محمد بوفتاس: تعظيم الحسين ونسله.. تعصب لآل البيت النبوي أم ولاء للدم الملكي الفارسي؟

محمد بوفتاس: تعظيم الحسين ونسله.. تعصب لآل البيت النبوي أم ولاء للدم الملكي الفارسي؟ التشيع جزء منه شكل من أشكال الولاء الفارسي المقنّع
من يتأمل في التراث الشيعي، ويقف عند حجم التبجيل الذي يحيط بالحسين بن علي ونسله من الأئمة، لا يمكنه إلا أن يتساءل عن الدوافع العميقة التي جعلت من هذه السلالة بالذات محورًا للولاء العقائدي والعاطفي والسياسي لملايين من الناس، عبر قرون من الزمن. فالحسين، وإن كان حفيد النبي محمد، ليس الوحيد من أهل البيت الذين لهم قرابة مباشرة بالرسول، بل هناك أبناء عليّ الآخرين، والحسن بن علي الذي هو شقيقه الأكبر، بل وحتى العباس بن علي الذي استشهد معه في كربلاء. ومع ذلك، فإن مركزية الحسين وذريته في المخيال الشيعي لا تُضاهى. فما سر هذا التمييز؟ هل هو تعظيم صادق لآل البيت النبوي بوصفهم ورثة النبوة، أم هو في عمقه ولاء خفي للدم الفارسي الملكي الذي دخل إلى البيت العلوي عبر زواج الحسين من ابنة كسرى؟
 
الرواية التاريخية المعروفة تقول إن الحسين تزوج شاه زنان، ابنة يزدجرد الثالث، آخر ملوك الفرس الساسانيين، وإنها أنجبت له الإمام علي زين العابدين، ومنه جاء نسل الأئمة الإثني عشر. وهكذا يصبح الأئمة ليسوا فقط من نسل النبي، بل أيضًا من سلالة كسرى، ما يجعلهم، في الوعي الجمعي، يجمعون بين الشرعية النبوية والهيبة الملكية الإمبراطورية. هذا الامتزاج بين النبوة والملك، بين الدين والسيادة، بين الروح المحمدية والنسب الكسروي، لم يكن تفصيلاً عابرًا في تشكّل الهوية الشيعية، بل صار ركيزة رمزية عميقة، تفسر جزئيًا سر التقديس الذي يُحيط بهذه السلالة. فمن الطبيعي أن يجد الفرس المهزومون حضاريًا في الفتح الإسلامي، متنفسًا لاستعادة الذات من خلال التعلق بهذه الرمزية الجديدة، التي أعادت لهم كرامة مفقودة تحت عباءة الولاء الديني.
 
لا يمكن فهم هذا التعلق بالحسين ونسله دون استحضار الجرح الحضاري العميق الذي خلّفه سقوط الدولة الساسانية على يد العرب المسلمين. فقد كان هذا السقوط ليس مجرد نهاية سياسية، بل انهيارًا للهوية، ولحلم تاريخي بالإمبراطورية. ورغم دخول الفرس في الإسلام، إلا أن الحاجة النفسية والرمزية لإعادة بناء الذات لم تختفِ. وهنا يظهر التشيع كمساحة لاستيعاب هذا الجرح، وتدويره في شكل من أشكال الثأر الرمزي. فبينما اعتُبر الخلفاء الراشدون، لا سيما أبو بكر وعمر، رموزًا للفتح العربي، وبالتالي رموزًا للهزيمة الفارسية، جاء آل البيت – والحسين خصوصًا – كمظلومية مقدسة، ناصعة، تقف في وجه الظلم والهيمنة، وتحمل الدم النبوي والدم الملكي معًا. فكان هذا الالتصاق بالحسين ونسله ليس فقط وفاءً لمحمد، بل وفاءً لكسرى أيضًا، في ثوب جديد، ديني هذه المرة.
 
إن التشيع، كما تشكل في إيران بالذات، لم يكن محض انتماء ديني لآل البيت، بل كان أيضًا انبعاثًا قوميًا متخفيًا، يلتف حول رمز يجمع بين العروبة والإمبراطورية الساسانية. من هنا نفهم كيف أن التشيع الصفوي قد مجّد كربلاء، وجعل منها أعظم من بدر وأُحد والفتح، وكيف تحوّلت عاشوراء إلى طقس سنوي يُستعاد فيه كل جرح، وتُسكب فيه كل دمعة، ويُعاد فيه تمجيد المأساة وكأنها بوابة الخلاص. فالبكاء هنا ليس فقط حزنًا على الحسين، بل نوع من التماهي مع شخصية تمثل الهوية الفارسية المظلومة المنتقمة، التي وإن ماتت بالسيف، فإنها عادت بالدم، وورثت الإمامة، وكتبت لنفسها مجدًا جديدًا تحت غطاء ديني لا يُرفض.
 
وحين نتمعن في غياب هذا التبجيل عن أبناء علي الآخرين، نفهم أن ما جعل الحسين فريدًا لم يكن فقط استشهاده، بل نسب زوجته. فأبناء الحسن، أو محمد بن الحنفية، أو حتى العباس، لا ينحدرون من دم ملكي، ولذلك لم تُخلع عليهم نفس الهالة الرمزية، ولم يُعطوا نفس الشرعية العقائدية التي منحتها الروايات للأئمة من نسل الحسين فقط. فالمسألة لم تعد فقط دينًا، بل نسبًا، ولم تعد فقط مذهبًا، بل سلالة تحمل في دمها روافد عربية وفارسية، تشكلت لتكون مصدر قداسة لا ينازع.
 
في ضوء كل هذا، يبدو أن التشيع – في جانبه الشعبي والوجداني على الأقل – هو في جزء منه شكل من أشكال الولاء الفارسي المقنّع، الذي وجد في الحسين مرآة يعكس فيها صورة كسرى المخلدة، كما وجد في كربلاء مسرحًا يعيد فيه سرد المأساة الكبرى، ويحوّلها إلى ملحمة دائمة. فتعظيم الحسين ونسله لم يكن فقط حبًا لآل محمد، بل كان أيضًا، وربما أساسًا، حنينًا إلى مجد كسرى، واستبطانًا لمظلومية حضارية عميقة، لم يُشفَ منها العقل الفارسي حتى اليوم.
محمد بوفتاس، باحث في الفكر والدين والمجتمع