نعيمة بنعبد العالي: واقعية الجمال

نعيمة بنعبد العالي: واقعية الجمال نعيمة بنعبد العالي

"لا تحمل كل كلمة وراءها حقيقة. فكلمة "جميل" كثيرًا ما تسبح بعيدًا عن الواقع."

في زمن تتداخل فيه الصور وتتراكب العلامات وتبهت الحقائق، يبدو الحديث عن "الجمال" ضربًا من الترف أو الحنين. لكن، ماذا لو كان الجمال، لا مجرد زينة أو متعة بصرية، بل حاجة وجودية؟ ماذا لو كانت نظرتنا إليه اليوم مَسخًا لعلاقة أعمق تربطنا بالعالم وبأنفسنا؟

هذا النص يتأمل في واقع الجمال ضمن سياق معاصر تطغى عليه مظاهر المحاكاة، وتختفي فيه التجارب الأصيلة. من خلال تحليلٍ ثقافي وفني وفلسفي، يسعى النص إلى إعادة الإنصات لصوت الجمال الخافت، لا باعتباره شيئًا نمتلكه أو نستهلكه، بل علاقة، صمت، أثر، وانفتاح على الغامض والمشترك.

هنا، لا يُقدَّم الجمال كمعيار جامد أو كنموذج مسبق، بل كأفق مفتوح، ينتظر منّا نظرة أخرى.

I. غياب الحضور الجمالي

في زمن مضى، كان للجمال مقام رفيع. لم يكن يعني فقط ما يُرضي العين، بل كان يتصل بقيم أعمق: الحقيقة، الخير، الانسجام، اليقظة. الفن، العمارة، وحتى الكلمة - كانت جميعها تسعى إلى الارتقاء.

اليوم، يبدو أن الجمال أصبح مجرد تأثير سطحي. يُعرض، يُباع، يُحاكى. صار صورة بلا رؤية. كما تنبأ غي ديبور، دخلنا عصر المشهد، حيث يتحول الواقع إلى عرضٍ لنفسه. وقد ذهب جان بودريار أبعد من ذلك حين تحدث عن عصر المحاكاة، حيث تحل العلامات محل الواقع. لم يعد الجمال تجربة عميقة، بل نسخة دون أصل.

في المدن الحديثة، الواجهات ملساء، متكررة. البنايات السكنية تحاصر ساكنيها في مكعبات محايدة، موحدة. الوظيفة ابتلعت الشكل. السكن صار مجرد أداة - وتبعات ذلك تمس الحياة. أقل ظل، أقل خلوة، أقل إصغاء. حيث كانت المدينة القديمة تحمي الخصوصية، تكشف الأحياء الجديدة المستور. صار الفضاء شفافًا، متوقعًا، ومعه تضاءل جزء من الغموض الإنساني.

الجمال، في هذا السياق، يبدو كأنه حنين. لكنه لم يختفِ: لقد أُزِيح.

II. الجمال كخداع: حين يتقدم الزيف

نعيش زمن التشبع البصري. كل شيء مُعدّ، مُنقح، مُفلتر. نتحدث عن الجمال الخوارزمي. الأجساد، الأماكن، الأشياء، تُعدّ لتُعجب — بسرعة. إنها جمالية اللحظة، بلا ذاكرة.

صار الجمال استراتيجية تواصل، بلاغة كذب. عليه أن يغوي، أن يجذب، أن يؤثر. لكنه لم يعد يبدّل أو يحوّل: بل يُطَمئن. الجمال بهذا المعنى يصبح مريحًا، مُخدرًا، غير مؤذٍ.

وقد بيّن جيل ليبوفتسكي بوضوح كيف أن عصرنا يشهد تحولًا من فن كلاسيكي إلى ذوق مُنتشر، حيث كل شيء مُصمّم، مُنمّق، لكن لا شيء يثير الوجدان بصدق. لم نعد نسكن الجمال: بل نستهلكه.

حتى في الفن، يغري الزيف. كثير من الأعمال تسعى للصدمة أو الإغواء دون عمق. تُحاكي العمق لكنها لا تبلغه. النظرة لم تعد مدعوة للرؤية، بل للاستهلاك. بعض الأعمال التركيبية أو العروض البصرية تُذهل، لكنها لا تبني صلة إنسانية دائمة.

