في لحظة تاريخية تتقاطع فيها الأزمات الإقليمية مع التحولات المجتمعية العميقة، يُعاد طرح سؤال القيادة والنخبة في المغرب بإلحاح غير مسبوق فالهوة المتسعة بين الفعل الحزبي وبين تطلعات الشارع لم تعد مجرد ظاهرة سياسية عابرة، بل مؤشراً على أزمة بنيوية تضرب في عمق الوساطة الديمقراطية. وأمام هذا الانكماش الحزبي، تبرز المؤسسة الملكية كفاعل وطني مركزي، لا يملأ الفراغ فحسب، بل يوجه البوصلة الوطنية نحو المستقبل، بمنطق استشرافي يزاوج بين الشرعية التاريخية والفعالية المؤسسية.
إن هذه الدينامية، التي تتجلى في هندسة النخب، وفي صوغ السياسات الكبرى، وفي التمكين الهادئ للجيل الجديد من القيادة، تعيد تعريف السياسة كمجال للرؤية والجرأة، لا كمجرد منافسة انتخابية فارغة. من هنا، يصبح السؤال الجوهري: هل تعيد النخب السياسية ترتيب أولوياتها لتلتحق بزمن التحول ؟ أم تظل رهيئة زمن الارتباك تاركة القيادة وحدها تجسد قدر الأمة؟ وفي هذا الإطار، لا يمكن فصل الدينامية الملكية الراهنة عن السياق الأوسع الذي تعيشه الدولة المغربية.
ففي سياق يعرف تحولات عميقة على المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، تظل المؤسسة الملكية في المغرب فاعلاً مؤسسياً مركزياً، يضمن استمرارية الدولة ويقود مسارات التحديث من موقع استشرافي يوازن بين الثابت والمتغير ليست هذه الاستمرارية ناتجة عن سكون أو محافظة، بل هي ثمرة رؤية متجددة وقدرة على استباق التحولات وتوجيهها، في عالم يتغير بسرعة تتجاوز أحياناً قدرة المؤسسات التقليدية على التفاعل. وفي خضم هذا السياق المتحوّل، تبرز المؤسسة الملكية كفاعل استثنائي لا يكتفي برصد التحولات، بل يبادر إلى تشكيل معالمها.
وإذا كانت المؤسسة الملكية قد اضطلعت من موقعها المحوري، بدور ريادي في توجيه مسارات التحول ومواكبة التحولات الكبرى التي يشهدها العالم، فإن فهم هذا الدور لا يكتمل من دون استحضار البعد السوسيولوجي العميق الذي يميز الحالة المغربية. ففي الوقت الذي تتسارع فيه التغيرات البنيوية داخل المجتمع وتتفكك فيه منظومات القيم التقليدية تحت وطأة العولمة الرقمية وتحديات الحداثة، يعدو السؤال حول تماسك المجتمع ووحدة نسيجه أكثر إلحاحاً. من هنا، يصبح التفاعل بين القيادة المستنيرة والبنية الاجتماعية المتحولة شرطاً حاسماً في فهم الاستثناء المغربي، ومفتاحاً لقراءة كيفية صيانة الاستقرار دون الوقوع في الجمود والتحديث دون التفريط في الهوية.
في زمن السيولة الاجتماعية كما وصفه زيغمونت ،باومان، حيث تنهار الثوابت وتتفكك المرجعيات الجماعية يمثل المغرب مختبرأ استراتيجياً ناجحاً لصياغة دولة حضارة في الحفاظ على تماسكه الاجتماعي رغم تعدد مصادر الهشاشة. فهذا الامتداد الحضاري ليس مجرد ماض يُستحضر للزينة الرمزية، بل هو رافعة استراتيجية تؤطر الحاضر وتوجه المستقبل، بما يعزز مناعة الدولة، ويمنحها شرعية تتجاوز التقلبات الظرفية. فالمغرب بمنظومته الملكية وموقعه الجيوثقافي، ليس دولة حدود فقط بل دولة ذاكرة وعبور، دولة جسور لا جدران تحفظ هويتها وتحاور العالم بمنطق التراكم لا القطيعة، وبثبات الدولة الحضارة لا هشاشة الكيانات المصطنعة.
فيعكس المجتمعات التي انزلقت نحو التفكك الهوياتي أو النزاعات الطائفية، استطاع المغرب، من خلال مركزية الملكية ودورها الرمزي والمؤسساتي، أن يحافظ على رأسماله الرمزي» بالمعنى الذي قصده بيار بورديو، أي ذلك التوافق الضمني حول شرعية السلطة ومشروعيتها. غير أن هذا التماسك لا يعني غياب التحولات الصيقة بل على العكس، يشهد النسيج الاجتماعي المغربي تحولات بنيوية مرتبطة بتساعد الفردانية، وتراجع الأدوار التقليدية للمؤسسات الوسيطة، وتوسع الفضاء الرقمي كمجال لإعادة تشكيل الوعي والهوية.
