جمال الدين ريان:  إرتباط مغاربة العالم بالمغرب.. رهان استراتيجي يتطلب يقظة وطنية

جمال الدين ريان:  إرتباط مغاربة العالم بالمغرب.. رهان استراتيجي يتطلب يقظة وطنية جمال الدين ريان
بالنظر إلى واقع مغاربة العالم اليوم، يبرز سؤال محوري يتجاوز البعد العاطفي والانتمائي، ليطال العمق الاستراتيجي لسياسات الدولة تجاه جاليتها بالخارج: هل لا يزال الارتباط بالوطن الأم قائماً كما كان؟ أم أن مؤشرات التآكل والانفصال الرمزي بدأت في التشكل بصمت؟ إن ما يشهده العالم من تحولات متسارعة – ثقافية، اقتصادية، إعلامية وحتى وجودية – لا بد أن ينعكس على طبيعة علاقة المغاربة المقيمين بالخارج بوطنهم الأصلي، خاصة في ظل غياب مقاربات عميقة تعي هذه التغيرات وتستبق آثارها.
 
إن تآكل الروابط الثقافية والهوياتية لم يعد مجرد فرضية نظرية، بل أصبح واقعاً ملموساً يتجلى في صعوبة تواصل الأجيال الجديدة مع اللغة الأم، وفي هشاشة العلاقة التي تربطهم بتاريخهم، بذاكرتهم الجماعية، وبالرموز التي شكلت، لسنوات طويلة، صمام أمان لهذا الانتماء. إنها علاقة بدأت تتآكل بصمت، تحت ضغط الاندماج في المجتمعات الغربية، وتحت سطوة ثقافة استهلاكية عابرة للحدود، تجعل من الهوية مجرد سلعة، ومن الانتماء خياراً ظرفياً.
 
لكن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في عوامل الخارج، بل في ما يمكن تسميته "الخذلان الداخلي". ذلك أن السياسات العمومية الموجهة للجالية المغربية ما زالت، في مجملها، تقليدية، احتفالية، موسمية، ومحدودة الأثر. فباستثناء بعض المبادرات المتفرقة، لم ترتق هذه السياسات إلى مستوى الرؤية الاستراتيجية القادرة على إعادة بناء جسور الثقة، وتمكين مغاربة العالم من الإحساس بأنهم فاعلون أساسيون في حاضر ومستقبل وطنهم، وليسوا مجرد تحويلات مالية أو طاقات موسمية.
 
إن العلاقة بين مغاربة الخارج ووطنهم ليست علاقة حنين فقط، بل هي علاقة حقوق وواجبات. ومع ذلك، لا تزال هذه العلاقة تُدار بمنطق الرعاية لا بمنطق الشراكة. فما الذي يمنع، مثلاً، من إرساء آليات دائمة لمشاركة الجالية في النقاش العمومي الوطني؟ وما الذي يحول دون فتح المجال أمام كفاءاتهم للمساهمة الفعلية في القطاعات الحيوية داخل البلاد؟ أليس تغييبهم من المؤسسات المنتخبة والهيئات الدستورية نوعاً من الإقصاء الناعم الذي يعمّق الهوة أكثر فأكثر؟
 
ثم يأتي البعد الإداري، وهو أحد أضعف الحلقات في سلسلة العلاقة مع الجالية. فتعقيد المساطر، بطء المعاملات، غياب الرقمنة الفعالة، وتعامل بعض المؤسسات مع أفراد الجالية بمنطق فوقي أو غير مبالٍ، كلها عوامل تترك أثراً سلبياً عميقاً في نفوس هؤلاء، وتُفقدهم شيئاً فشيئاً ذلك الشعور بالانتماء الفعلي والمؤسس.
 
إن الحديث عن مغاربة العالم لا يمكن أن يظل في خانة التقدير الرمزي أو الأدوار الظرفية. إنه رهان سياسي واجتماعي وثقافي، يستوجب إعادة تعريف العلاقة مع الجالية ضمن رؤية جديدة قوامها: الشراكة، الفعالية، والكرامة. فبدون ذلك، سنجد أنفسنا أمام أجيال لا ترى في المغرب سوى وجهة صيفية، أو عنواناً لإرث ضائع، أو تاريخاً جافاً لا يمت بصلة لحياتها اليومية.
 
إن الحفاظ على ارتباط مغاربة العالم بوطنهم هو في جوهره معركة سيادية ناعمة، تتطلب أدوات حديثة، وإرادة سياسية حقيقية، ونقلة نوعية في فهم الهجرة لا كظاهرة خارجية، بل كامتداد للهوية الوطنية في بعدها الكوني. فقط حين ننجح في ذلك، يمكننا أن نقول إننا صُنّا الذاكرة، وصغنا مستقبلاً جامعاً لا يقصي أحداً.