جمال المحافظ: التنظيم الذاتي للصحافة بين الهيئة والمجلس

جمال المحافظ: التنظيم الذاتي للصحافة بين الهيئة والمجلس جمال المحافظ

في الوقت الذي يثير مشروع قانون إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة، الذي صادق عليه مجلس النواب في 22 يوليوز 2025، الكثير من الجدل في أوساط المهنيين وهيئاتهم التمثيلية التي عبرت عن رفضها لهذا المشروع الحكومي، فإنه يزداد طلب المهنيين لاستعادة والتوقف عند تجربة الهيئة الوطنية المستقلة لأخلاقيات الصحافة وحرية التعبير " المجهضة "، وهي التجربة التي لازالت قائمة، لكن يجب تجديدها، على حد رأي رئيسها الأستاذ الجامعي مشيشي العلمي الادريسي.

ونزولا عند الرغبة المعبر عنها من طرف العديد من التنظيمات والفعاليات المهنية، خلال عدة مناسبات منها اللقاءات الأخيرة حول مشروع قانون إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة بكل من الرباط والدار البيضاء، وتعميما للفائدة، وكذلك حفظا للذاكرة، فإن هذه التجربة تعد إحدى أشكال التنظيم الذاتي المدني المستقل، والتي كان احداثها ثمرة مسار طويل من النقاش والتواصل، واعتبر تأسيسها، تقدما مهما نحو معالجة مسألة أخلاقيات الصحافة بطريقة أكثر نجاعة، وباستقلالية، والتي تزيدها قوة ما كانت تتوفر عليه الفعاليات والشخصيات من كفاءة عالية والثقة والمصداقية التي كانت تحظى بها مكوناتها لدى الرأي العام.

 

الأخلاقيات والحرية

 

لقد شكل إحداث الهيئة الوطنية المستقلة لأخلاقيات الصحافة وحرية التعبير في 19 يوليوز 2002 بالرباط، حدثا بارزا في تاريخ الصحافة المغربية والعربية والإفريقية، بالنظر لأهمية إحداث إطار مستقل من هذا النوع لحماية الصحافة والصحفيين، يكون قادرا من جهة على المساهمة في تطوير الأداء المهني، والدفاع في نفس الوقت عن حرية التعبير، على اعتبار أن أخلاقيات مهنة الصحافة وحرية التعبير وجهان لعملة واحدة ولا تناقض بينهما.

المساهمة في تطوير وتجويد الأداء الإعلامي وتوجيهه لصالح الجمهور المتلقي، وضمان حق المواطن في الخبر الصادق النزيه، واحترام الكرامة الإنسانية، والعمل على إشاعة أكبر لأخلاقيات وآداب مهنة الصحافة وتكريس حرية التعبير والرأي، كانت في صلب الأهداف التي أطرت عمل هذه الهيئة، على اعتبار أن حرية الصحافة وحماية حرية التعبير والحفاظ على شرف المهنة والدفاع عن حق الجمهور في الإعلام النزيه، وحماية الصحافيين أثناء مزاولة المهنة، ركائز جوهرية يؤمن بها الصحافيون ويتمسكون بتطبيقها.

وشكل تأسيس هذا الإطار المدني، مرحلة متطورة في مجال أخلاقيات المهنة على المستوى الوطني، واعتبرته كافة الفعاليات المهنية، تقدما نحو معالجة هذه المسألة باستقلالية وبطريقة أكثر نجاعة، تستلهم تجارب الدول الديمقراطية، وتتوجه نحو معالجة قضايا الصحافيين، انطلاقا من تعهدات والتزامات يعملون بأنفسهم على وضعها واحترامها في نفس الوقت، ودون إتاحة الفرصة لأطراف خارج المهنة، لإيجاد تبريرات وتوجهات تتناقض مع مبادئ حرية التعبير.

 

الرصد والتقويم

 

فتشكيل هذه الهيئة التي تتمثل وظيفتها الأساسية في رصد الاختلالات المهنية، وتقويم الأداء الصحافي، والتصدي التلقائي في نفس الوقت للانتهاكات التي تطال حرية الصحافة والتعبير، لم يكن يسيرا، بل تطلب جهدا ووقتا طويلين ونقاشا عميقا ومسؤولا، بناء على طموح تأسيس إطار مستقل، يختاره الصحفيون المهنيون بطواعية ، وينشدون بطواعية أن تمثل فيه الهيئات الحقوقية الأكثر حضورا ومصداقية لدى الرأي العام، باعتبار أن معالجة قضايا أخلاقيات الصحافة، مسؤولية مشتركة.

وإجمالا فالهيئة تتوفر على دورين رئيسيين: حمائي وجزائي، الأول يتمثل في حماية وتمنيع وتحصين الأداء المهني، فيما يتعلق الثاني (الجزائي)، برد الاعتبار للمستهدفين بكل تصرف قد يكون مخلا بأخلاقيات وآداب المهنة، مع تعهد الصحافيين، بناء على ذلك بمزاولة مهنتهم بكامل الدقة والموضوعية، والالتزام بحق الجمهور في الاطلاع على مختلف الأحداث والحقائق والآراء، بالمقابل ضمان حق الصحافة والصحافيين في الوصول الى مصادر الأخبار والحق في الحصول على المعلومات ومعالجتها بحرية، وتداولها وبثها بدون إكراه وعراقيل.

