لقد شهدت الخدمة العمومية تجددا في آليات ومناهج اشتغالها، ذلك أنه في ظل تزايد حاجيات المرتفقين تجاه الإدارات العمومية والجماعات الترابية والهيئات المكلفة بمهام المرفق العام، شرعت الحكومات في التفكير في ضرورة التكيف مع المتغيرات الجديدة بتبني هندسة جديدة للتنمية، بدءا بتجديد مناهج التدخل العمومي واعتماد مقاربات تتوخى الفعالية والنجاعة، ذلك أن الخدمة العمومية أصبحت تتأسس على مبادئ الحكامة الجيدة والمساواة، والإنصاف في تغطية التراب الوطني واستمرارية المرافق العمومية في أداء نشاطها.
هذا، ويشكل مبدأ الإنصاف والمساواة في تغطية التراب الوطني بالشكل الذي يضع حدا للفوارق المجالية وتلبية متطلبات التنمية والحاجيات المتنامية للمرتفقين على المستوى الترابي، إحدى التحديات التي دفعت الحكومات للتفكير في العدول عن النموذج الفيبري في التدبير العمومي الذي من سلبياته البطء وتعقد المساطر الإدارية، بمقاربات وأساليب أكثر ملاءمة خاصة في ظل قصور النظام التمثيلي، حيث شكلت معضلة البيروقراطية نقطة انطلاق للتفكير في مصادر جديدة للشرعية بالموازاة مع البحث عن شركاء جدد للدولة.
هكذا، تم تبني هندسة جديدة للسياسات الترابية، بدءا بمنح الوحدات الإدارية اللامركزية المنتخبة العديد من الاختصاصات التي تتفرع منها مجموعة من الصلاحيات. ففي الوقت الذي عملت فيه بعض الدول على تبني نظام اللامركزية السياسية باعتبارها أسلوبا من أساليب الحكم السياسي داخل الدولة الفيدرالية تتمتع بمقتضاها الوحدات المحلية بسيادة داخلية تمكنها من ممارسة اختصاصات تشريعية وتنفيذية وأخرى قضائية بصورة مستقلة شريطة عدم تجاوز الاختصاصات الممنوحة لها بموجب الدستور الفيدرالي الذي ينظم شؤون الاتحاد الفيدرالي داخل الدولة المركبة (أمريكا؛ سويسرا وألمانيا)، هناك دول أخرى تبنت واختارت نظام اللامركزية الإدارية باعتبارها نمطا من أنماط التنظيم الإداري يقوم على توزيع الوظيفة الإدارية بين المركز والمحيط، إما على أساس إقليمي وترابي تحت رقابة الدولة ووصايتها، وإما على أساس مرفقي باعتراف الدولة لمرفق عمومي بالشخصية الاعتبارية وتكليفه بنشاط معين وخضوعه لوصايتها.
فاللامركزية الترابية تقوم على تخصص جغرافي وإقليمي مع انتخاب المؤسسات التي تشرف عليه، في حين اللامركزية المرفقية تتأسس على تخصص وظيفي مع تعيين الأجهزة التي تسهر على تدبيره، ينضاف إلى ذلك كون اختصاص اللامركزية الترابية مقيد بنطاق ترابي لإقليم معين، في حين اختصاص اللامركزية المرفقية مرتبط بالغرض الذي أنشئت من أجله، وهو الأمر الذي يجعل اللامركزية الإدارية تختلف عن اللامركزية السياسية في كون الأولى تهم الوظيفة الإدارية دون السياسية، كما أنه يمكن تصور وجودها بالدول البسيطة والمركبة.
