حين نتأمل التصور الشائع في الثقافة الإسلامية عن عذاب القبر، نجد أنفسنا أمام مشهد مرعب، تتخلله صور مخيفة لمساءلة الميت من طرف ملكين مرعبين، وضرب بالمطارق، وضيق في اللحد، وصراخ لا يسمعه أحد، وكأن الميت يدخل مباشرة بعد موته إلى مرحلة من الجحيم المصغر، يذوق فيه ألوان العذاب أو النعيم. وهذا التصور راسخ في الوعي الجمعي للمسلمين، وتتناقله الكتب والمواعظ والجنائز بشكل يومي، إلى درجة أصبح فيها من المسلمات التي لا تقبل النقاش أو المساءلة، بل قد يُتهم من يشكك فيها بالابتداع أو الإنكار. غير أن البحث في جذور هذه الفكرة، وتحليلها من زاوية قرآنية خالصة، يضعنا أمام حقيقة مغايرة تماماً، بل صادمة أحياناً، وهي أن القرآن الكريم لم يذكر أبداً، لا من قريب ولا من بعيد، شيئاً اسمه عذاب القبر. بل إن البنية الكاملة للخطاب القرآني، حين يتحدث عن الموت والبعث والحساب، تؤكد على أن العذاب أو النعيم لا يكون إلا بعد البعث يوم القيامة، وليس بعد الموت مباشرة. يقول الله تعالى في سورة المؤمنون: "حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلّي أعمل صالحاً فيما تركت، كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون"، وهذه الآية تُعدّ من النصوص المفصلية التي تنفي بشكل واضح وجود حياة واعية أو حساب أو عذاب بعد الموت مباشرة، إذ إنها تؤكد أن الموت هو بداية مرحلة "البرزخ" التي تمتد إلى يوم البعث. فالموت في الرؤية القرآنية انتقال إلى طور من السكون والفقدان الكامل للوعي، أشبه بالنوم العميق الذي لا شعور فيه، إلى أن يُنفخ في الصور فيُبعث الناس من قبورهم. هذه الحقيقة تزداد وضوحاً إذا تأملنا الآيات التي تتحدث عن مشهد القيامة، إذ أن الله يخاطب الكفار قائلاً: "قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا؟ هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون"، وهنا يصفون قبورهم بأنها "مرقد"، أي مكان نوم، وليس مكان عذاب، وهو ما يتناقض كلياً مع التصور السائد عن القبر كمكان تعذيب دائم.
لكن من أين جاءت إذن فكرة عذاب القبر؟ ولماذا ترسخت بهذا الشكل؟ إن الجواب عن هذا السؤال يقودنا إلى لحظة تشكل العقل الإسلامي في القرون الأولى، حين بدأت المدونات الحديثية تنقل أقوالاً منسوبة إلى النبي تتحدث عن القبر وملائكته وسؤال منكر ونكير وضرب الميت وتشقيق فمه، وغيرها من الصور المخيفة. هذه الأحاديث، رغم أنها لاقت قبولاً واسعاً بين جمهور العلماء، إلا أن كثيراً منها ضعيف أو متناقض أو مروي عن طرق آحاد لا تقوى على تأسيس عقيدة غيبية راسخة. فضلاً عن ذلك، فقد تسرّبت إلى التصور الإسلامي عناصر من الثقافات المحيطة، خصوصاً الفارسية واليهودية، حيث كانت فكرة العذاب ما بعد الموت جزءاً من تصوراتهم الميتافيزيقية، وتمت إعادة إنتاجها في بعض المرويات الدينية الإسلامية، إما من خلال الإسرائيليات، أو نتيجة الحاجة إلى تخويف العامة وترهيبهم في زمن بدأت فيه السلطة تستخدم الدين كوسيلة لضبط السلوك الاجتماعي.
إن الإصرار على الإيمان بعذاب القبر هو في الحقيقة نتيجة لهيمنة الرواية الحديثية على الفهم الإسلامي، في مقابل إقصاء متعمد أو غير واعٍ للمرجعية القرآنية. فالعقل السني التقليدي قدّم الحديث على القرآن في كثير من المواضع، وصنع بذلك تصورات دينية لم يكن للقرآن أي يد فيها. بل إن بعض العلماء اعتبروا من ينكر عذاب القبر خارجاً عن أهل السنة والجماعة، رغم أن المسألة في أصلها ليست سوى تصور غيبي لم يُؤسس في القرآن، ولا يجوز تكفير من لا يعتقده، لأن العقيدة لا تُبنى إلا على القطعيات الواضحة. وفي هذا السياق يجب أن نميز بين الغيبيات التي جاءت في القرآن بشكل صريح، وبين الغيبيات التي نُقلت عبر روايات غير متواترة أو ذات طابع رمزي أو شعبي. فالأولى مثل البعث والحساب والميزان والصراط والجنة والنار، هي أركان لا خلاف حولها، أما الثانية، مثل عذاب القبر، فهي اجتهادات وتصورات تراكمت بفعل الزمن والسلطة والهوى، ولا يجوز فرضها على الناس أو اتهام من ينكرها بالضلال.
ما يعزز هذا الطرح أيضاً، هو غياب أي إشارة إلى عذاب القبر في القرآن رغم أنه تضمن عشرات المواضع التي تتحدث عن الموت، والآخرة، والجزاء، والمصير. أليس من الغريب أن يغفل الله، جل جلاله، عن ذكر هذا العذاب المزعوم، بينما يصر بعض الفقهاء على جعله من ركائز العقيدة؟ وهل يجوز أن نعتمد في بناء تصور عن الغيب على نصوص ظنية متناقضة، ونهمل كلام الله المبين؟ إن الإنصاف العقلي والصدق الإيماني يفرضان علينا أن نعيد النظر في كثير من المسلمات التي ورثناها دون تمحيص، وأن نعود إلى القرآن باعتباره المصدر الأول والأعلى للفهم والتصور. فالله لم يكلفنا إلا بما جاء في كتابه، ولم يطالبنا بالإيمان إلا بما أنزله بوضوح، وقد أخبرنا أن من ابتدع في دينه ما لم ينزل به سلطاناً، فإنما يُفترى على الله الكذب.
إن التحرر من خرافة عذاب القبر لا يعني إنكار اليوم الآخر أو تبسيط العقاب والثواب، بل هو محاولة لفهم الدين من منبعه الأصيل، وتنقية العقيدة من الصور الدخيلة التي شوهت علاقتنا بالموت والحياة. فبدل أن يُقدَّم الموت على أنه بداية لعذاب رهيب، يجدر بنا أن نفهمه كما وصفه الله: انتقال إلى سكون مؤقت، يليه البعث والحساب، حيث ينال كلٌّ جزاءه بالعدل والرحمة. فالله لا يعجل بالعقوبة، ولا يعذب أحداً قبل أن يُقيم عليه الحجة، وهو أرحم من أن يدفن إنسان في الأرض لتبدأ عليه سلسلة من الضربات والعذابات قبل يوم الحساب. لقد آن الأوان لنطرح الأسئلة الصعبة، وأن نعيد ربط إيماننا بالقرآن، لا بالخرافة. فليس كل ما رواه السابقون وحُفظ في الكتب يجب أن يُؤخذ على علاته، وليس كل ما نُسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يرقى إلى درجة العقيدة. إن العقل المسلم اليوم مدعو إلى صحوة حقيقية، تنبع من الإخلاص لله وحده، ومن الثقة بأن القرآن قد كفى وشفى، ومن الشجاعة في مواجهة الخرافة باسم الحقيقة.
محمد بوفتاس
باحث مهتم بقضايا الفكر والدين والمجتمع