وهنا تكتسي مقاربة إدغار موران لـ «تفكك التعقيد دلالة خاصة في السياق المغربي، باعتبارها إطاراً مفاهيمياً لفهم التحولات البنيوية التي تمن وحدة النسيج الاجتماعي. ففي عالم تتزايد فيه الولاءات الفئوية والهويات الهجينة، وتضعف فيه سلطة المؤسسات التقليدية، يظل التحدي الجوهري هو كيف نحافظ على استمرارية. الانتماء الجماعي في زمن تتفتت فيه الروابط الثقافية والسياسية؟ لقد نجح المغرب، إلى حد بعيد، في ابتكار صيغة متوازنة تجمع بين الشرعية التي تختزل قروناً من التراكم السيادي والتاريخي العريق، والبصيرة السياسية الاستشرافية، والإصلاح التدرجي المنفتح على الواقع، مما مكنه من تجنب الانزلاقات الهوياتية التي عصفت بدول مجاورة.
غير أن الحفاظ على هذا التماسك الاجتماعي، رغم صلابته الظاهرة، لا يمكن أن يختزل في دور الدولة، ولا يلقى على عاتقها وحدها مهما بلغت فعالية مؤسساتها واستبصارها الاستراتيجي. فوفقاً للأدبيات الليبرالية المعاصرة، لا يقاس نضج الدولة فقط بقدرتها على التدخل، بل أيضاً بمدى قدرة المجتمع على التنظيم الذاتي وعلى المبادرة الفردية والجماعية في صناعة الأفق، وتجسيد قيم المشاركة. ومن هذا المنظور، فإن الرهان الحقيقي لا يكمن في تعميق منطق الوصاية المؤسساتية، بل في إعادة تنشيط الفعل السياسي من خلال تجاوز منطق الاتكال، وتوسيع قاعدة المشاركة عبر نخب متجددة، وآليات وساطة فعالة، وفضاء عمومي نابض يُعيد وصل السياسة بالمجتمع، ويُكرّس توازناً خلاقاً بين جرأة الانخراط النقدي الواعي وواجب المسؤولية الوطنية.
لكن هذا الشرط المجتمعي لا يكتمل دون مراجعة عميقة لوظائف الفعل الحزبي، الذي أصبح، في كثير من الأحيان، أسير منطق الانغلاق التنظيمي مبتعداً عن الديناميات الحية للمجتمع، ومفتقرأ إلى الآليات الكفيلة بترجمة التحولات الاجتماعية والقيمية إلى مشاريع سياسية مؤطرة. ومن هنا تبرز أهمية انفتاح الأحزاب السياسية بشكل فعّال على انتظارات المواطنين، وتطوير وسائل تواصل قادرة على التقاط نبض المجتمع، لا من خلال خطاب تعبوي ظرفي، بل عبر إعادة تعريف السياسة بوصفها أداة لإنتاج الأمل وصياغة أفق وطني مشترك.
وفي غياب هذا التحول، يبقى من الصعب ترسيخ الثقة في العمل السياسي، أو ضمان استمرارية الدولة في مواكبة تحولات الواقع. لذا، فإن الحاجة ملحة لإصلاح حزبي نوعي يعيد الاعتبار للجدية والمسؤولية، ويستبدل منطق التدبير الموسمي بثقافة الالتزام والمبادرة، بما يجعل من السياسة رافعة حقيقية لبناء التوازن المجتمعي وتوجيه المستقبل.
فالإصلاح المؤسساتي مهما بلغ من نضج، يبقى رهيناً بتوفر نخب سياسية تمتلك القدرة على مواكبة الرؤية الاستباقية التي تجسدها القيادة الوطنية، بعيداً عن الحسابات الضيقة أو التموقعات الظرفية. فالمؤسسات لا تحتاج إلى تمجيد، بل إلى كفاءات تسهم في تعزيز فاعليتها، وتحويل المشروع الوطني إلى طاقة جماعية متجددة.
