في هذا المقال يجيب عبد العزيز الخبشي عن هذا السؤال:
في خطوة لافتة في سياق الإعداد المبكر للانتخابات التشريعية لسنة 2026، جاء خطاب العرش ليؤكد تكليف وزير الداخلية بإجراء المفاوضات السياسية مع الأحزاب حول القوانين الانتخابية، والإشراف على التحضيرات المرتبطة بها. قد يبدو هذا التكليف، في ظاهره، امتداداً للدور الكلاسيكي الذي تضطلع به وزارة الداخلية في العملية الانتخابية، لكنه، من زاوية التحليل النقدي والسياسي، يحمل دلالات أعمق ترتبط بإعادة ترتيب مراكز النفوذ داخل البنية التنفيذية للدولة، وتلمح إلى تراجع ضمني لدور رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، الذي من المفترض أن يكون هو الفاعل السياسي الأول في قيادة المشاورات السياسية ذات الطابع التشريعي والتنظيمي.
ففي الأنظمة البرلمانية، كما في الدستور المغربي (وخاصة بعد إصلاحات 2011)، يفترض أن يقود رئيس الحكومة المشاورات الكبرى ذات الأثر التشريعي، ومنها ما يتعلق بتعديل مدونة الانتخابات أو مراجعة نمط الاقتراع أو الحسم في معايير التقطيع الانتخابي. غير أن الواقع السياسي المغربي يعاود إظهار حدود هذا "التحول الديمقراطي" الشكلاني، حيث تُفرغ المؤسسات المنتخبة من مضمونها السيادي، ويُعاد توطين القرار السياسي المركزي داخل البيروقراطية الوزارية، في هذه الحالة وزارة الداخلية، بما يعكس استمرار مركزية السلطة في يد القصر ومؤسساته الأمنية والتقنية.
تكليف وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت – وهو تكنوقراطي بقبعة أمنية وإدارية، وليس عضوا في حزب سياسي – بهذه المهمة، يحمل أكثر من دلالة. فهو لا يعكس فقط استمرار منطق "الدولة العميقة" في ضبط إيقاع العملية السياسية، بل يؤكد أيضاً أن رئاسة الحكومة فقدت الكثير من قدرتها التقريرية، وأن رئيس الحكومة الحالي، رغم كونه رئيس حزب الأحرار المتصدر للانتخابات الماضية، لا يتمتع بالمكانة التي تؤهله ليكون المفاوض السياسي باسم الدولة في قضايا ذات طابع وطني واستراتيجي.
من الناحية الرمزية، يعني هذا أن عزيز أخنوش قد تم تحييده سياسياً، ولو بلغة دبلوماسية ناعمة. فالرجل الذي جاء إلى رئاسة الحكومة تحت يافطة "التنمية والدولة الاجتماعية"، وتم التسويق له كـ"رجل المرحلة" بعد ما سُمي بزلزال الانتخابات 2021، يجد نفسه اليوم خارج دائرة التأثير في أهم محطة سياسية مقبلة: الإعداد للانتخابات المقبلة. هذا الوضع يطرح علامات استفهام حول مستقبل أخنوش السياسي، وما إذا كان القصر بصدد إعداد بديل تقني أو حزبي لقيادة الحكومة المقبلة، بعد ما شابت تجربة أخنوش الكثير من المطبّات: من عجز في مواجهة الغلاء وتدبير الكوارث الاجتماعية، إلى ضعف تواصلي وسياسي، واهتزاز صورته الجماهيرية إلى حدود التآكل.
إن إسناد مهمة التفاوض السياسي لوزارة الداخلية يعيدنا إلى السنوات التي كانت فيها الوزارة مركز ثقل في كل ما هو سياسي وانتخابي، أي قبل دستور 2011. وكان ذلك يعني حينها غياب أي سلطة حقيقية للأحزاب السياسية، التي كانت تُستدعى إلى "اجتماعات تقنية" يُملى فيها عليها مضمون القوانين والمساطر، تحت مسمى "التوافق الوطني"، بينما كانت الإرادة السلطوية هي المحددة للمسار الانتخابي برمته. فهل نحن بصدد العودة الكاملة إلى هذا النموذج القديم؟ أم أن الدولة تمارس نوعاً من "الإخراج الناعم" لإزاحة رئيس الحكومة الحالي، مع الاحتفاظ بشكليات التعددية والمؤسسات المنتخبة؟
ولعل أخطر ما في هذا التكليف أنه يُحول العملية السياسية إلى مجال تقني صرف، تحكمه معادلات الإدارة وميزان "الضبط"، وليس حوار الفاعلين السياسيين. فرغم أن الأحزاب مدعوة إلى المفاوضات، فإن الطرف الذي يجلس أمامها هو ممثل الدولة العميقة، لا ممثل السلطة التنفيذية المنتخبة. وهذا يعكس فشل النسق السياسي في دمقرطة ذاته، كما يكرّس عبثية التنافس الحزبي ما دام أن القرار الاستراتيجي لا يزال يحتكر من خارج المؤسسات المنتخبة.
بالنسبة إلى عزيز أخنوش، فإن الرسالة السياسية واضحة: انتهاء الصلاحية السياسية لرئاسته للحكومة أصبح مسألة وقت، وربما لن يُنتظر إلى غاية 2026 لتصريف هذا التوجه. ومن المحتمل أن تتم، في أفق الشهور المقبلة، إعادة ترتيب التحالفات، وخلق أجواء توافق على شخصية جديدة، إما من داخل الأحرار نفسه أو من حزب آخر أكثر قابلية للتسويق الجماهيري والدبلوماسي. كما أن القصر قد يفكر في حكومة تكنوقراط موسعة تمهد لمرحلة جديدة عنوانها "الفعالية والصرامة" بدل "الانفتاح والسوق الانتخابي".
إن تكليف وزير الداخلية بمهمة سياسية بهذا الحجم هو مؤشر على أن المغرب لا يزال يعيش على إيقاع تحكم مركزي في مساراته السياسية، حتى وإن توفرت له واجهات دستورية ومؤسسات تمثيلية. كما أنه تأكيد على أن الدولة حين تفقد ثقتها في ممثليها المنتخبين لا تتردد في سحب البساط منهم بآليات "ناعمة"، لكن بمضامين سلطوية واضحة. وإذا لم تلتقط الأحزاب هذه الإشارات، وتطالب بإشراك حقيقي في القرار السياسي، فإنها ستجد نفسها مجرد ديكور لشرعنة قرارات تُتخذ في أماكن أخرى، وبأجندات لا تعني المواطن في شيء.