعادة التموضع، حتى لو كان ذلك عبر سجالات لفظية لا تقدم للمواطن إجابات حقيقية على مشاكله اليومية. بالنسبة لتاونات، هذا النوع من المعارك قد يبعد النقاش عن قضايا الماء والطرق والشباب والفقر، وهي أولويات الساكنة، نحو سجال سياسي يعيد إنتاج الانقسام الوطني في نسخة محلية.

وعليه، فإن المطلوب من الفاعلين الحزبيين – محلياً ووطنياً – ليس مزيداً من “المقالات-الردود” التي تستهلك الطاقات في التلاسن، بل صياغة خطابات وبرامج واضحة لمعالجة أزمات التنمية، حتى لا يتحول الإقليم، ومعه السياسة المغربية، إلى مجرد ساحة لتصفية الحسابات بين “الحمامة” و”المصباح” في انتظار جولة الانتخابات المقبلة.