لكن حين تفشل الأحزاب في أداء وظائفها الأساسية في التأطير والاستباق والتفاعل مع نبض المجتمع، فإن الفراغ لا يبقى من دون معوّض في مثل هذه الحالات، تفتح الثغرات أمام بروز تيارات موازية، قد تتغذى من الهشاشة الاجتماعية أو من تكلس المشهد الرسمي، لتتقمص أدوار الوساطة والتمثيل الرمزي. ورغم أن بعض هذه التيارات قد تملأ جزئيا الحيز المفقود من التفاعل، إلا أن الدولة تجد نفسها، في نهاية المطاف أمام مخاطرة مضاعفة: إما أن تترك المجال لفواعل غير منضبطة تقود المزاج العام نحو المجهول، أو أن تتحمل وحدها كلفة إعادة بناء الثقة في غياب الشريك الحزبي المؤهل. وهنا تبرز خطورة ترك السياسة رهن الفراغ، إذ يتحول التراخي الحزبي من أزمة تنظيمية إلى تهديد بنيوي، يضع الدولة أمام معادلة صعبة بين حماية الاستقرار وضمان الانفتاح
من الأزمة الحزبية إلى سؤال القيادة
وإذا كانت المؤسسة الملكية اليوم تُجسد نواة الفعل الاستشرافي وضمان الاستمرارية الهادئة، فإن هذا الدور لم يأت من فراغ، بل يُعد ثمرة لمسار إصلاحي تراكمي بدأ منذ تسعينيات القرن الماضي.
وقد شكلت إصلاحات 1996 الدستورية لحظة مفصلية في التاريخ السياسي المغربي، إذ أعادت هيكلة العلاقة بين السلط ورسخت التعددية ضمن افق دستوري أكثر نضجاً وتوازناً. ثم جاءت انطلاقة العهد الجديد سنة 1999، لتدشن مرحلة نوعية في تدبير الحكم، تميزت بالانتقال من منطق السيادة المغلقة إلى منطق القيادة التنموية والانفتاح الاستراتيجي. وقد تم ذلك من خلال إطلاق أوراش كبرى لإعادة بناء الثقة المجتمعية، مثل هيئة الإنصاف والمصالحة، والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وتوسيع مشاريع البنية التحتية ذات البعد الجهوي والإفريقي.
وفي هذا السياق المتكامل، نجح المغرب في بناء نموذج وطني فريد في الدفاع عن مصالحه العليا، وفي مقدمتها صيانة وحدته الترابية عبر تفعيل دبلوماسية متعددة المستويات، تجمع بين الشرعية التاريخية، والحضور الفعال في المنتديات الدولية، والحزم الميداني. كما اضطلعت إمارة المؤمنين بدور محوري في عقلنة الحقل الديني وتعزيز الأمن الروحي للمواطنين، من خلال رؤية إصلاحية منفتحة، تحصن المجتمع من نزعات التطرف والانغلاق.
وتتجلى الرؤية الملكية الاستشرافية أيضاً في السياسة المائية التي تبنتها المملكة مبكراً، باعتبار الأمن المائي تحدياً استراتيجياً لمستقبل الدولة. فقد أطلقت الدولة سلسلة من المشاريع البنيوية المرتبطة بتحلية مياه البحر، وبناء السدود، وإعادة استعمال المياه العادمة، ما مكن المغرب من الصمود في وجه ندرة المياه والجفاف، في وقت تعرف فيه مناطق عديدة من العالم انهياراً حقيقياً في أمنها الماني.
ومن جهة أخرى، تبرز مدونة الأسرة كأحد أوجه التحديث الحقوقي، حيث شكلت عند اعتمادها سنة 2004 تحولاً عميقاً في مقاربة قضايا المرأة، إذ أعادت التوازن في العلاقات الأسرية، وكرّست مبدأ المساواة في ظل المرجعية الإسلامية الوسطية، مما يعكس قدرة النموذج المغربي على المواءمة بين الأصالة والحداثة في بناء تعاقد اجتماعي منصف.
وقد توج هذا المسار الإصلاحي المتراكم بإقرار دستور 2011، الذي أعاد بلورة مكانة المؤسسة الملكية ضمن هندسة دستورية حديثة، باعتبارها ضامناً لاستقلال السلط، ومرجعاً في ترسيخ التوازن الديمقراطي. لقد أفرز هذا التحول نموذجاً فريداً في المحيط العربي، يتميز بدمج خلاق بين الشرعية التي صاغتها التقاليد السيادية وروافد التاريخ العميق والإنجازية المؤسساتية، في إطار ملكية دستورية استباقية تراعي الثوابت الوطنية وتواكب في أن واحد تحولات الدولة الحديث فمن خلال هذا البناء الدستوري المتقدم، صاغ المغرب صيغة سياسية متوازنة تجمع بين الاستقرار والتحديث بين السيادة والانفتاح، وبين العمق التاريخي واستشراف رهانات المستقبل.
