سعيد ودغيري حسني: حروف الهامش بين الحلم والحقيقة

سعيد ودغيري حسني: حروف الهامش بين الحلم والحقيقة سعيد ودغيري حسني
كتابة هذا المقال لم تأتِ ترفًا فكريًا ولا تنميقًا لغويًا بل وُلدت من وجع خفي يسكنني منذ سنين من مراقبتي الحثيثة لهذا العالم الذي يمضي إلى الأمام وفي كل خطوة يترك وراءه من لا يواكب الركض ولا يتقن فن الصراخ باسم الحقوق من يتقنون فقط الصبر في صمت الحياكة في صمت الحلم في صمت والبكاء في صمت أولئك الذين لم يكتبوا في المتن ولم يُروَ عنهم في الكتب ولم يتسابق المحللون لفهم أحلامهم البسيطة وأمانيهم التي لا تتجاوز رغيفًا بلا مذلة وكرامة لا تهان هذا المقال محاولة لرد الاعتبار لحروف لم تُكتب وأصوات لم تُسمع ووجوه لا تُرى في مرايا المتن الرسمية هو اعتراف بأن الحقيقة لا تكتمل دون الهامش وبأن الحلم لا يعيش في القصور بل في الأكواخ وفي ظلال الأرصفة وفي دفاتر الصغار المهترئة هو دفاع شعري عن أولئك الذين لم يمنحهم التاريخ فرصة الكلام لكنهم يكتبون حياتهم يوميًا بالحبر اللامرئي.

في البدء كانت الحكاية مكتوبةً على حافة ورقة منسية على طرف دفتر قديم لا يعرفه أحد سوى الحالمين الذين يقطنون الهامش أولئك الذين لا تصل إليهم كاميرات الأخبار ولا تتوقف عندهم مواكب السياسة ولا تلامس أحلامهم بيانات الوزارات ولا وعود المؤتمرات الكبيرة فقط يقيمون في الظل بكبرياء الصامتين ويتنفسون كما تتنفس الأشجار التي لا تسندها أقلام المهندسين ولا تسميها خرائط النمو.

في الهامش تسكن الحياة كما هي لا كما تُروى على المنابر لا تصنعها العدسات ولا تحكمها اللغة الفخمة بل تمضي بتلقائية نهر خجول يشق طريقه في صمت بين الصخور هناك في الهامش يولد الحلم بلا شهادة ميلاد ويكبر الحنين بلا مناسبة وطنية وتغني الجدات في أروقة البيوت القديمة أغاني لا تُسجل لكنها تحفظ الذاكرة وتمنح القلب وطنًا لا يُرى.

الحقيقة ليست دومًا فيما يُقال في المتن فالمتن أحيانًا باذخٌ بالصوت لكنه فقير بالمعنى بينما الهامش ممتلئ بالنداء الهامس بالنبض الخفي بالقصص التي لا تليق بها اللغة الرسمية لأنها أعمق من أن تُحكى وأشف من أن تُقاس بالمعايير هناك أمٌّ تغسل حزنها على سطح بيت مائل وتغني لطفلٍ لا يعرف شكل أب يبتسم هناك عامل يومي يعدّ رغيفه بعدد الساعات التي لم ينم فيها هناك طالبة تكتب في الهامش بيتًا من الشعر وتطويه خوفًا من معلم لا يفهم الشعر.

الهامش ليس عيبًا بل هو المسافة التي نتركها كي لا يختنق النص كي يتنفس الواقع كي يكون في الكلام فسحة للحلم ما بين النقطة والفاصلة ما بين الكلمة ودمعتها مافي بين الحقيقة وقسوتها ولذلك نجد في الهامش ما لا نجده في المتن نجد الرقة الصادقة نجد الإنكار الشريف نجد الأمل الذي لم يتلوث بالواقعية.

الحلم لا يموت إلا إذا مات الهامش وإذا كففنا عن الإصغاء إلى الهمسات الصغيرة التي تنبت في العتمة الحقيقة وحدها لا تكفي إن لم تحمل في طياتها لمسة الحلم لأن الحقيقة الجافة تُميت الروح وتقتل الغد أما الحلم فهو حبر النجاة لمن يتشبث بالحياة وسط ركام الأيام.

ما بين الحلم والحقيقة هناك حروف الهامش تلك التي نكتبها ونحن نرتجف نقرأها ونحن نختنق نحفظها في القلب لا في الذاكرة وننثرها متى أقبل الغياب أو طال بنا الانتظار حروف لا تستأذن ولا تعتذر لا تبحث عن تصفيق بل عن صدى.

زبدة القول أن الهامش ليس فراغًا بل هو جوهرُ القول في زمن الصخب وهو البيت الحقيقي لكل من ظلّ خارج الصور المعلّقة فوق جدران المؤسسات هو الحلم حين يتعب من التجمّل فيلجأ إلى صمته الشريف فيكتب نفسه حروفًا خفيفة بين الحلم والحقيقة.