...وينتابه فجأة ذلك الشعور الغريب... شعور بالاختفاء تارة، وبالتمرد والغضب ورفض الانصياع تارة أخرى...
رغبة جامحة في خوض حرب لم تكن حربه، لكنه مُصرّ ومُلحّ بعجرفة، لا يأبه ولا يهتم بشيء سوى بثورانه وغضبه... يتمرد معبّرًا عن رغبته في بلوغ أمرٍ ما، بمكانٍ ما، وبسبب شيءٍ ما.
يثور في سكون قاتل، لا تكاد ترى أي شعور على ملامحه... فقد كان حريصًا على أن يترك كل التفاصيل مدفونة في داخله...
لكنه سرعان ما خارت قواه، وانكمش كل شيء فيه مناشدًا عزلته وسباته... رغبته في الانفراد، يغمره الإحساس بالغربة والوحدة...
لكنه يرفض كل شيء مئة مرة قبل أن يتلمّسه مجددًا... يغادر بلا تفكير ذلك المكان الذي لطالما ذكّره بماضٍ مؤلم...
ماضٍ كان فيه كل شيء جميلًا، لكن بطَعمٍ مرٍّ وحرّاق.
يمضي مطأطئ الرأس، حاضنًا جنبات طريق طويل تكسوه أشجار شامخة، متشابهة كالتوائم...
تعلو سماء المكان وتستحوذ عليه بأغصانها الطويلة وأوراقها الثقيلة المتدلية.
تنحني أغصانها كلما زاد طولها، تنكمش أكثر فأكثر، كأنها تتربص بالمارة، وتقبل ساجدة على أكتافهم، مداعبة إياهم على أمل أن تلفت أنظارهم إليها، أو ربما لتخفف من وطأة يومهم الممل والمتعب...
يمضي متأملًا أدقّ التفاصيل... سمفونية صامتة تضم ضجيجًا وصخبًا غريبًا، مصحوبة بخطواته الغاضبة التي تدقّ الأرض دقًا...
يُعطي انطباعًا، من مشيته تلك وإشارات يديه المتكرّرة والعفوية، أنه مستأنس في عالمه الموازي، رغم أنه متعب من التناسخ والتنقل بين الأزمنة المملة...
غريبٌ أنه لا يشعر بألمه إلا حين يعود إلى واقعه، فتضمّه الذكريات المزعجة، وتلتهم جسده النحيف...
يمشي قُدمًا... ومن حين إلى آخر، يمرّ أحدهم كطيفٍ عابر.
لا تهمه التفاصيل، إلا أنه أحيانًا يتوقّف متأملًا تفاصيل حياته، وإن بدت غير مهمة...
ساخرًا أحيانًا، ومتأسفًا أحيانًا أخرى على ما فاته منها...
كان مؤمنًا بأن الحياة، وبدقّة تفاصيلها، تكون مثالية فقط حين نكون أسرى لخيالنا وأحلامنا، دون وعي...
كان يردّد أن الاستسلام وحده يحقق كل شيء...
لم يكن يخاف من الوقوع في فخ الأقدار وغدرها، ولا من تغيّر الأشياء التي اعتادها.
لكنّه، في كل مرة يسقط، في كل مرة ينكسر قلبه وتتحطم أمانيه وآماله...
يظل متشبثًا بالحياة وبمواقفه النبيلة التي لم تمت فيه...
قد نتلقى الصفعات، مرارًا وتكرارًا، ولا نُبالي... لأننا لم نكن يومًا رهائن... لأننا لطالما كنّا أحرارًا.
خصوصًا حين نكتشف أننا كنّا ضحايا السفاهة والخبث... قلوب مسمومة، متعفنة بأبغض وأبشع الأحاسيس والتوابل التي – للأسف – تعج بدواخل البعض...
تحرق الأخضر واليابس فينا...
يأتونك بابتساماتهم العريضة، المدججة بالحقد والضغينة...
تستسلم للحظة، على أمل أن تمرّ الأحداث بلا غضب ولا هدر للطاقة...
حتى وإن نجحوا – وفي كل مرة – في حقن جذورك بسمٍّ هالك...
