وفي مستهل البرنامج استعرض الشاعر والصحافي سعيد كوبريت معد ومقدم البرنامج جوانب من المسار المهني للراحل الذي كان كثير الانشغال بالسياقات ومتغيرات الأحداث الوطنية والدولية، والاطلاع عن مختلف المستجدات خاصة مجال التكنولوجيات الحديثة.
وبعدما تسائل سعيد كوبريت عن أين نحن من مدرسة محمد العربي المساري اليوم، في ظل ما تشهده الساحة من نكوص وتقاعس وارتداد خاصة في الاعلام؟ أعرب عن الأمل في أن تكون هذه الذكرى العاشرة مناسبة لفتح نقاش واسع حول واقع ومستقبل الصحافة، والعمل على إعادة بعث " كرسي العربي المساري لأخلاقيات الاعلام والاتصال" الذي تأسس بالمعهد العالي للعلام والاتصال بالرباط سنة 2019 .
وهكذا يرى الإعلامي والباحث عبد الجبار الراشيدي، كاتب الدولة المكلف بالإدماج الاجتماعي، رئيس المجلس الوطني لحزب الاستقلال أنه من الصعب الحديث في عجالة عن الراحل العربي المساري الذي كان هرما وطنيا كبيرا ورجلا استثنائيا، تجمع فيه ما تفرق في غيره. وقال بأن الراحل لم يكن صحفيا عاديا، وتمكن خلال توليه قيادة النقابة الوطنية للصحافة المغربية في تسعينات القرن الماضي، أن يجمع بين كافة مكونات الطيف السياسي بتوجهاته المختلفة، فكان وحدويا بامتياز وظل كذلك قيد حياته مدافعا شرسا عن استقلالية نقابة الصحافة، ومصالح وكرامة الصحافيين، فضلا عن دفاعه المستميث عن حرية الرأي والتعبير وفي مقدمتها حرية الصحافة، مع التأكيد على التقيد بمبادئ أخلاقيات المهنة.
من النقابة للوزارة
وبعدما ذكر بالعلاقة التي كانت تربط الراحل بالزعيم علال الفاسي، أوضح الراشيدي المقرب من المساري وحافظ أسراره بالحزب ونقابة الصحافة وكذلك بوزارة الاتصال، أن الراحل الحسن الثاني، كان من دعا الى أن يكون المساري الكاتب العام للنقابة الوطنية للصحافة المغربية، ضمن تشكيلة حكومة التناوب برئاسة عبد الرحمان اليوسفي، وزيرا للاتصال، والذي قال خلال حفل تنصيبه على رأس الوزارة، بأنه حمل معه ملفات وتوصيات المناظرة الوطنية الأولى للإعلام والاتصال سنة 1992 لتفعيلها .
ولكونه آمن بضرورة إحداث التغيير المطلوب في قطاع حيوي هو الصحافة والإعلام، فإن علاقته "كانت متوترة مع بعض الجهات". لكنه كان يعتبر أن ظروف وسياقات قيام حكومة التناوب سنة 1998، " تشكل شحنة سياسية لتقوية المسار الديمقراطي، وكان يعول بالخصوص على دعم الوزير الأول في تفعيل الإصلاح الذي كان ينوى تنفيذه بالقطاع. غير أن جيوب مقاومة التغيير كان لها رأي آخر، ورغم كل ذلك، ظل الراحل يقاوم لمدة سنتين يدافع عن الإصلاح في الاعلام"، حسب الراشيدي.
من جهة أخرى أبرز أن العربي المساري، كان سباقا لإثارة الانتباه الى الانعكاسات السلبية، للمعلومات المضللة، وهو ما وثقه في كتاب بعنوان" قصف الواد الناشف" الذي جمع فيه قصاصات للصحافة الجزائرية التي كانت تنشر أخبارا كاذبة، ومزيفة عن قيام السلطات المغربية، بقصف الواد الناشف بالقرب من وجدة، مسجلا في هذا الصدد، كيف كان يستعمل الإعلام الجزائري في معارك سياسية، وكيف أن هذا الإعلام لا يستطع أن يحمي نفسه، بالمهنية اللازمة والتقيد بأخلاقيات المهنة، وترك نفسه في يد الماسكين بزمام السلطة هناك بالجارة الشرقية، وأهوائهم لمعاكسة المغرب ومحاولة النيل من وحدته الترابية.