وفي امتداد طبيعي لهذا النسق جاء التفاعل الملكي مع التحديات الإقليمية والدولية، ليعزز منطق الدولة الاستباقية، كخيار استراتيجي لا ظرفي. ففي زمن تتعدد فيه الأزمات من ارتدادات اقتصادية عالمية، وصدمات جيوسياسية متلاحقة، وتغيرات مناخية مقلقة، استطاع المغرب، تحت قيادة جلالة الملك محمد السادس، أن يطلق أوراشا استراتيجية بعيدة المدى. ومن أبرز هذه الأوراش تفعيل النموذج التنموي الجديد، تعميم الحماية الاجتماعية، بناء السيادة الصناعية والغذائية، اعتماد الاقتصاد الأخضر، وتطوير شبكة الموانئ وربطها بالعمق الإفريقي، وصولاً إلى أفق المغرب 2030" كموعد مفصلي ينتظر أن يعيد رسم موقع المملكة في المعادلتين الإقليمية والقارية.
غير أن هذا الأفق الوطني الطموح لا يُقابل داخل الأحزاب السياسية بنقاش استراتيجي يواكبه أو يُغذيه، بل يكاد ينحصر الجدال داخلها في من سيتولى رئاسة الحكومة المقبلة أو ما يصطلح عليها بحكومة المونديال"؟، في مشهد يعبر عن أزمة عميقة في الإدراك السياسي، وانفصال شبه تام عن نبض الشارع المغربي. فلا نكاد نرى أي حزب يقدم تصوراً متكاملاً حول كيفية تحقيق التحول الاقتصادي المطلوب بحلول 2030، أو كيف يمكن تحسين القدرة الشرائية للمواطن المغربي، أو بناء منظومة صحية وتعليمية تليق بالمواطنة الكاملة. لقد تحولت . السياسة الحزبية إلى مجرد حلبة لاقتسام المواقع، بدل أن تكون فضاء الصياغة البدائل والإجابات.
وفي قلب هذا المشهد، يغدو سؤال السياسة أكثر إلحاحاً من يصوغ المستقبل؟ من يؤطر الإرادة العامة؟ ومن يملأ الفراغ المتزايد بين الدولة والمجتمع؟ لأن استمرار الدولة ليس فقط في استقرار مؤسساتها، بل في قدرتها على جعل المواطن يشعر بأنه جزء فاعل من مشروع وطني كبير، يتسع لطموحاته ويضمن كرامته ويُشركه في قراراته. وهذه، في جوهرها، هي المهمة النبيلة للسياسة ... التي هجرتها الأحزاب، فحملتها المؤسسة الملكية بثبات وبعد نظر.
الجواب، كما تشير التجربة المغربية، لا يأتي من الأحزاب السياسية التي كان يفترض أن تشكل الفضاء الطبيعي للوساطة والتنظيم والمشاركة. فقد عجزت في مجملها عن مواكبة التحولات المجتمعية، ولم تظهر قدرة على ترجمة التوجيهات الملكية إلى مشاريع وطنية قابلة للتنزيل تكررت الدعوات العليا إلى تجديد النخب، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وإعادة الاعتبار للعمل السياسي النبيل، لكن هذه النداءات لم تجد الصدى المطلوب، لا داخل البنى الحزبية، ولا في الخطاب العام.
وما يُعمق المفارقة المغربية هو أن النخبة البرلمانية نفسها باتت مرآة عاكسة لجمود البني الحزبية، وأحياناً لضعفها الهيكلي، إذ إن الكثير من الوجوه التي تمثل الأمة اليوم لا تجمد طموحات الدولة، بقدر ما تكرس نوعاً من "الهندسة المجمدة داخل مؤسسة من المفترض أن تكون واجهة للنقاش العمومي وتوليد الأفكار والتشريع المبتكر. فالبرلمان، بدل أن يتحول إلى حاضنة للكفاءات الوطنية وفضاء للتفاعل مع الرؤية الإصلاحية للدولة أصبح في كثير من الأحيان مجالاً يعكس ما يمكن تسميته بـ" الفراغ التمثيلي الموجه"، حيث تنتج الأحزاب نخباً انتخابية لا تمتلك أدوات الفعل، ولا وعي اللحظة التاريخية.
إن هذا الفراغ في الوساطة لا يعني فقط أزمة في الأداء، بل يؤشر إلى غياب منظور تجديدي للهندسة السياسية يجعل من البرلمان مختبراً للأفكار بدل أن يكون صندوقاً مغلقاً لإعادة إنتاج الفشل.
