مواطن يملك بطاقة تعريف وطنية وكمية هائلة من الأسى المُبَسْتر
ذات صباحٍ رماديٍ ممطر كما تمطر الوعود قبل الانتخابات، سألني جاري الذي يعاني من ارتفاع الضغط السياسي سؤالًا وجوديًا:
ـ ألا يوجد سياسي واحد نزيه في هذا البلد؟
أجبته بعفوية:
-أكيد، لكننا لم نلتقِ به بعد، ربما لأنه لا يخرج من البيت حتى لا يُتهم بشيء!
فرد عليّ بحكمة رجل ذاق كل أنواع الغلاء:
ـ ربما يوجد لكنه لا يشارك في الانتخابات، ولا يظهر على التلفاز، ولا يتحدث في البرلمان.. إنه كائن خرافي منقرض!
ضحكنا معا ثم ذهب إلى السوق لاقتناء الخضر، فعاد حزينا بدون خضر لكن بمزيد من القهر.
نحن نعيش في مغرب حيث السياسة تشبه طبق كسكس بسبع خضرات، لكن من نوع خاص: الطماطم وُزعت على المقاولين الكبار، اللّفت تحوّل إلى مشاريع في الريع، الجزر ذاب في الصفقات والكسكس الحقيقي يُطهى على نار هادئة في مكاتب التعيين.. أما المواطن فيحصل فقط على البخار.
لا تحتاج في زمن الشفافية المفقودة إلى أدلة لكتابة تقرير عن الفساد بالمغرب، يكفي أن تستمع لخطبة نائب برلماني عن "الأخلاق السياسية ومحاربة الفساد"، ثم تفتح ملف ممتلكاته قبل وبعد الانتخابات، وتُجري مقارنة بسيطة لتر أين وصلنا.. بعضهم اشترى ضميرًا مستعملًا بثمن بخس، ثم باعه بالتقسيط على مدار الولاية التشريعية. وبعضهم أصبح يُنظّر للفساد بالفقه المالكي والتشريع الإسلامي..
أصبح السياسي في هذا الوطن الجميل بشكل مؤلم مثل "الجن"، نسمع عنه كثيرا ونرى آثاره على الميزانية، لكنه لا يُرى إلا في المهرجانات الخطابية والمواسم الانتخابية. والفساد؟
أصبح الفساد في هذا المغرب مثل "الويفي" موجود في كل الأماكن العمومية، مجاني وبدون كلمة سر. أضحى ماركة مسجلة، يُوزَّع في الاجتماعات كما توزَّع الحلويات في الأعراس.
ليست المصيبة في أن الفساد موجود بل في أنه صار مزخرفًا، مُمَأسسًا، يُمارس بلغة فصيحة، وتُصدر بشأنه بلاغات موقعة ومختومة من هيئات الرقابة نفسها، تلك التي لا ترى شيئًا، لا تسمع شيئًا، ولا تقول شيئًا... كأنها دخلت في صيام مؤبد.
فقد الناس ثقتهم في السياسة والسياسيين، وصاروا يكتفون بالمشاهدة من بعيد، كما يُشاهد المرء فيلما تافها على إحدى القنوات المغربية الرديئة، لا يُضحك ولا يُبكي، لكنه يُعرض كل يوم، وبنفس الأبطال، بنفس السيناريو، مع تغيير بسيط في النبرة:
ـ "نحن هنا لخدمة المواطنين!"
في الحقيقة، هم هنا لخدمة بعضهم البعض، أما المواطن فمكانه محفوظ في طابور الانتظار، أو على الأرصفة، أو في نشرات الأخبار حين يتحدثون عن "السلم الاجتماعي".
ومع ذلك، لا أحد ييأس من المغرب، فكل شيء ممكن في هذا البلد، حتى أن أحدهم قال:
ـ "يمكن أن نصنع سيارة مغربية!"
فصفق الجميع ونسوا أن المحروقات أغلى من السيارة نفسها، وأن الطريق محفوفة بالحفر والبيروقراطية، وأن الرادار سيوقفك فقط لأنك تحلم أن تسير.
نعم، ما زلنا ننتظر السياسي الذي لا يسرق، وإن لم يأتِ، فربما نكتفي بواحد يسرق بـ"قليل من الذوق"، لا يجعلنا نُحس بأننا مجرد أرقام في دفاتر نهب مفتوحة. لا يعترف السياسي الناهب، بالمناسبة، بأنه فاسد. هو فقط "ذكي" أو "يدبر الأمور"، أو كما قال أحدهم:
ـ نحن لا نسرق، نحن نُحسّن وضعيتنا!
وفيما هو يُحسّن وضعيته، يحسّن المواطن مهاراته في المقارنة بين أسعار البيض، الزيت، و"الكمون"، هذا المواطن الذي كان يحلم ذات زمن بتغييرٍ ما، تحول إلى كائن فلسفي، يسأل أسئلة وجودية من نوع:
-هل سأشتري البيض أم أدفع فاتورة الماء؟
-هل أشتري سروالًا لطفلي أم أشتري الدواء لزوجتي؟
-هل هذا السياسي حقيقي أم صورة معدّلة بالفوتوشوب؟
الناس في المغرب لم يعودوا يكرهون السياسة فقط، بل أصيبوا بحساسية منها. يكفي أن تقول "نائب برلماني"، حتى يبدأ أحدهم بالحكّة في جيبه الفارغ أو يُصاب بنوبة قهقهة سوداء. قد يقول قائل:
ـ لكن هناك شرفاء!
نعم، هناك شرفاء فعلاً، لكن يتم استهلاكهم إعلاميًا مثل البهارات، فقط لتزكية "الطبخة" السياسية الكبيرة.
يتخذ الفساد في مغربنا السعيد أشكالاً هندسية مذهلة:
-دائري عندما يدور المال بين نفس الأسماء.
-هرمي عندما تصعد الامتيازات إلى الأعلى.
-شبكي حين تكون العلاقات أقوى من القانون.
أما المواطن، فهو نقطة صغيرة في الهامش، مهمته الوحيدة: التصويت ثم السكوت. ولا تنتهي العبارات الرنّانة: "خدمة الوطن"، "الإصلاح"، "النهوض بالوضع الاجتماعي" والمصيبة الأعظم "محاربة الفساد"، كأنه غزو خارجي من كائنات فضائية وليس الفاسدون والمفسدون من بني جلدتنا!
ومع ذلك ما زلنا ننتظر السياسي الذي لا يسرق، أو على الأقل، السياسي الذي يسرق دون أن يستهزئ بذكائنا.. وإلى حين ظهور هذا الكائن الأسطوري، سنواصل حياتنا العادية: نضحك، نكتئب ونتمنى أن يصبح الفساد عُملة قابلة للتصدير، فقد نحقق بها فائضًا في الميزان التجاري!