شخصية استثنائية
أما الإعلامي المخضرم والكاتب الصديق معنينو، فاستحضر علاقته الطويلة مع المساري خاصة حينما كان كاتبا عاما لوزارة الاتصال، ابان تعيين الراحل وزيرا بها، وقبلها بالمناظرة الوطنية الأولى للإعلام والاتصال التي تميزت بمشاركة ليس فقط الإعلاميين، يل قادة الأحزاب السياسية ومفكرين ومثقفين، وكان المساري مقررها العام .
ووصف الصديق معنينو، الراحل ب"الشخصية الاستثنائية" - الذي قال - بأنه جاء للوزارة من أجل تغيير العقليات وليس تغيير الأشخاص، حيث كان يحذوه طموح كبير لتفعيل لائحة المطالب التي حملها معه من تجربته في نقابة الصحافة، مشيرا في هذا الصدد إلى أنه كان يولى أهمية خاصة للوقت، وهو ما دفعه الى احداث مكتب للضبط بديوانه حتى يعطى سرعة جديدة أكبر للتوصل بالمراسلات والقرارات والاقتراحات.
لكن معنينو أوضح أنه ذكر الراحل بأن للإدارة سرعتها الخاصة، كما هو شأن القضاء على خلاف سرعة الأحزاب في التنفيذ، باعتبار أن تغيير القوانين يتطلب وقتا طويلا، مستخلصا في هذا الصدد بأنه " بقدر ما كانت للراحل رغبة جامحة في إصلاح وتطوير قطاع الصحافة والاعلام، بقدر ما كان يجد أمامه عراقيل متنوعة، ربما لم يضرب حساب لهذه التحديات بشكل جيد، وهو ما جعله يبادر تقديم استقالته مرات عديدة.
وأثار الكاتب العام الاسبق لوزارة الاتصال، الانتباه إلى " اتخاذ عدد من القرارات، بدون اخباره ، وأخرى لم يكن متفقا معها، منها على الخصوص توقيف صحف، وهو القرار الذي اتخذ في الوقت الذي كان آنذاك موجودا بمدينة العيون".
الغائب الحاضر
من جهته قال عبدالله البقالي مدير نشر جريدة "العلم"، إن العربي المساري، الرجل الغائب الحاضر، قل ما يجود الزمان بمثله، موضحا أنه كان يتمتع بخصال نبيلة في مقدمتها النزاهة والوفاء والكفاءة معربا عن أسفه لعدم حفظ ذاكرة مثل هذه القامات الوطنية لتكون عبرة ونبراسا للأجيال الصاعدة.
وبعدما توقف عن الأدوار التي اضطلع في مجال الصحافة والاعلام وخاصة بعد انتخابه كاتبا عاما للنقابة الوطنية للصحافة المغربية سنة 1993، أشار البقالي إلى أن الراحل الذي كان سابقا عن زمانه، أكد في كلمته في حفل تسليم السلط، مع سلفه بأنه جاء لوزارة الإعلام من أجل تنفيذ توصيات المناظرة الوطنية الأولى للإعلام والاتصال.
وأضاف البقالى الذي جاور المساري بكل من نقابة الصحافة والحزب وبجريدة "العلم" أن الرحل اشتغل لدى توليه حقيبة وزارة الاعلام بخلفية نقيب الصحافيين، حيث كان يعقد اجتماعات مع هيئات تحرير السمعي البصري، لتأطير وتحفيز الصحافيين، على الرغم من العراقيل التي كان يختلقها آنذاك المشرفون على هذا المرفق العمومي الإعلامي .
نبراس للمستقل
ومن جهته سجل الكاتب الصحافي جمال المحافظ رئيس المركز المغاربي للدراسات والأبحاث في الاعلام والاتصال، بأن قوة الأمم تكمن في تصالحها مع ماضيها وحاضرها وفي حسن قراءة هذا الماضي والحاضر، حتى يسهل عليها بناء المستقبل بأكبر قدر من النجاح التقدم، كما كان يقول عبد الرحمان اليوسفي ( 1924 – 2020 )، وهو ما ينطبق على تخليد الذكرى العاشرة لرحيل المساري الذى تظل الأفكار والمواقف التي دافع عنها قيد حياته حاضرة، ويزيد من عمقها الخصال التي كان يتمتع بها طوال حياته الزاخرة بالعبر والمواقف، فضلا عن ثراء ما خلفه من مؤلفات وما قام به من أعمال جليلة ليس فقط في مجال الصحافة والاعلام،بل في حقول معرفية تشمل ميادين السياسة والثقافة والتاريخ.