هذا، وبالرغم من تبني العديد من الدول لأسلوب اللامركزية السياسية، واللامركزية الإدارية بجانب عدم التركيز الإداري باعتباره الصورة الثانية للمركزية الإدارية، أو كما يسميه البعض المركزية الإدارية المخففة أو المعتدلة، التي تهدف إلى تخفيف العبء عن الحكومة المركزية عن طريق تقنية تفويض السلطة أو الإمضاء خاصة أمام تعقد الإجراءات والمساطر الإدارية وكثرة اتصال المرتفقين بالإدارة لقضاء مصالحهم، كما أن أزمة التدبير البيروقراطي المركزي وقصور الديمقراطية التمثيلية رافقتهما أيضا انتظارات وتطلعات المواطنين الذين أصبحوا غير راضين عن الخدمة الإدارية العمومية التي تقدمها المرافق العمومية التي تنظر لهم كزبناء خاضعين لمخرجاتها وقراراتها الإدارية، بل أصبحوا يرغبون في أن يكونوا شركاء لها في عملية صناعة القرار وفق منهجية تشاركية، وأن تكون الخدمات التي تقدمها لهم في مستوى تطلعاتهم، لأن الإدارة أساسا موضوعة لخدمة وتلبية حاجيات المرتفقين، كل هذه المعطيات كانت شبيهة بنقطة الزيت التي قد تسقط على جزء صغير من الورقة، إلا أنها سرعان ما تنتشر على مساحة كبيرة داخل الورقة. هكذا، كانت بداية شيوع مفهوم الديمقراطية التشاركية أو الدامجة التي تهدف إلى تذليل العقبات والصعوبات التي تحول دون المشاركة الفعلية للمواطنين والهيئات المدنية في صناعة وصياغة القرار الإداري والعمومي إلى جانب الفاعل الرسمي وتحقيق إدماج المجتمع المدني في هندسة التنمية بمستوييها الوطني والترابي.
أولا: الدولة باعتبارها الفاعل المركزي في هندسة التنمية الترابية: في الحاجة لهندسة لا متمركزة للتنمية؟
بموجب الفصل 89 من الدستور تعمل الحكومة، على تنفيذ البرنامج الحكومي وعلى ضمان تنفيذ القوانين، والإدارة موضوعة تحت تصرفها. طبعا من خلال هذا الفصل يبدو جليا وواضحا أن أول وظيفة أساسية للحكومة تتجلى في تنفيذ البرنامج الحكومي باعتباره ميثاقا أخلاقيا وأدبيا يربطها بالناخبين، وبموجب الفصـل 93 من الدستور يعتبر الوزراء مسؤولون عن تنفيذ السياسة الحكومية التي تشمل بمدلول الفصل 92 من الدستور السياسات العمومية والسياسات القطاعية باعتبارها الأجرأة الفعلية للسياسة العامة التي تقدمها الحكومة في مختلف المجالات، ولا يمكن مباشرتها إلا بعد حصول رئيس الحكومة على التعيين الملكي، وبعد تقديم البرنامج الحكومي أمام مجلسي البرلمان والتصويت عليه من لدن مجلس النواب بالأغلبية المطلقة، طبقا للفصـل 88 من الدستور. ومن الناحية المبدئية يتضمن البرنامج الحكومي الخطوط العريضة للعمل الذي تعتزم الحكومة القيام به في ميادين السياسة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية.
إن تدخل الحكومة في هندسة التنمية الترابية فرضته عدة مبررات، في مقدمتها تطور وظائف الدولة مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945، لتأخذ بعدا تصاعديا، حيث أصبحت تتدخل في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، كما حضر بشكل أساسي المحدد التنموي في وظائفها الإدارية، صحيح أن نظام المركزية ما زال يعتبر أسلوبا ضروريا لإدارة بعض المرافق العمومية سيما السيادية والحيوية التي يجب أن يبقى أمر تدبيرها مسنودا للدولة بصورة حصرية ونخص بالذكر مرفق الأمن والدفاع والقضاء والعلاقات الدولية، فضلا عن أن إشراف الدولة على هندسة التنمية الترابية، يُفترض فيه تحقيق المساواة والانصاف. وإذا كان إشراف الدولة على المرافق الحيوية له مبرراته السيادية والأمنية، فإن استمرارها في هندسة التنمية الترابية فَقَدَ حاليا بعضا من مبرراته الكلاسيكية، فمن الناحية السياسية فيه اشغال للإدارة المركزية بمسائل قليلة الأهمية وفيه حرمان للهيئات اللامركزية من المشاركة الفعلية في هندسة السياسات الترابية.
