نعيمة بنعبد العالي: غربةٌ في الذات

نعيمة بنعبد العالي: غربةٌ في الذات نعيمة بنعبد العالي
ليست اللغة مُلكًا خالصًا لأحد، ولكنها تسكننا كما تسكن الريحُ الأغصانَ: تهمس، تصرخ، تُنبت وتقتلع. نولد في لغةٍ لم نخترها، ونكبر لنحاول تطويعها لنبضنا، لكننا كثيرًا ما نفشل. ثمّ نكتشف أن الغرابة لا تأتي من الخارج فحسب، بل تُزهر في الداخل أيضًا: غربةٌ في الكلمة، في الصوت، في الصمت، غربةٌ فينا.
هذا النصّ ليس دراسةً لغويّة ولا بيانًا هويّاتيًا. إنه محاولةٌ لتأمّل التصدّع، وللسكنى في التردّد، لجعل اللايقين مقامًا، لا نفيًا.
أن نصغي معًا إلى ما تبقّى من النَفَس في الكلمة، وإلى صدى الذات حين تتهجّى نفسها بلغاتٍ مأهولة بالآخرين.
 
مقدمة
ثمّة أيامٌ يتحدّث فيها المرء دون أن يتعرّف على صوته. أيّامٌ تأتي فيها الكلمات من مكانٍ آخر، كما لو أنّ ضبابًا تشكّل على سطح اللغة المألوف. إنّه انزعاجٌ خفيّ، لكنه عنيد. أشعر أكثر فأكثر أنني غريبةٌ في لغتي الأمّ – لا لأنني نسيتها، بل لأنّها تنفلت مني في طريقتها في القول، في التفكير، في التواجد في العالم. ليست مجرّد خسارة معجميّة، بل تحوّلٌ صامت، وانتقالٌ في الإقليم. لقد تبدّل شيءٌ ما في حميميّة الفعل.
 
1. القلق اللغوي: بين فقدان وانتقال
اللغة ليست مجرّد أداة، بل هي أيضًا فضاءٌ للاعتراف والتفكير والتردّد الحميم. إنها ما يربطنا بالذاكرة والجماعة، طريقتنا في السكن في العالم. وعندما تتغيّر هذه اللغة تحت أقدامنا، نترنّح. في العالم العربي، يتجلّى هذا القلق بحدّة: بين العربية الفصحى، لغة الكتابة والهيبة، والدّارجة، لغة الحياة اليومية، يتّسع الفارق يومًا بعد يوم. يضاف إلى ذلك الفرنسية، لغة الحداثة الموروثة عن الاستعمار، والإنجليزية، لغة السوق العالمي والشبكات الرقمية.
 
لكن هذا التعدّد الظاهري لا يضمن الثراء والانفتاح. غالبًا ما يولّد شعورًا بالتجرّد. تصبح الثنائية اللغوية توترًا: بين ما يمكنني قوله، وما يجب عليّ قوله، وما أشعر به ولا أستطيع التعبير عنه. تحدّث جاك دريدا عن "أحادية اللغة لدى الآخر": أن يكون للمرء لغة واحدة، ومع ذلك يشعر بأنها ليست له. وذكّر الأنثروبولوجي إدوارد سابير بأن "العالم الواقعي مبني في جوهره على العادات اللغوية للمجموعة"، وعندما تتخلخل هذه العادات، تتشوّش رؤيتنا للواقع.
 
هذا الاضطراب اللغوي هو أيضًا اضطرابٌ وجوديّ: فهو يمسّ طريقة تفكيرنا، وأحلامنا، وحبّنا، واحتجاجنا. هل يمكن حقًّا التعبير عن الألم الاجتماعي بالفصحى؟ هل يمكن الحلم أو الشتيمة بالإنجليزية دون تشويه؟ الإنسان المعاصر يتنقّل بين السجلاّت دون بوصلة. اللغة تتحوّل إلى موقع تفاوض دائم، وأحيانًا إلى عبء: لغةٌ أنهكها التكيّف المستمر.
 
