اختيار تناول وجبة الغذاء في الطابق التاسع بمطعم المجمع التجاري Elcorte Ingles بمدينة برشلونة، لم تتحكم فيه سمعة المطبخ، إذ أن الوجبات المهيأة بالمطعم لا تختلف عن "فاست فود" (الوجبات السريعة)، وهي وجبات بدون طعم ولا "بنة". ولكن ما تحكم في الاختيار هو رمزية الساحة التي يطل عليها المطعم من الطابق التاسع، واسمها ساحة "كاطالونيا" (Placa de Catalunya).
ساحة "كاطالونيا"، التي توجد في قلب برشلونة، تبلغ مساحتها بالكاد 4 هكتارات (أي ما يعادل مساحة حديقة مردوخ بالدارالبيضاء)، لكنها ساحة مثقلة بالرمزيات ومشبعة بموروث من الإذلال الذي تعرض له شعب الكاطالان على يد الحكم المركزي بإسبانيا منذ أزيد من قرنين ونصف. إذ لم ينس الكاطالانيون إلزام حكام مدريد لقادة الكاطالان ولرموزهم بالركوع لسلالة "آل بوربون"، بعد سقوط برشلونة وإمساك هذه السلالة لمقاليد الحكم بإسبانيا في النصف الثاني من القرن 18. ولهذا يحرص الكاطالانيون على الاحتفال بعيدهم الوطني كل عام في هذه الساحة.
العيد الوطني لكل أمة، عادة ما يكون تجسيدا للانتصار في حرب ما، أو طردا للمحتل أو انتزاعا للاستقلال، لكن في حالة "الشعب الكاطالاني"، فإن يوم 11 شتنبر من كل عام هو "يوم الإذلال" الذي ولد فيه التعصب ل"الأمة الكاطلانية".
لنعد إلى الوراء قليلا لفهم مدى تعصب كاطالونيا وتمردها ضد مدريد، وعدائها لكل ماهو مركزي.
ففي سنة 1700 عرفت إسبانيا اضطرابات سياسية كبيرة بعد وفاة الملك شارل الثاني الذي لم يكن له وريث، فتنازعت على عرش إسبانيا سلالة الملك المتوفى "آل هابسبورغ" Habsbourg ( وهي سلالة حكمت إسبانيا من 1516 إلى 1700)، و "آل بوربون" La dynastie des Bourbon( وهي السلالة التي ينتمي اليها ملك إسبانيا الحالي: فيليبي السادس ابن الملك خوان كارلوس).
ونظرا لتخوفات الملكيات الأوربية آنذاك من تحالف "سلالة آل بوربون" الحاكمة بإسبانيا مع "آل بوربون" الحاكمة بفرنسا، وبالتالي تشكيل قوة مهددة لمصالح الدول الأوربية، برزت معارضة الملكيات الأوربية لتولي "آل بوربون" السلطة في مدريد خلفا لسلالة الملك شارل الثاني من "هابسبورغ" المنحدر من النمسا، فوقعت حرب أهلية طاحنة بإسبانيا.
وهنا بيت القصيد، إذ في هذه الحرب، التي دامت 13 سنة، اصطف الكاطلانيون مع حلف "آل هابسبورغ". لكن الغلبة آلت إلى " عائلة بوربون"، وتمت محاصرة برشلونة من طرف قوات "آل بوربون" إلى أن سقطت المدينة واستسلم قادة الكاطلان يوم 11 شتنبر 1714.
الماسكون الجدد بالعرش الإسباني ( عائلة بوربون)، لم يكتفوا باستسلام الكاطلانيين، بل أجبروا قادتهم على الركوع في مشهد مذل، وتم إلغاء كل المؤسسات الكاطالانية وإلغاء قوانينهم (باستثناء الحالة المدنية)، وتم القضاء على أعرافهم ومحو لغتهم من الفضاء العام. وهو ما غذى النزعة الانفصالية لدى الكاطلان منذ ذلك التاريخ إلى اليوم.
وهذا ما يفسر كيف أن الكاطالانيين حولوا المذلة إلى عزة نفس، وأصروا على جعل يوم 11 شتنبر من كل سنة، "عيدا قوميا" لهم ( يسمونه La Daida).