فاللامركزية الإدارية تتأسس على إشراك الساكنة في اختيار ممثليهم عن طريق الانتخاب وتخفيف العبء عن الإدارة المركزية، ويجعلها تتفرغ لأداء وقيادة الوظائف الإستراتيجية وإدارة المرافق العمومية الحساسة، فضلا عن أن نظام اللامركزية الإدارية هو الأقدر على مواجهة الأزمات الطارئة التي قد تظهر بشكل فجائي ويتطلب حلها تدخلا فوريا، وهذه المبررات هي التي تبرر توجه العديد من الدول إلى تبني فلسفة جديدة في توزيع الاختصاص بين الإدارة المركزية ومصالحها الخارجية وإعادة ضبط العلاقة بين الدولة والجماعات الترابية. وهذا الأمر يمكن الوقوف عليه من خلال مقتضيات المرسوم رقم 2.17.618 بمثابة ميثاق وطني للاتمركز الإداري الصادر في 26 دجنبر 2018، الذي تنطوي مقتضياته على فلسفة جديدة تتوخى حصر أدوار الإدارة المركزية، بموجب المادة 14، في المهام التي تكتسي طابعا وطنيا أو يتعذر إنجازها من قبل المصالح اللاممركزة، أي أن دور الإدارة المركزية يتحدد في بلورة التصور العام وتأطير السياسات العمومية، لكن مع ترك التنفيذ للمصالح اللاممركزة أو الخارجية، حيث أكدت مادته 5 على أن سياسة اللاتمركز الإداري تقوم على مرتكزين أساسيين، المرتكز الأول الجهة باعتبارها الفضاء الترابي الملائم لبلورة السياسة الوطنية في مجال اللاتمركز بالنظر لما تحتله من صدارة في التنظيم الإداري انسجاما مع روح الفصل 143 من الدستور الذي بوأ الجهة مكانة الصدارة بالنسبة للجماعات الأخرى.
والمرتكز الثاني: الدور المحوري لوالي الجهة باعتباره ممثلا للسلطة المركزية على المستوى الجهوي فيما يتعلق بتنسيق أنشطة المصالح اللاممركزة والخارجية والسهر على حسن سيرها ومراقبتها تحت سلطة الوزراء المعنيين بالشكل الذي يحقق النجاعة والإلتقائية، على اعتبار أن الفصل 145 من الدستور منح ولاة الجهات وعمال الأقاليم والعمالات صلاحية تمثيل السلطة المركزية على مستوى الجماعات الترابية، والعمل باسم الحكومة على تأمين تطبيق القانون، وتنفيذ النصوص التنظيمية للحكومة ومقرراتها، وممارسة المراقبة الإدارية، ومساعدة رؤساء الجماعات الترابية خاصة الجهات على تنفيذ المخططات التنموية، وتنسيق أنشطة المصالح الخارجية تحت سلطة الوزراء المعنيين.
ثانيا: دور الجماعات الترابية في هندسة التنمية الترابية: الإكراهات والصعوبات
بحسب الفقرة الأخيرة من الفصل الأول من دستور 2011، التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لا مركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة. وبموجب الفصـل 137 من الدستور تساهم الجهات والجماعات الترابية الأخرى في تفعيل السياسة العامة للدولة وكذا في إعداد السياسات الترابية، وبناء على الفصل 140 منه للجماعات الترابية، بناء على مبدإ التفريع، اختصاصات ذاتية؛ وأخرى مشتركة مع الدولة وأخرى منقولة إليها من الدولة، وهي نفس الهندسة الوظيفية التي تمت أجرأتها من خلال: القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات؛ القانون التنظيمي رقم 112.14 المتعلق بالعمالات والأقاليم، ثم القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات. وإذا كان الدستور والقوانين التنظيمية للجماعات الترابية واضحة في تحديد اختصاصات كل صنف من الأصناف الثلاثة للجماعات الترابية في ما يتعلق بهندسة التنمية الترابية، فإنه انطلاقا من فكرة أن القانون الفعلي هو الذي تختبره الممارسة فقد أظهرت التجربة أن تدخل الجماعات الترابية في هندسة التنمية الترابية داخل مجالها الجغرافي يصطدم بعدة صعوبات منها الصعوبات المالية أساسا.