إن هذا العجز السيادي للأحزاب عن تجديد عروضها النخبوية داخل البرلمان، وارتكانها إلى وجوه متكررة وخطابات متكلسة، يعبر عن جبن سياسي مؤسس يهاب الاجتهاد ويخشى التجديد، ويعيد إنتاج الرداءة بدلاً من تأهيل الطاقات والحال أن رأس الدولة لا يتوقف عن الدعوة إلى تعزيز الجودة النخبوية داخل المؤسسات المنتخبة، مطالباً بشكل صريح بضرورة رفع منسوب الكفاءة والمصداقية داخل البرلمان باعتباره مؤسسة دستورية محورية في هندسة السياسات العمومية. لكن، وللأسف، تبقى هذه الدعوات في مواجهة جدار حزبي سميك، يعيد إنتاج نفسه وفق منطق الحد الأدنى لا منطق الجدوى الوطنية.
هذا التنافر بين دينامية القيادة وثبات الوساطة، يُنتج مشهداً سياسياً يفتقر إلى الحيوية، وإلى ذلك الحس الضروري الذي يجعل من السياسة فنا للالتحاق بالمستقبل، لا مجرد تمرين موسمي على ملء المقاعد وتكرار الخطابات.
ورش النخبة الجديدة بين التمكين والتجديد
في هذا السياق، لا يمكن إغفال الدينامية التي أطلقتها القيادة العليا على مستوى تجديد النخب من خلال تعيين كفاءات شابة تتمتع برصيد أكاديمي ومهني متين، وروح عالية من المسؤولية والنزاهة. فقد طالت هذه الدينامية مؤسسات دستورية محورية، مثل الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، ومؤسسة وسيط المملكة، والنيابة العامة في دلالة استراتيجية على إرادة ملكية متبصرة في إعادة تشكيل النخبة المؤسسية.
واللافت أن متوسط أعمار هذه الكفاءات لا يتجاوز منتصف الأربعينات، ما يكرس توجهاً واضحاً نحو ترسيخ جيل جديد من المسؤولين، يُجسد نموذجاً منسجماً مع متطلبات الدولة الحديثة، ويجعل من الشباب المؤهلين فاعلين في قلب المنظومة السيادية، لا مجرد مراقبين هامشيين.
هذا التوجه لا يعكس فقط تجديداً في الشكل، بل يؤسس لتحوّل عميق في مضمون الحكم، قوامه الانتقال من منطق التراتبية العمرية إلى منطق الجدارة الوطنية، ومن تمركز القرار في الأطر التقليدية إلى إشراك الطاقات الجديدة في صياغة السياسات العمومية برؤية استشرافية تضع المغرب على سكة الحداثة السياسية والمؤسساتية في هذا الإطار، حين تراهن القيادة على الشباب، لا تفعل ذلك فقط لتجديد الوجوه، بل لتجديد وبلورة المعنى الوطني فالدولة الحديثة لا تبنى فقط بخبرة الماضي، بل ببصيرة الأجيال القادمة التي تملك مفاتيح الزمن المغربي الجديد.
ولا تقتصر هذه الدينامية على المستوى المدني أو القضائي، بل تشمل أيضاً المنظومة الأمنية والعسكرية والإدارية، حيث شهدت السنوات الأخيرة قرارات استراتيجية حاسمة تمثلت في إحالة عدد كبير من الجنرالات بمختلف الأسلحة والمؤسسات الأمنية على التقاعد، في إطار منهجية مؤسساتية تهدف إلى تحديث المنظومة الأمنية، وتحقيق الجاهزية الاستباقية، وضخ دماء جديدة في مناصب القيادة. إن هذه التغييرات ليست تحركات إدارية معزولة، بل جزء من مشروع شمولي يقوم على مبدأ تحرير الطاقات الوطنية وتمكين الكفاءات الصاعدة من ممارسة المسؤولية العمومية بروح المواطنة والفعالية، بعيداً عن منطق الولاء الحزبي أو التموقع الضيق. فهي تعبير عن هندسة استراتيجية جديدة للنخبة، تؤمن بأن بناء الدولة الحديثة لا يمكن أن يتحقق إلا عبر نخبة تتحلى بالكفاءة، والنزاهة والبصيرة الاستشرافية، وتكون في آن واحد منسجمة مع التحولات الرقمية والتكنولوجية المتسارعة ومؤهلة لفهم ديناميات العالم الجديد ومراكمة الذكاء المؤسسي في اتخاذ القرار العمومي.
