محمد الغيث ماء العينين: منصات إعلامية مغربية بين الدفاع عن التطبيع واستهداف الدبلوماسية الوطنية

محمد الغيث ماء العينين: منصات إعلامية مغربية بين الدفاع عن التطبيع واستهداف الدبلوماسية الوطنية محمد الغيث ماء العينين
منذ توقيع الاتفاق الثلاثي بين المغرب والولايات المتحدة وإسرائيل سنة 2020، ظل النقاش الوطني حول التطبيع يتأرجح بين قراءات متباينة، تجمع بين من يعتبره قرارًا سياديًا يخدم المصالح الاستراتيجية للمملكة، ومن يرى فيه ابتعادًا عن الموقف التاريخي الداعم للقضية الفلسطينية. غير أن تطورات المشهد الدولي، من أحداث 7 أكتوبر 2023 وما تلاها من تحولات في الخطاب والمواقف الغربية خلال منتصف 2024، قد أفرزت سياقات جديدة امتدت إلى الداخل المغربي.

في هذا السياق، برزت أصوات مؤيدة لإسرائيل داخل الساحة الإعلامية الوطنية، لم تكتف بالدفاع عن التطبيع، بل اتخذت أحيانًا مواقف تمس برموز الدولة وممثليها الدبلوماسيين، وهو ما يطرح أسئلة مشروعة حول حدود الاختلاف المشروع، وخطورة تحوّله إلى أداة ضغط خارجي تمارس من الداخل. المقال التالي يحاول مقاربة هذه الظاهرة في إطار تحليل متكامل يربط بين أبعادها المحلية والدولية، مع استحضار البعد التاريخي الذي يميز التجربة المغربية في إدارة علاقاتها الإقليمية والدولية.

1. المغرب والتطبيع: قرار سيادي وسياق استراتيجي
قرار المغرب بإعادة العلاقات مع إسرائيل جاء في إطار اتفاق ثلاثي تضمّن اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المملكة على الصحراء المغربية، وهو مكسب دبلوماسي غير مسبوق. هذا القرار لم يكن مجرد اصطفاف سياسي، بل جزء من رؤية استراتيجية أوسع، تنطلق من مبدأ تنويع الشراكات، وتعزيز الحضور المغربي في الساحة الدولية، دون التفريط في ثوابته الوطنية وعلى رأسها دعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.

2. الجدل الداخلي: بين البراغماتية والالتزام التاريخي
منذ 2020، تبلور نقاش داخلي محتدم حول التطبيع. التيار المؤيد يرى فيه وسيلة لتعزيز موقف المغرب في قضية الصحراء، واستثمارًا للعلاقات مع إسرائيل في المجالات الأمنية والاقتصادية والتكنولوجية، بل وحتى كقناة لتسهيل الدعم الإنساني للفلسطينيين. بالمقابل، يرى المعارضون أن التطبيع، في ظل السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، يضع المغرب أمام تحديات أخلاقية وسياسية تمس صورته كمدافع تاريخي عن القضية الفلسطينية.

3. أحداث 7 أكتوبر 2023: بداية التحول في الخطاب الدولي
شكّلت هجمات 7 أكتوبر نقطة تحول كبرى. في مرحلتها الأولى، طغى خطاب التعاطف الدولي الواسع مع إسرائيل، حيث استُحضرت المحرقة في الذاكرة الغربية، وأُعطي الهجوم بُعدًا وجوديًا في الخطاب السياسي والإعلامي الغربي. لكن مع ارتفاع أعداد الضحايا المدنيين في غزة، وتوثيق الانتهاكات، انتقلنا منذ منتصف 2024 إلى مرحلة أخرى، إذ وجّهت المحكمة الجنائية الدولية اتهامات لرئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وتطورت مواقف العديد من الدول الغربية نحو الاعتراف بدولة فلسطين، خصوصًا مع ظهور بوادر مجاعة في القطاع. هذا التحول انعكس على النقاش المغربي، حيث انقسم المدافعون عن التطبيع ومعارضوه على أسس جديدة، تراوحت بين رؤية التطبيع كرافعة استراتيجية، واعتباره موقفًا بات يتعارض مع التطورات الدولية ومعايير العدالة.

4. من مقال “كلنا إسرائيليون” إلى حملة 2025 ضد السفير
في خضم التضامن الدولي الواسع مع إسرائيل بعد 7 أكتوبر، نشر أحمد الشرعي، أحد أبرز الفاعلين في المشهد الإعلامي المغربي، مقالًا بعنوان “كلنا إسرائيليون” في صحيفة إسرائيلية، عبّر فيه عن موقف داعم لإسرائيل في مواجهة حماس. أهمية المقال لم تكن في مضمونه فقط، بل في مكانة كاتبه وامتلاكه لمنصات إعلامية مؤثرة، ما جعل صدى المقال واسعًا.

الجدل الذي أثاره المقال كشف عن انقسام واضح: مؤيدون رأوا فيه تعبيرًا عن براغماتية سياسية، ومعارضون اعتبروه انحيازًا لإسرائيل على حساب القضية الفلسطينية. ومع اتساع النقاش، تحوّل الجدل إلى مواجهة بين تيارات إعلامية، امتدت أحيانًا إلى اتهامات متبادلة حول مسؤولية ما جرى في غزة، بين من يحمّلها لحماس، ومن يحمّلها للاحتلال الإسرائيلي.

لكن ما وقع في 2025 مثّل تصعيدًا مختلفًا، حيث نشر الصحفي فيصل مرجاني مقالًا ينتقد فيه أداء سفير المغرب في واشنطن، قبل أن يأتي مقال مصطفى الزرغاني بلهجة أشد، متهمًا السفير ضمنيًا بمعاداة السامية عبر الإشارة إلى عائلته. هذا التصعيد اعتبره كثيرون تجاوزًا لحدود النقد المشروع، ومحاولة ضغط على الدولة المغربية من خلال استهداف أحد ممثليها الدبلوماسيين، بما يخدم أجندة خارجية. ومن اللافت أن مقال الزرغاني بدا وكأنه جاء لاستكمال ما لم يحققه مقال مرجاني، في تصعيد محسوب ضد الدبلوماسية المغربية.

خاتمة
إن النقاش حول التطبيع في المغرب يجب أن يظل في إطاره الطبيعي، أي إطار الاختلاف المشروع في الرأي، المبني على معطيات ومصالح وطنية واضحة، لا أن يتحول إلى أداة ضغط تخدم أجندات خارجية على حساب السيادة الوطنية. المغرب، باعتباره دولة ذات قرار سيادي، هو الأقدر على تحديد طبيعة علاقاته الخارجية وفق مصالحه العليا، وبما يحفظ ثوابته التاريخية. أما المواقف التي تستهدف ممثلي الدبلوماسية المغربية بشكل شخصي وتتبنى خطابًا يتقاطع مع ضغوط خارجية، فهي لا تخدم لا المصلحة الوطنية ولا النقاش العمومي الرصين. المطلوب اليوم هو مقاربة متوازنة، تراعي التحولات الإقليمية والدولية، وتحافظ على قدرة المغرب على المناورة الدبلوماسية، دون التفريط في ثوابته أو الانجرار وراء أجندات لا تخدمه.
 
محمد الغيث ماء العينين – نائب رئيس المركز المغربي للدبلوماسية الموازية وحوار الحضارات