ما يثير انتباهي هو انسدال ستائر المستور فجأة، لتنفضح الرؤية وتنقشع كل التفاصيل...
لكننا، للأسف، في كل مرة نستهين بقدراتنا، وبأقدارنا.
...مجرد نموذج من نماذج الحياة التي تؤنسنا وتعلّمنا أننا عشنا...
وإن لم نعد، فقد كنا داخل لُعبة القدر، أو ربما نسميها خدعة بصرية، أو أحداثًا من نسج خيالنا...
نصنع لها، في كل مرة، أعذارًا وأعذارًا، كي نتقبلها...
غير أننا بذلك، نعطي أنفسنا حجة لنستأنس قليلًا، ونترك لهم العنان، بحجة أننا مشغولون بتفاصيل هم أبعد ما يكونون عنها...
نترك لهم زمام الأمور... ننتظر، دون إجبار، دون أن نبحث عن التفاصيل...
نتركهم يستأنسون بكل أريحية، اعتمادًا على خبرة لم تكن لهم يومًا...
يتحدث، يقرر، يصدر الأحكام، معتبرًا نفسه مرجعًا لفكرٍ ما، أو لفلسفاتٍ تركها أسلافه من الحكماء والنخب...
فلسفات لم تعد تنفع في زمننا هذا...
يقتنصونها من كتب الكهنة والشيوخ، ويفرضونها على من خالفهم...
فيتحول الإنسان إلى غنيمة، إما أن ينساق، أو يتمرد...
وهو، ذلك الرابح الوحيد، يتمتع بحماية مطلقة... كما الثور الهائج، حين يبصر أي حركة أو أي شخص قد يعترض طريقه، فيسحقه...
إيمانًا ورغبةً منا في ألّا نهدر طاقاتنا، نترك الأشياء تأخذ مجراها المعتاد...
سيتخبطون في الأحداث، ظنًّا منهم أنهم على الطريق السوي...
بينما نحن على سكة مختلفة، نرسم عبرها طرقاتنا على نحو أفضل وأجدى...
تاركين للوقت كلمته الأخيرة...
رجوعًا إلى بطلنا الذي لا يزال يمضي قدمًا...
يتفاجأ، بين الحين والآخر، باختفاء ذلك الصخب، الذي كاد يشقّ الأفق، بينما الأجواء حارّة...
حرارة مفرطة، لكنها لم تكن عائقًا أمام مسيرته...
ينسحب من صخب هذا الكون، هربًا من الإحباط، وكثرة التفاهات والتراهات...
عجبًا! كم هو مثير أمر هذا البشر... يرى الأشياء من زوايا تجعله سكيزوفرينيًّا، رغم أن التفاصيل ذاتها تتكرر في كل مرة...
تفاصيل قد تُبهر البعض بشموخها الكاذب، لكنها سرعان ما تتلاشى، كلما احتدّ نظر الرائي، ونُصح فكره...
كل الأشياء السلبية التي قد تواجهك، قد تلتفّ حول عنقك، تغريك، فتخنقك، وتأخذ منك آخر نفس... بلا سابق إنذار...
صديقي، تذكّر حينها أنك جزء من لعبة خبيثة، من نسج خيالك المُرهف...
متعب...
تريّث... وكن عادلًا مع نفسك...
لا تجعل من حبة يقطين قُبّةً تعلو شأنك فتفقدك السيطرة...
لا تدع الهتافات والمقامات والمغاني تُغريك، فتبهرك...
فهي مجرّد هواجس وأصوات ستتلاشى بعد حين...
ربما حان الأوان للمضي قدمًا...
لكسر تلك الشوكة المغروسة منذ سنين...
فما الهدف من أن ينتظر الجميلُ الغليظَ ليقبله، مادام يعلم أن جمال روحه أسمى من أن يكون رهينة مواقف غيره من الغلاظ...
كن الأفضل...
ولا تستهِن بما تحتويه دواخلك من شموخ، وعِلم، ومعرفة دقيقة بالأشياء...
لا تترك الأبواب مرصدة بعد الآن...
بل دع الأشياء تأتيك من تلقاء نفسها...
ولا تخجل...
ما دمت الأفضل.