وبالتالي، شكل الحضور المتصاعد لولي العهد الأمير مولاي الحسن، من خلال ترؤسه المراسم رسمية واستقباله لقادة دول، وفي طليعتهم الرئيس الصيني شي جين بينغ، تجسيداً حياً لما يمكن تسميته بدينامية الانتقال السيادي المنظم داخل بنية الدولة المغربية. فهذه المشاركة لا تندرج في منطق بروتوكولي صرف، بل تعكس هندسة ملكية ذكية للاستمرارية التاريخية، حيث تستثمر اللحظة الرمزية في صقل الكفاءة السياسية، وإرساء معالم الجيل الجديد من القيادة.
في هذا السياق، لا يقدم الأمير الشاب كمجرد وريث، بل كمشروع قيادة يُبنى بهدوء، وفق تصور يؤمن بأن الملكية المغربية ليست فقط نظاماً سياسياً، بل منظومة حضارية ذات ذاكرة عميقة واستبصار استراتيجي بالمستقبل. فبموازاة الخراطه المبكر في التمثيل السيادي، يتبلور حوله تمرين ناعم على السيادة، تتقاطع فيه الأبعاد الدبلوماسية، والثقافة الدستورية، ورمزية الدولة العريقة وليس في ذلك مجرد إعداد شخصي، بل بناء لوعي سيادي يتجاوز الأجيال، يؤسس لزمن ملكي لا يستنسخ من الماضي، بل ينتج من خلال التفاعل مع رهانات الدولة الحديثة.
وهكذا، يجسد الأمير مولاي الحسن أحد أبرز تعبيرات الملكية المغربية المتجددة، تلك التي لا تكتفي بتأمين الاستمرارية الشكلية، بل تراهن على انتقال متدرج للشرعية يُبنى عبر التجربة والتأهيل المؤسسي . فما يميز التجربة المغربية هو أنها لا تؤمن بالوراثة كحتمية بيولوجية، بل تعيد إنتاج الشرعية من خلال تمكين مدروس في إطار الدولة العميقة وذكاء السيادة، حيث تتكامل الرمزية مع الفعالية، والتقاليد مع البعد العالمي، الصناعة قائد مستقبلي لا يستنسخ من الماضي، بل يؤسس على وعي بالزمن المغربي الآتي.
وإذا كان ولي العهد يجمد جيل السيادة المقبلة، فإن التحدي الحقيقي يكمن في إيجاد نخب حزبية توازي هذا المنسوب من التأهيل الاستراتيجي وفي مقابل هذا التمرين السيادي المتدرج، الذي يُدار بعناية داخل مؤسسة العرش، حيث تبنى الشرعية عبر التمكين الهادئ، والتأهيل الممنهج، والانفاس المبكر في شؤون الدولة العلياء تبرز المفارقة الصارخة في المشهد الحزبي، الذي يعاني من ضمور قيادي وجفاف في الخيال السياسي ففي الوقت الذي تُعد فيه الملكية جيلاً جديداً من القيادة بإيقاع استراتيجي بعيد عن الاستعراض، تبدو الأحزاب وكأنها أسيرة دورة انكماشية، تعيد إنتاج نفس الخطاب، ونفس الوجوه، ونفس العجز عن ملامسة نبض التحول المجتمعي. وهنا يتجلى التفاوت بين مشروع سيادي يُبنى على التراكم الهادئ والحكمة المؤسسة، وبين منظومة حزبية تفتقر إلى القدرة على مواكبة الزمن السياسي الجديد، ما ساهم في تعميق فجوة الثقة، خاصة لدى الأجيال الشابة، الباحثة عن معنى للانتماء والمشاركة خارج الصيغ المهترئة للوساطة التقليدية.
هذا القصور الحزبي ينعكس بوضوح في ظاهرة العزوف السياسي، خاصة في صفوف الشباب الذين يشكلون أكثر من 60% من الساكنة هؤلاء لا يرفضون السياسة كمبدا، بل يرفضون الصورة المشوهة التي تقدم بها والخطاب المبتور الذي لا يقنع، ولا يلهم، ولا يُشرك. إنهم أبناء العصر الرقمي، منفتحون على الأفكار العابرة للحدود، يعيدون تشكيل هوياتهم واهتماماتهم في فضاءات افتراضية لا تعترف بلغة الخشب ولا بالتراتبيات القديمة. غير أن الأحزاب السياسية لم تستطع مواكبة هذا التحول، فبقيت رهينة لغة تقليدية وآليات تعبئة تعود إلى القرن الماضي.