لقد استند عمل هذه الهيئة، على ميثاق للأخلاقيات الذي يستمد مقوماته من المبادئ الكونية لحقوق الإنسان، ومن بنود الدستور الذي ينص على حرية التعبير والرأي، ومن خلاله تجدد الصحافة إرادتها الراسخة والتزامها بمواصلة العمل من أجل تعزيز حرية الرأي والتعبير، وإقرار حق المواطن في إعلام تعددي حر ونزيه، قائم على قواعد احترافية عصرية.

 

إطار مستقل

 

وإذا كان النظام الأساسي للهيئة وميثاقها، يؤكدان من جهة أخرى على أن الهيئة، ليست بديلا عن القضاء الذي لا يلغي ولا يحد من صلاحياتها، بوصفها إطارا مستقلا بذاته، فإن الهيئة، كانت غير تابعة لأية جهة سياسية أو حزبية، ولا لأية وصاية حكومية أو طرف من أي جهة كانت. وتتألف الهيئة الوطنية المستقلة لأخلاقيات الصحافة وحرية التعبير، من 23 عضوا منهم شخصيات مستقلة وممثلون عن الهيئات الصحافية المهنية والمنظمات الحقوقية والثقافية والمجتمع المدني.

وكانت الهيئة التي تكتسي آراؤها وقراراتها، تكتسى قيمة اعتبارية، كانت تضم من الشخصيات المستقلة، كلا من الأستاذ الجامعي محمد مشيشي العلمي الإدريسي رئيسا والصحافية زكية داوود مديرة مجلة “لاماليف” و الكاتب الصحافي الاذاعي الخضير الريسوني .

وعن الهيئات والمنظمات الحقوقية - ضمت الهيئة كلا من الأساتذة عبد الرحيم بن بركة نقيب هيئة المحامين بالرباط ممثلا عن جمعية هيئات المحامين بالمغرب وعبد الرحمن بنعمرو النقيب سابق محام بهيئة الرباط، عن الجمعية المغربية لحقوق الإنسان والراحل المحامي عبد الله الولادي رئيس المنظمة المغربية لحقوق الإنسان والمحامي عبد الصمد عن العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان، والمحامي أحمد أبادرين المحامي رئيس لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان.

 

تمثيلة الصحافيين

 

وعن الصحافيات والصحافيين، كانت تضم كلا فاطمة بوترخة (وكالة المغرب العربي للأنباء) ومصطفى الزنايدي (جريدة السياسة الجديدة) والطيب العلمي (الإذاعة الوطنية) والمرحوم عبد الله العمراني (التلفزة المغربية) والراحلة فاطمة الوكيلي (القناة الثانية) وشفيق اللعبي (أسبوعية لافي إيكونوميك) وعبد الناصر بنو هاشم (القناة الثانية) وجمال المحافظ (وكالة المغرب العربي للأنباء) مقررا عاما للهيئة.

أما فيدرالية الناشرين فكانت ممثلة في الهيئة بكل من عبد المنعم دلمي المدير العام لجريدتي “الصباح” و” ليكونوميست” رئيس الفيدرالية، ومحمد الإدريسي القيطوني: مدير جريدة (لوببينيون) ومحمد البريني مدير جريدة (الأحداث المغربية) ومحمد السلهامي مدير أسبوعية (ماروك إيبدو) وفاطمة الورياغلي مديرة أسبوعية “فينانس نيوز”. أما هيئات المجتمع المدني فضمت كلا من الجامعي رشيد الفيلالي المكناسي عن الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة (ترانسبرنسي المغرب) والصحافي والشاعر نجيب خداري صحفي عن اتحاد كتاب المغرب.

 

تجديد الهيئة

 

وقد كان أحد عوامل تعثر عمل الهيئة وعدم تمكنها في لحظات كثيرة من عقد اجتماعاتها نتيجة عدم توفر النصاب القانوني، نتيجة غياب مستمر لغالبية ممثلي فيدرالية الناشرين علاوة على غياب أي دعم لوجستيكى ومعنوي حتى من بعض الهيئات الممثلة لها يمكنها من القيام بعملها على الوجه المطلوب، ومما زاد من هذا التعثر طرح مشروع المجلس الوطني للصحافة سنة 2007 .

وفي المرحلة الراهنة، يظل مطروحا سؤال الاستقلالية والمصداقية بين هيئة اختارت – قبل دستور 2011 - أن تتشكل كاطار مدني، وبمبادرة وإرادة خالصة من المهنيين، في أحضان المجتمع المدني الصحافي والحقوق والجمعوي و مجلس للصحافة، الذى تأسس بموجب قانون رقم 90.13 ك" هيئة مهنية مستقلة" انيطت به مهام " تنظيم وتأطير مهنة الصحافة من أجل " ضمان ممارسة الصحافة لرسالتها النبيلة في خدمة الصالح العام، مع احترام أخلاقيات المهنة وحرية الصحافة". في الوقت الذي تعني الاستقلالية بوجه عام القدرة على اتخاذ القرارات والتصرف بحرية دون الحاجة إلى تدخل أو تتوجيه خارجي، ومنها الاستقلالية التنظيمية لكيان ما في اتخاذ القرارات المتعلقة بعمله.