صحيح أنه بموجب الفصـل 141 من الدستور تتوفر الجماعات الترابية، على موارد مالية ذاتية، وموارد مالية مرصودة من قبل الدولة، وصحيح أن كل اختصاص تنقله الدولة إلى الجهات والجماعات الترابية الأخرى يكون مقترنا بتحويل الموارد المالية المطابقة له، بيد أن أغلب الجماعات الترابية تعاني خصاصا ملحوظا في الموارد المالية باعتبارها أداة لتمويل البرامج التنموية، ذلك أن أغلب الموارد الذاتية للجماعات الترابية يبقى مصدرها الأساسي هو الرسوم المستحقة لفائدة الأخيرة بموجب القانون رقم 47.06 المتعلق بجبايات الجماعات الترابية، كما وقع تغييره وتتميمه، فالرسوم المستحقة لفائدة الجماعات محصورة بموجب المادة 2 منه والتي تتكون من 11 رسما أهمها الرسم المهني؛ رسم السكن ورسم الخدمات الجماعية؛ ثم الرسوم المستحقة لفائدة العمالات والأقاليم وهي المحصورة في المادة 3 منه وهي ثلاثة أنواع، ونفس الأمر بالنسبة للجهات ثلاث رسوم محددة في المادة 4 من هذا القانون، غير أن تمويل أغلب المشاريع التنموية بالجماعات الترابية في أمر الواقع تواجهه عدة تحديات منها عدم كفاية الموارد الذاتية المتأتية من عائدات الرسوم المحلية خاصة بالنسبة للجماعات القاعدية وبشكل أخص التي توجد في مناطق نائية، تحديات جعلت تمويل المشاريع والبرامج التنموية يتوقف على صنفين من التمويل:
الصنف الأول: يتمثل أساسا في حصة الجماعات الترابية من حصيلة الضريبة على القيمة المضافة، التي تحولها لها وزارة الداخلية، فبالرغم من أن الحكومة الحالية في إطار تعزيز الموارد المالية للجماعات الترابية، قامت بموجب قانون المالية 2025 برفع حصة الجماعات الترابية من الضريبة على القيمة المضافة من %30 إلى %32، ابتداء من سنة 2025، وصحيح أنه طبقا لأحكام المادة 188 من القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات، تُرصد للجهات نسبة %5 من حصيلة الضريبة على الشركات، ونسبة 5% من حصيلة الضريبة على الدخل، غير أن هذا الأمر يجعل مداخيل الجماعات الترابية ترتكز بنسبة أساسية على تحويلات الدولة، سيما المتأتية من الضريبة على القيمة المضافة، مما يؤثر على الاستقلالية والاستدامة الماليتين للجماعات الترابية، خاصة إذا ما علمنا بأن ميزانية هذه الجماعات تتكون %40.3 منها من عائدات الضريبة على القيمة المضافة، بحسب نشرة الخزينة العامة للمملكة في أواخر أكتوبر 2024.
الصنف الثاني: صندوق التجهيز الجماعي الذي أحدث عام 1959، حيث يقدم الأخير للجماعات الترابية المساعدة التقنية والمالية في شكل قروض وسلفات مالية، غير أن مساهمته في تمويل مشاريع الجماعات الترابية تبقى ضئيلة جدا وخاضعة لشروط صارمة ولا تتعدى نسبتها أكثر من %5 من نسبة التمويل المحلي، فضلا عن عدم انجاز العديد من البرامج، وذلك بسبب تَوَقُّع تمويلها من قبل هذا الصندوق الذي رفض توقيع عقود قروض مع بعض الجماعات التي لا تتوفر على مؤشرات استدانة مقبولة داخل ميزانيتها العامة، بحسب التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات 2015، ص 144، وتقرير المجلس الأعلى للحسابات 2023 ص 200.
فبالرغم من أهمية الصنفين الأول والثاني باعتبارهما آليتين لتمويل البرامج على مستوى الجماعات الترابية، إلا أنهما يطرحان مشكلتين: الأولى تهم الاستقلال المالي للجماعات الترابية، والثانية تتعلق بانعدام الاستدامة المالية مما يؤثر على القدرات المالية للجماعات الترابية، خصوصا المتمركزة في مناطق نائية، ذلك لأن الصنفين فيهما ارتهان كبير إلى التحويلات المالية المتأتية من الدولة والقروض المالية التي يمنحها صندوق التجهيز الجماعي، مما يجعلها تفتقد لروح المبادرة في تمويل مشاريعها، صحيح أن الرفع من حصة الضريبة على القيمة المضافة يشكل خطوة إيجابية، إلا أنها لا تعالج المشاكل التمويلية على مستوى العديد من الجماعات القاعدية النائية، التي تجد صعوبات في أداء أجور الموظفين والمستخدمين، كلها إشكاليات تنضاف لمشكلة الباقي استخلاصه وما يطرحه من صعوبات تتعلق بتحصيله التي تحفها العديد من المشاكل والتحديات الواقعية التي تحول دون الرفع من حصيلة الموارد الذاتية للجماعات الترابية.