وربما هذا هو الأخطر: الجمال لم يعد يرقى بنا. بل يحتل، يملأ الفراغ دون أن يسكنه.

III. الجمال كصلة: نحو نظرة متأنية

ومع ذلك، لم يمت الجمال. لقد تَحوَّل. لم يعد يكمن في الشيء، بل في العلاقة التي نقيمها معه.

الجمال يصبح لحظة حضور. يولد من توافر داخلي. علينا أن نتعلّم الرؤية ببطء. أن نُبطئ. أن نقبل ألا نفهم فورًا. الجمال هو ما يُقاومنا برفق.

في الفكر الصوفي، يُتحدث عن الجمال (الجمال) - جمال يعكس اللامرئي. لا ينفصل عن الحق (الحق) والخير (الخير). العالم جميل، ليس لأنه كامل، بل لأنه مشبع بشيءٍ أسمى.

وهذا ما نجده أيضًا في الخط العربي: الحبر ليس زينة، بل نَفَس. يكشف عن الكلمة المقدسة من خلال حركة الجسد والقلب.

نلمس هذا في العمارة التقليدية، وخاصة في الباحات الأندلسية والحدائق الإسلامية: الفضاء لا يفرض نفسه، بل يوحي. يُظلّل، يهمس، يُنصت. الجمال ليس صدمة: بل ضيافة صامتة.

حتى في السينما أو التصوير المعاصر، هناك من يواصل استكشاف الجمال بوصفه انتباهًا للواقع: عباس كياروستامي، ريمون ديباردون، أندريه تاركوفسكي، نظرة هؤلاء لا تسعى لتجميل العالم، بل لكشفه، لخلق صلة بين المتلقي ومادة الحياة.

IV. ومع ذلك، يتجلى

الجمال الحقيقي لم يختفِ. صار أكثر تواريًا. يسكن العادي، غير المتوقع، المرتعش.

هناك جمال في وجه أم مجعد، في غناء شيخ مبحوح. في غرض بالٍ لا نستطيع رميه. في غبار يمر بشعاع ضوء.

في صمت غرفة، في كلمة صائبة، في حركة عفوية. في عمارة تسمح بدخول الظل، لا الشمس فقط.

المصور ريمون ديباردون، الشاعر محمود درويش، الخطاط حسن المسعودي... جميعهم أظهروا أن بوسعنا أن نكرّم العالم دون أن نُزَيّفه، وأن الجمال ليس بالضرورة صاخبًا، بل يمكن أن يكون عادلًا، بطيئًا، هشًّا.

وربما هذا هو الترف الحقيقي اليوم: أن نتأثر دون أن نُخدَع.

V. : الجمال، رغم كل شيء

لم أعد أعرف بدقة ماذا تعني كلمة "جميل". أصبحت كلمة خفيفة، بل مخادعة أحيانًا. نستعملها لكل شيء - ولا شيء. ومع ذلك... أحيانًا، توقفني. تمسّني.

أتذكر تلك العجوز، ذات يوم، كانت تقشر برتقالة ببطء مؤثر. بلا مشهدية. بلا قصد. وكان ذلك جميلاً.

ربما الجمال هو ذلك: أثر. تعليق مؤقت للزمن. شيء لا يُحدث ضجيجًا، لكنه يترك ذكرى.

اليوم، صار من الأصعب رؤيته. يختبئ. يصمت. لكنه يبقى. ينتظر نظرة. لا يُعطي نفسه إلا لمن لا يريد أن يمتلك.

وإن بقي عزيزًا، فربما لأنه صار نادرًا. لا لأن العالم قبيح، بل لأننا نسينا كيف نرى بشكل مختلف.

الجمال ليس شيئًا. إنه طريقة سكنٍ، إنه علاقة، وعد، نبضة من الواقع حين يكفّ عن خيبتنا.

هو موجود، رغم كل شيء. وربما يكون هذا اليوم، أجمل ما لدينا.