تشهد الأساطير القديمة على هذا القلق: برج بابل، على سبيل المثال، يرمز إلى فقدان وحدة اللغة كتمزّقٍ في النسيج الاجتماعي. كما تتحدّث الأساطير المصرية والرافدية عن لغاتٍ سرّيّة أو مسروقة، لا يفهمها إلا الموقّتون. هذه الروايات تلمّح إلى أن فقدان اللغة أو تشتّتها كان منذ القدم صدمةً جماعية، وتجربةً للفُرقة والإقصاء. وفي روايات نجيب محفوظ، يولد بعض الشخصيات بالدارجة، ويخسرون قوّتهم عندما يُترجمون إلى لغة أكثر نظامًا: ما يدلّ على أنّ القلق اللغوي ليس ظاهرةً معاصرة فقط، بل هو توتّر دائم بين الحميمي والمشروع.
 
2. الشروخ الاجتماعية والسياسية في اللغة
اللغة لا تطفو في الهواء، بل هي متجذّرة في التاريخ والسلطة والنقل. فرضت الفصحى نفسها كلغة مقدّسة، حاملة لسلطةٍ دينية ومؤسساتية، غالبًا على حساب اللغات الشفوية والمناطقية والمهمّشة مثل الأمازيغية والتشلحيت واللغات العربية القديمة. وتراكبت الفرنسية، ثمّ الإنجليزية، كلغات للنجاح الاجتماعي، ولولوج الحداثة، وأحيانًا كأدوات لكبت ثقافي.
 
كتب جورج شتاينر أن كلّ لغة هي طريقةٌ لرؤية العالم. ما نعيشه اليوم هو تشتّت في الرؤية. يتقن المتكلّمون عدّة سجلات دون القدرة دومًا على دمجها. نشهد نوعًا من التخصّص في اللغات: الفصحى للدين والإدارة، الدارجة للوجدان وغير الرسمي، الفرنسية أو الإنجليزية للعمل والمعرفة التقنية. هذا التقطيع يُفقِر الخيال، ويُقزّم الهويّات.
 
في الفترات ما بعد الاستعمار، خصوصًا في الجزائر، نشهد نوعًا من التقديس المتوتّر للصراع حول العربية بوصفها رمزًا للهوية المستردّة، مقابل الفرنسية التي تُرى تارةً كلغة العدوّ، وطورًا كلغة الهيبة. وتتجسّد هذه المفارقة في أعمال رشيد بوجدرة، الذي تكثر رواياته من المستويات اللغوية المتشظّية، وكأنه يرفض كلّ استقرار مريح. تصبح اللغة ميدان معركة.
 
هذا التعدّد غير المنضبط يُنتج توتّرًا بين الأجيال: الأجيال الجديدة تستولي على رموز جديدة، تمزج بين اللغات، تخلق شعريّات بديلة، غالبًا في قطيعة مع مرجعيّات الأجيال السابقة. يصبح اللسان ميدانًا رمزيًّا للصراع: بين ما يجب الحفاظ عليه، وما يمكن تغييره، وما يُرى كتهديد.
 
3. السكن في الغرابة: نحو جماليّة وأخلاقيّة للتردّد
لكن هذا القلق ليس عقيمًا. يمكن أن يصير خصبًا. تحدّث عبد الكبير الخطيبي عن "عشق اللسانين"، كحيّز اهتزازٍ بين لغتين لا تكفّان عن التوق لبعضهما، وعن الانفلات. هذا اللااستقرار قد يخلق جماليات جديدة: شعرية الانزعاج، جمال المتشظي، قوّة الصمت.
 
في التقليد الصوفي، يُثمَّن الصمت أو التأتأة أو التباعد كعلامات على علاقة لا تقاس بالحقيقة – قولٌ لا يتحقّق إلا من خلال الارتباك. نجد هذا الجمال في كتابات الحلاج، أو لاحقًا عند أدونيس، الذي يلعب بتكسّر اللغة ليصف تجربة عالمٍ غير ثابت، لكنه مأهول بشدّة.
 
هذا الاضطراب الخلّاق ليس حكرًا على الثقافة العربية. الشاعر بول تسيلان، الناجي من المحرقة، كتب بالألمانية، لغة جلّادي شعبه. وقال: "فقط اللغة المتكسّرة تستطيع أن تقول الحقيقة". التكلّم بلغة غير أكيدة، هو أيضًا قبول بعدم السيطرة الكاملة.
 