الشباب بين فقدان الثقة وسؤال الانتماء
إن أزمة التمثيل هنا لا تتعلق بالمشاركة في الانتخابات فقط بل بانفصال العروض السياسية عن المعجم القيمي والثقافي للجيل الجديد الذي يبحث عن مشروع لا عن مرشح . فالغياب المزدوج للفعالية الحزبية وللنقاش العمومي البناء يجعل من السياسة اليوم أداة متجاوزة في نظر فئات واسعة. وفي غياب بدائل مقنعة، تتجه الأنظار نحو المؤسسة الملكية كضامن وحيد للاستقرار ومصدر وحيد للرؤية. غير أن هذا التركيز، رغم ضرورته، لا يمكن أن يكون مستداماً إلا إذا استتبع بإعادة هندسة سياسية وطنية، تمكن من استرجاع المبادرة داخل المجتمع. فالفلسفة السياسية، منذ أرسطو إلى هابرماس، علمتنا أن الدولة لا تستقيم بدون مجال عام حي، وأن شرعية السلطة لا تكتمل إلا حين تترجم الإرادة العليا إلى مشاركة فعلية، وحين تلتقي الرؤية مع التنظيم، والطموح مع التأطير.
حين تغيب السياسة عن سؤال المستقبل، تتسع الحاجة إلى قيادة تستبق التحولات لا فقط لإدارتها، بل لإعادة هندسة التوازنات الوطنية. وهنا تتجلى أهمية المشروع الملكي كرافعة لإعادة بناء مفهوم الدولة، ليس كجهاز إداري، بل كمنظومة تعاقدية تعيد الاعتبار للفعل العمومي. فالرهان الحقيقي لا يكمن فقط في تحقيق الاستقرار بل في ضمان قابليته للاستمرار من خلال تنشيط الحياة السياسية، وتجديد أدوات الوساطة، وربط الشباب بقضايا الوطن عبر آليات حديثة ومحتوى سياسي جديد في ظل هذا الواقع المركب، تبرز الحاجة إلى هندسة سياسية جديدة تعيد الاعتبار للثقة المفقودة بين الأجيال الصاعدة والمؤسسات، وتعيد صياغة المشاركة كمسؤولية جماعية لا كامتياز نخبوي. قد حان الوقت لتجاوز الطابع التجزيئي في الإصلاح، عبر إطلاق ورش سياسي مواز لورش النموذج التنموي، ورش لا يكتفي بإعادة تعريف السياسة نظريا، بل يُخضعها لامتحان الفعل والنتائج فالسياسة في المغرب لم تعد تتحمل أن تختزل في دورات انتخابية ظرفية أو في واجهات حزبية متأكلة بل يجب أن تستعاد كمجال لتوليد الأفق الفكري، وتحفيز المشاركة المواطنة، وانتشال الثقة من دائرة الشك المجتمعي عبر مشروع وطني متكامل.
ذلك أن الملكية، مهما بلغت من حكمة وبعد نظر، لا يمكنها وحدها أن تنقذ المجال السياسي من تفككه البنيوي، ما لم تجد أمامها فاعلين سياسيين يمتلكون الشرعية المنبثقة من قاعدة الانتماء الوطني الصادق، والقدرة على بناء التأويل المنتج للفعل الجماعي، والالتزام بالتجديد لا بالتدوير . فاستعادة الثقة لا تمر عبر الخطابات المجملة بل عبر التقاء واقعي بين قيادة تمتلك الرؤية، ونخب تملك الجرأة على مساءلة الذات قبل مساءلة الدولة، والقدرة على التأطير لا على التبرير.
وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال الدينامية التي أفرزتها شبكات التواصل الاجتماعي، والتي أصبحت مرأة حية لانفعالات المجتمع وتوقه إلى التعبير والمشاركة حين تفقد السياسة لغتها، وتفشل الأحزاب في أداء دور الوساطة، يبحث المواطن عن صوت آخر ... فينقله إلى القضاء الرقمي. لقد أصبحت هذه الشبكات بمثابة المرأة
النفسية والثقافية لللاوعي الجمعي النشط لا لأنها البديل الأمثل، بل لأنها المنفذ الأخير أمام انسداد الفضاءات الشرعية للتفاعل السياسي. وكما نبهت خطب ملكية سابقة، فإن غياب منصات الإنصات الحقيقي وفضاءات النقاش الجاد يدفع بالشباب، خاصة إلى التعبير عن غضبهم وتطلعاتهم خارج الأطر المنظمة.