وقال إن من شأن التراث الغني - إن جرى الالتفات إليه واستثماره- قد يشكل أفضل نبراس يمكن أن نسترشد به خاصة وأننا في زمن تفتقد فيه النزاهة الفكرية وقيم الوفاء والاستقلالية المهنية مبرزا أن المناصب الكبرى والوظائف السامية والمسؤوليات التي تولاها، لم تغير شيئا من طبعه فقد ظل إنسانا شغوفا بالعلم والمعرفة، وإعلاميا متميزا، وكاتبا لا يشق له غبار بأسلوب يتسم بالبساطة والسلاسة في التعبير،، وعلى الرغم من تعدد المهام التي تقلدها، فقد ظل يراهن طوال حياته على الأدوار الحاسمة التي تضطلع بها الصحافة الاعلام، مع القيام بإصلاح شمولي لهذا القطاع وخاصة السمعي البصري الذى يمكنه أن يتحول إلى قاطرة للإعلام الوطني بصفة عامة.
تنظيم ذاتي
فالمساري الذي يعد في حقيقة الأمر رائد أخلاقيات المهنة، اهتدى في بداية تسعينات القرن الماضي إلى إنشاء " لجنة آداب المهنة" بنقابة الصحافة ، التي كانت تضم شخصيات إعلامية وزانة، كانت مهمتها تتجلى في السهر على إعمال " ميثاق الشرف"، الذي اعتمدته النقابة منذ ذلك التاريخ. ويضم تسعة بنود، مستمدة من المبادئ الكونية لحرية التعبير وحقوق الإنسان، ومن مقومات العمل الصحفي الهادف إلى الإخبار الصادق والنزيه والموضوعي، وواجب التضامن المهني.
وأضاف أنه منذ ذلك التاريخ أصبحت بطاقة العضوية بنقابة الصحافة، تحمل إلى جانب المعلومات الشخصية للمنخرط، نص الميثاق للتعريف به وتأكيد التزام الأعضاء المنخرطين باحترامه.
وذكر جمال المحافظ الذي جاور الراحل بنقابة الصحافة، أن الجمع العام الثالث سنة 1996 الذي انعقد تحت شعار " أخلاقيات المهنة وكرامة الصحافي"، أعاد انتخاب المساري بالإجماع كاتبا عاما للنقابة الوطنية للصحافة المغربية موضحا أن هذا المسار الطويل في مجال أخلاقيات المهنة، توج بتأسيس هيئة وطنية تهتم بأخلاقيات المهنة، تحت اسم " الهيئة الوطنية لأخلاقيات الصحافة وحرية التعبير "في سنة 2002، وهو الاطار المهني الذي حظي بترحيب وتقدير كبير من لدن الراحل الذي كان يعتبره الآلية المثلى للتنظيم الذاتي المدني المستقل، وتطورا طبيعيا، في مجال هذا التنظيم الصحافي، وهو ما كان يتطلب دعم هذه التجربة التي كان يرأسها الأستاذ مشيشي العلمي الادريس وزير العدل الأسبق.
خدمة الحقيقة
من جانبه استرجع مصطفى الخلفي وزير الاتصال الأسبق علاقته بالمساري التي تعود الى سنة 2012 خلال اختياره رئيسا للجنة العلمية التي كلفت بإعداد مشاريع قوانين الصحافة التي أحيلت على الأمانة العامة للحكومة سنة 2013 مؤكدا أن الراحل كان صاحب رسالة، وحامل مشروع كبير لإصلاح الاعلام، يكون في خدمة الحقيقة وخدمة الوطن وذلك وفق معايير، تتوافق مع يعرفه العالم المتطور في هذا المجال.
لكن المتدخل أبرز أن الراحل المعروف بهدوئه، اصطدم بعراقيل متعددة، ويدير بحكمة عالية الإشكاليات التي كان يعرفها الاعلام والتي كانت عديدة منها تطهير قانون الصحافة من العقوبات السالبة للحرية ومنع الصحف وبطاقة الصحافة والصحافة الالكترونية، وكلها قضايا كان يعتبر التعاطي معها، وفق مقتضيات الدستور الجديد، الذي يتعين أن ينخرط فيه كذلك الاعلام السمعي البصري.
وخلص مصطفى الخلفي إلى القول أنه بالرغم ما يلاحظ حاليا من سيطرة للتفاهة والتمييع وعدم المسؤولية، فإنه لامحالة سيكون هناك انبعاث لإعلام مهني مسؤول وأن التجربة الغنية والتراكم الذي خلفه المساري الذي بقي صامدا - قيد حياته - محافظا على مواقفه وثابتا عليها، ستكون وقودا لمن يريد بعث حياة مسؤولة وجادة .