يكتسي البرنامج الوطني للتخييم أهمية كبيرة، ليس فقط بوصفه نشاطًا موسميا، بل لأنه أثبت، عبر تاريخه، أنه مختبر بيداغوجي للقيم، وآلية بديلة في البناء الرمزي والمعرفي للطفولة، مما جعله يحتل موقعًا استراتيجيًا في السياسات العمومية. ومع ذلك، يظل السؤال الجوهري مطروحًا: إلى أي مدى يعكس هذا البرنامج، في مضمونه وتدبيره، رؤية حقيقية للنهوض بالطفولة المغربية؟ وهل تنسجم الممارسة الميدانية مع ما يُرفع من شعارات حول "الاستثمار في الرأسمال البشري"، خاصة في ظل ما تشير إليه أصوات فاعلة من الحقل الجمعوي بخصوص تفويت هذه فضاءات الطفولة والشباب، وإخضاعها لمنطق السوق؟
إن هذه الأسئلة تكشف بوضوح أن المخيمات الصيفية الموجهة للأطفال ليست بمنأى عن التوتر بين وزارة الشباب «الوصية على القطاع» وبين الفاعلين الجمعويين. وهذا ما يعكسه البيان الصادر يوم 5 يونيو 2025، عن الاجتماع الاستثنائي لـ «اتحاد المنظمات المغربية التربوية»، إذ وصف البيان الوضع بـ «الخطير»، متهمًا الحكومة بتجاهل نداءات الفاعلين، والمضي قدمًا في تفويت مراكز استقبال وتخييم الجيل الجديد إلى جهات استثمارية، تحت غطاء «الشراكة»، وفي تغييب لأي مقاربة تشاركية.
وسجّل اتحاد المنظمات التربوية أن عدد عدد المستفيدين من المخيمات تراجع على نحو مهول بنسبة 70%، الأمر الذي يميط اللثام عن أزمة حقيقية عنوانها الأكبر التناقض بين الخطاب الرسمي حول الدولة الاجتماعية، والممارسة التي تتجه نحو «تسليع» الفضاءات التربوية، وهو ما يُفرغ التخييم من رسالته التكوينية، ويدفعه إلى منطق الخدمة المؤدى عنها، مما يُقصي الفئات الأكثر هشاشة، ويحوّل التخييم من حق جماعي إلى سلعة محكومة بالقدرة الشرائية. وهنا ينهار مفهوم «الفضاء العمومي»، ونصبح أمام امتياز لصالح الفئة القادرة على الأداء، لأن المال سيصبح هو المحدد الرئيس للولوج إلى المخيمات.
تحذير اتحاد المنظمات التربوية لا يمكن التغاضي عنه إطلاقا، رغم «الموقف الرسمي» الذي ينتصر للطفولة، إذ يعيد إلى الواجهة سؤال السيادة على الفضاء العمومي، وجدوى الشراكة بين وزارة الشباب والمجتمع المدني، وفداحة انقسام فضاءات الطفولة و«تفييئها» اجتماعيا، وكلفة التمايزات الاجتماعية، في زمن تُمتحن فيه الديمقراطية التشاركية والمساواة القانونية على أرض الواقع، مما يهدد العقد الاجتماعي نفسه.
في قلب هذا الجدل، يقدم «الحق في التخييم» نفسه بوصفه حقا أساسيا ينبغي حمايته والدغاع عنه، لا باوصفه نشاطًا مناسباتيًا ينتهي بنهاية الصيف، بل مكونًا من مكونات الدولة الاجتماعية، بما تعنيه من ضمان لتكافؤ الفرص، وتأمين لفضاءات تربوية عمومية تُتيح للأطفال، كل الأطفال دون تمييز، الحق في التعبير والإبداع والانخراط في الحياة العامة، بكل ما تحمله التربية على المواطنة من قيم، وعلى رأسها المسواة القانونية والحقوقية.
من هذا المنظور، فإن المساس بفضاءات الطفولة والشباب، سواء من خلال تقليص العرض أو تفويتها، يُعد تهديدًا مباشرًا لمكتسبات الطفولة المغربية، ولتراكمات طويلة من العمل الجمعوي الذي شكّل رافعة أساسية في تأطير الطفولة منذ عقود. وهنا لا بد من التمييز بين «تحديث» مؤسسات التخييم و«خوصصتها»، وبين «النجاعة» و«الإقصاء»، وبين «الشراكة» و«الاستيلاء». ذلك أن الاستثمار في الطفولة لا يقاس بالعائدات المادية، بل بمستوى ما تتيحه هذه الفضاءات من فرص لبناء الإنسان المواطن. هذا هو الرهان الحقيقي الذي وضعت من أجله هذه الفضاءات التي ينبغي النظر إليه بوصفها مجال لبناء الإنسان، وليس مجالا تجاريا للتنافس على المكاسب المالية.