الهندسة المجهولة أين يسكن المعنى إذا تاهت السياسة عن سؤال الوطن؟
إنها لحظة تأمل في سؤال المعنى كيف يمكن لمجتمع أن يثق في السياسة إذا لم تصغ السياسة لنبضه حين تفشل الوساطة في ترجمة الإرادة الشعبية، تتولى القيادة الواعية دور الموازن التاريخي، لكنها لا تستطيع وحدها أن تؤسس لمجتمع منخرط ما لم تتجدد السياسة كافق للمعنى والتفاعل، وكجسر حي بين الإرادة العامة ومصير الدولة. وسط تغيّرات كبرى تطال موازين القوى الدولية، لا يكفي للمؤسسات أن تؤمن الاستقرار؛ بل يجب أن تعيد تشكيل المستقبل. وإذا كانت الملكية المغربية قد برهنت على قدرتها على صياغة رؤية وطنية استشرافية فإن الفاعلين السياسيين مدعوون إلى تجاوز منطق الانتظار والمراوحة، والانخراط الواعي في مشروع وطني جامع، يُعيد الثقة للمواطن، ويجعل من الشباب رافعة سياسية حقيقية لا جمهوراً هامشياً.
في المغرب، صاغت الملكية حكمة السيادة، لكن السياسة لم تكتشف بعد لغتها التأسيسية الجديدة. وفي غياب هذا اللقاء الضروري بين القيادة الملهمة والنخبة المؤطرة، يُخشى أن تظل السياسة في موقع المفعول به في زمن لا يرحم من لا يمتلك شجاعة المعنى وجرأة التأسيس. لقد آن الأوان لوعي سياسي جديد يدرك أن استمرار الانخراط الموسمي في السياسة لن يؤدي إلا إلى مزيد من التأكل في شرعية العمل الحزبي، ومزيد من القطيعة مع الشارع. فالهندسة السياسية المطلوبة اليوم ليست مجرد بناءات نظرية، بل ورش عملي عميق يخضع المؤسسات الحزبية للمساءلة، ويعيد ربط السياسة بالمجتمع من خلال مشاريع قابلة للتنفيذ. فلا مستقبل المجال عمومي بلا معنى، ولا شرعية لمنظومة تمثيلية تتأكل من الداخل دون تجديد ففي مغرب يتغير بعمق تحت قيادة استباقية، لا مكان لنخب تقتات على القرب من السلطة، بل فقط لمن يحمل الكفاءة والاقتدار، ويُجمد بروح مسؤولة معنى الالتزام بالمصلحة العليا. لقد أن الأوان لنقل الفعل السياسي من منطق التبعية إلى منطق المبادرة ومن الاستهلاك الظرفي للشرعية إلى إنتاجها عبر الأداء والنزاهة والنجاعة في مواجهة تحديات الزمن المغربي الجديد.
ولأن السياسة الجادة لا تُبنى فقط على الولاءات، بل على الوعي بالمواطنة كمبدأ تأسيسي للانتماء والمشاركة فإن استنهاض الفعل السياسي لا ينفصل عن ترسيخ ثقافة المواطنة الفاعلة. فالوطنية بدون مواطنة حقيقية لا تغدو أن تكون سوى انتهازية ووصولية، تتغذى على الفراغ المؤسسي وتقوض من الداخل مسارات الإصلاح العميق.
وبالتالي، لا يمكن لزمن التحول المغربي أن يواكب بمنطق الانتظار أو بالارتهان لشرعيات قديمة. ففي عالم يضج بالتقلبات، تظل هندسة الاستقرار المتجددة التي تقودها القيادة المغربية مدخلاً أساسياً لبناء الأفق الوطني لكنها تحتاج إلى نخب تمتلك جرأة الانتماء لا إلى الماضي، بل إلى رهانات المستقبل ذلك أن السياسة، في جوهرها، ليست مجرد إدارة للراهن، بل اجتراح للمعنى، وتوسيع الهامش الممكن، في دولة تراكم الشرعية بفعل الإنجاز، لا بمجرد الانتماء والولاءات المصلحية.
حين يعتقد السياسي، كيفما كانت مسؤوليته التنفيذية أو التمثيلية، أن الحقيقة تكمن في صوته وقراره فقط يُصاب الصوت الوطني بالوحدة، والقرار بالعمى، والعمل العام بفقدان المعنى فممارسة السلطة ليست امتيازاً شخصياً ولا مجالاً لتضخيم الأنا، بل أمانة تاريخية تقتضي وعيا بمالات الزمن، وإنصاناً لتحولات المجتمع، وشجاعة على التراجع عندما يتحول البقاء إلى عبء على الدولة، لا ضمانة لها، لأن جوهر المسؤولية هو الوفاء للملكية لا التمسك بالموقع.