طالب إدوار غليسان بحقّ الغموض: برفض الترجمة الكاملة، والامتلاك الكامل. تصير اللغة موقع مقاومة، وموقع ضيافة في الآن ذاته – حيث يُقبل بعدم الفهم الكامل، وعدم البوح المطلق، بل بالبقاء في العلاقة، في انكسارها، في اهتزازها، في انفتاحها على صدى الآخر فينا. إنّ هذه الأخلاقيّة للّغة الهشّة تتطلّب البطء، والانتباه، والإنصات. وتثمّن التلمّس أكثر من الجزم، والصدًى أكثر من الفعاليّة.
 
قد يتحوّل هذا التردّد إلى قوّةٍ نقديّة: يبقينا متيقّظين أمام السرديات المهيمنة، ولغات السوق والمؤسسة المعلّبة. يفتح فضاءً لروايات أخرى، لأصوات أخرى – نشاز، متردّدة، لكنّها ضروريّة. الكتّاب المهاجرون، الشعراء المتعددو اللغات، الفنانون المقيمون بين لغتين، يعيدون كلّ يوم اختراع هذا الحقّ في الكلام المعقّد، غير المتوقّع، المتشظّي كواقعنا.
 
4. الجسد كعتبة للغة
هذا الاضطراب في اللغة هو أيضًا اضطرابٌ في الجسد. فالكلام يقتضي الصوت، والنَفَس، والحركة – وأحيانًا نشعر أنّ شيئًا ما لا يمرّ. عندما تصير اللغة غريبة، يعثر الجسد نفسه: تردّدات، صمت، ألم في النطق.
 
في بعض المجتمعات الأصلية أو البدوية، مثل التوارغ أو قبائل الماساي، تمرّ الكلمة بقدرٍ من الحركات، والصمت، والتوقف، بقدر ما تمرّ عبر المفردات. الجسد يصبح أرشيفًا، لغةً حيّة. ما يُذكّر بأن اللغة ليست تجريدًا محض: إنها تعيش في جسد اجتماعي، وجسد مادّي، مشحون بالعواطف والتوتّرات والتواريخ. في هذا البعد الجسدي، يصير القلق اللغوي تجربة حسّية، مؤلمة أحيانًا، لكن دائمًا متجسّدة.
 
5. نقل الكلمة في لغة متردّدة
كيف ننقل ما دمنا نشكّ بلغتنا؟ كيف نعطي من يأتون بعدنا كلمةً منشغلة بالمعنى، ونحن أنفسنا نرتاب من حدودها؟ إنّ النقل يصبح تحدّيًا في زمن التفتّت اللغوي: ماذا نورّث، سوى ورشة غير مكتملة، بيتٍ قيد البناء؟
لكن ربّما ينبغي قبول هذا اللااستقرار كشرطٍ للنقل المعاصر. لم يعد المطلوب نقل تراثٍ ثابت، بل طريقة في البحث، في الشكّ، في الإبداع وسط التصدّع. تعليم اللغة اليوم يعني تعليم التعقيد والمزج، وتعدّد العوالم. يعني تعلّم العيش بين بين.
 
الشعر، والأدب، والأشكال الشفهيّة، ثمينة هنا: لأنها تمكّن من نقل اللغة لا ككتلة، بل كأنفاس، كموسيقى، كإيقاعٍ للتفكير. في المجتمعات التي لا تعرف الكتابة، كما في غرب إفريقيا، تنتقل الذاكرة عبر الإيقاع، والغناء، والحكاية المنغّمة أو الرواة. لغةٌ حيّة، لأنها متصدّعة، ومعطاة، وغير مكتملة.
 
خاتمة – كلمة متشقّقة، لكن حيّة
نحن نتكلّم في لغاتٍ تعبرنا، تخوننا أحيانًا، لكنها أيضًا تشكّلنا. ليست الغاية ترميم لغةٍ نقيّة، سليمة – فهذه لا وجود لها. بل أن نسكن الشروخ، ونجعل من الغرابة مادةً حيّة.
 
ففي الكلمة المتردّدة، المهتزّة، يمكن أن تولد حقيقة أعمق: حقيقة الذات التي، رغم نفيها في لغتها، ما زالت تتكلّم – وتصغي.