وإذا كانت وزارة الشباب تطمح إلى الربط بين التخييم والانتماء الوطني، وتسعى، لتأكيد ذلك، إلى إدماج فئات متعددة «أطفال الجالية، فئات الهشاشة، ومشاركون من مناطق نائية»، فإن هناك مجموعة من التحديات البنيوية التي تفرض وجودها، من حيث البنيات التحتية، والتكوين، والموارد، مما يُلزم بمزيد من النقد الداخلي، وإشراك الفاعلين الجمعويين والتربويين في التقييم المرحلي للمشروع. إذ لا يكفي، مثلا، إطلاق «مخيمات التجوال الكشفي» التي تمزج بين التخييم والبعد البيئي، أو الاتجاه نحو تبني مشاريع رقمية إدماجية تعتمد الذكاء الاصطناعي داخل بعض المخيمات النموذجية، لنسلم بأن هناك تحوّلا نوعيا في فلسفة التخييم، ذلك أن «البرنامج الوطني للتخييم»، لا يحتاج إلى «نوايا حسنة»، بل يتطلب أساسا كفاءات معرفية وعاطفية، وقدرة على بلورة مشروع بيداغوجي يدمج القيم والاختلاف، ويؤطر الأنشطة وفق رؤية دامجة تستجيب للحاجيات الحقيقية للأطفال. فالمخيم، في هذا المنظور، ليس تنظيمًا ظرفيًا للزمن، بل مشروع تنشئة اجتماعية متكامل يجيب على سؤال: «أي مواطن نريد لمغرب الغد؟».
يضع التربويون الميدانيون الفاعلون بشكل مباشر في الخيمات الأصبع على الجرح، فالإكراهات الحقيقية لا تتصل فقط بالمحاولات المستمرة لتفويت فضاءات الطفولة والشباب للخواص، منذ مرحلة منصف بلخياط، الذي وضع المخيمات ودور الشباب ومراكز الاصطياف في المزاد، لولا يقظة الجمعيات والأعلام، بل بما تتطلبه العمليات الميدانية اليومية داخل المخيم، وعلى رأسها ضعف التكوين، وصعوبة التعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة، وهشاشة الموارد اللوجستية، وغياب مستلزمات الدعم النفسي والتربوي، ويصل الأمر أحيانا إلى سوء التغذية، هذا على الرغم من وجود بعض الإشراقات بفضل اشتغال الفريق التربوي وفق منهجية تشاركية، وتفعيل ورشات متنوعة مثل المسرح التفاعلي، التربية على حقوق الإنسان، والأنشطة الرياضية.
لقد كان إطلاق استراتيجية «التخييم للجميع» في عهد الوزير الأسبق محمد الكحص لحظة مفصلية في تاريخ التخييم في المغرب. إذ أثبت الفريق الذي اشتغل معه أن الأمر لم يكن مجرد شعار ظرفي، بل رؤية استراتيجية تراهن على دمقرطة الولوج إلى المخيمات، وتوسيع العرض التربوي ليشمل فئات لم تكن ممثلة بالشكل الكافي، خاصة أطفال الهامش، والمناطق القروية، وأبناء المهاجرين. وقد استندت هذه الرؤية إلى منطق تكاملي يجعل من الدولة شريكًا داعمًا، لا وصيًا متعاليًا، في علاقة تعاقدية مع الحركة الجمعوية التربوية، بما يحقق التوازن بين إشراف القطاع الحكومي واستقلالية الجمعيات. كما وضعت تلك الاستراتيجية اللبنة الأولى لربط التخييم بالمواطنة الفاعلة، والتنمية البشرية، والمساواة في الفرص، وفتح أفق التكوين المستمر للأطر، وإنشاء مراكز استقبال تراعي الكرامة والعدالة المجالية. وهو ما تشهد به كل الجمعيات الفاعلة، وعلى رأسها اتحاد المنظمات التربوية، التي تتحسر على مآل استراتيجية «التخييم للجميع»، وكيف تعرضت للوأد، كما تعرض صاحبها للإبعاد، رغم أنها حظيت بتأييد واسع في الأوساط الجمعوية.
فمنذ ذلك التاريخ، شهد البرنامج الوطني للتخييم تراجعا مستمرا غير معلن، تمثل في التراجع عن دعم الجمعيات، فضلا عن تقلص الاستثمارات العمومية في البنيات، قبل أن يبلغ ذروته اليوم في التوجه نحو تفويت المراكز لجهات استثمارية، تحت ذريعة «الجيل الجديد من الفضاءات». وهو ما اعتبره الفاعلون المباشرون انحرافًا واضحًا عن منطق «التخييم للجميع»، وخيانة للطفولة المغربية، وضربا لحقها في التخييم، وتحريفا لكل رهاناته الرمزية والقيمية والمواطناتية، مما سيؤدي، في العمق، إلى تحويل الأطفال من مواطنين في طور التكوين إلى زبائن في سوق العروض التخييمية.
صحيح أن المسؤولين الوزاريون، يعلنون، اليوم، عن مشاريع ضخمة مثل «المدن التخييمية الكبرى»، و«ربط المخيم بالحماية الاجتماعية والتعليم غير النظامي»، غير أن المفارقة المؤلمة هو أن هذه المشاريع تطفو على السطح بالتزامن مع تراجع فعلي في عدد المستفيدين، كما سجّل اتحاد المنظمات التربوية ذلك في بيانه السالف الذكر، وهو ما يطرح علامات استفهام كبيرة حول مدى جدية الرؤية الحالية في استلهام منجزات الماضي وتراكماته. وهو ما يثبت أن ما تُحذّر منه الجمعيات التربوية لا يمكن تفسيره، كما يرى البعض، بمقاومة التحديث أو معاكسة التجديد وغيره من الاتهامات المغرضة والآثمة، بل هو الدفاع عن مضمون «الدولة الاجتماعية» كما تجسد في «استراتيجية التخييم للجميع»، وعن المكتسبات الرمزية لتخييم عمومي مجاني يقوم على المساواة وتكافؤ الفرض، يقوم على الإنصاف والمواطنة، لا على قانون العرض والطلب وتسليع القيم وتقويض عقد اجتماعي غير مكتوب.
تفاصيل أوفي تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية " الوطن الآن"