إدريس الفينة: المشروع الفارسي.. وتحرير العقل العربي

إدريس الفينة: المشروع الفارسي.. وتحرير العقل العربي إدريس الفينة
يشهد‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬اليوم‭ ‬لحظة‭ ‬تحوّل‭ ‬نوعية،‭ ‬تتجلى‭ ‬في‭ ‬تحرّره‭ ‬التدريجي‭ ‬من‭ ‬قبضة‭ ‬الأوهام‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬التي‭ ‬لطالما‭ ‬كبّلته،‭ ‬وعطّلت‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬الحقيقة‭ ‬والدعاية،‭ ‬وبين‭ ‬المصلحة‭ ‬القومية‭ ‬والانخراط‭ ‬في‭ ‬مشاريع‭ ‬خارجية‭ ‬لم‭ ‬تخدم‭ ‬سوى‭ ‬أجندات‭ ‬فارسية‭. ‬سقوط‭ ‬حزب‭ ‬الله‭ ‬واختفاء‭ ‬رموزه‭ ‬التاريخية‭ ‬مثّل‭ ‬لحظة‭ ‬مفصلية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المسار‭ ‬التحرري،‭ ‬إذ‭ ‬انكشف‭ ‬زيف‭ ‬الشعارات‭ ‬التي‭ ‬رفعتها‭ ‬ما‭ ‬يُسمّى‭ ‬بمحور‭ ‬“المقاومة”،‭ ‬واتّضح‭ ‬أن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الأدبيات‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬سوى‭ ‬أدوات‭ ‬لإعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬الهيمنة‭ ‬الذهنية‭ ‬تحت‭ ‬غطاء‭ ‬التحرر،‭ ‬ولترسيخ‭ ‬الولاء‭ ‬للنظام‭ ‬الفارسي‭ ‬تُقمع‭ ‬فيها‭ ‬الأسئلة‭ ‬وتُقدّس‭ ‬فيها‭ ‬التبعية‭ ‬المطلقة‭.‬
 
لقد‭ ‬مثّل‭ ‬المشروع‭ ‬الإيراني‭ ‬منذ‭ ‬عقود‭ ‬استراتيجية‭ ‬مزدوجة:‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬تقديم‭ ‬نفسه‭ ‬كقوة‭ ‬داعمة‭ ‬لقضايا‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية‭ ‬ورافعة‭ ‬لما‭ ‬يُسمى‭ ‬“خيار‭ ‬المقاومة”،‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬توظيف‭ ‬هذه‭ ‬الشعارات‭ ‬لاختراق‭ ‬البنية‭ ‬الفكرية‭ ‬والسياسية‭ ‬للمنطقة،‭ ‬عبر‭ ‬صناعة‭ ‬حركات‭ ‬وكيانات‭ ‬تابعة‭ ‬تُستعمل‭ ‬أدوات‭ ‬تنفيذية‭ ‬ضمن‭ ‬سياسة‭ ‬توسعية‭ ‬عابرة‭ ‬للحدود‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬التصدعات‭ ‬الأخيرة،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬انهيار‭ ‬حزب‭ ‬الله‭ ‬سياسيًا‭ ‬وعسكريا،‭ ‬كشفت‭ ‬عن‭ ‬الوجه‭ ‬الحقيقي‭ ‬لهذا‭ ‬المشروع،‭ ‬وعن‭ ‬هشاشته‭ ‬البنيوية‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬يفقد‭ ‬فيها‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬احتكار‭ ‬السردية‭.‬
 
إذا‭ ‬ما‭ ‬انهار‭ ‬النظام‭ ‬الإيراني‭ ‬في‭ ‬حربه‭ ‬هاته‭ ‬التي‭ ‬خطط‭ ‬لها‭ ‬منذ‭ ‬مدة‭ ‬ببناء‭ ‬ترسانة‭ ‬صاروخية‭ ‬لم‭ ‬تتوفر‭ ‬لالمانيا‭ ‬النازية،‭ ‬فإننا‭ ‬سنكون‭ ‬أمام‭ ‬نقطة‭ ‬انعطاف‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬السياسي‭ ‬والفكري‭ ‬للمنطقة‭ ‬العربية‭. ‬إن‭ ‬نهاية‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬فقط‭ ‬سقوط‭ ‬بنية‭ ‬سياسية‭ ‬،‭ ‬بل‭ ‬سقوط‭ ‬نموذج‭ ‬كامل‭ ‬من‭ ‬الهيمنة‭ ‬الرمزية‭ ‬التي‭ ‬قيدت‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬لعقود‭ ‬بشعارات‭ ‬مضللة‭. ‬آنذاك،‭ ‬سيتحرر‭ ‬الفضاء‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬قوالب‭ ‬فكرية‭ ‬جامدة،‭ ‬كانت‭ ‬تتستر‭ ‬وراء‭ ‬خطاب‭ ‬التحرر،‭ ‬فيما‭ ‬هي‭ ‬تمارس‭ ‬–‭ ‬في‭ ‬العمق‭ ‬–‭ ‬الإقصاء‭ ‬والتوظيف‭ ‬الانتهازي‭ ‬لقضايا‭ ‬الأمة‭. ‬وسيتكشف‭ ‬كم‭ ‬من‭ ‬المفاهيم‭ ‬أُدخلت‭ ‬قسرًا‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬الجمعي‭ ‬العربي،‭ ‬لا‭ ‬بهدف‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬فلسطين‭ ‬أو‭ ‬مقاومة‭ ‬الغرب‭ ‬كما‭ ‬يبدو‭ ‬لنا‭ ‬ظاهريا،‭ ‬بل‭ ‬بهدف‭ ‬ضمان‭ ‬ديمومة‭ ‬نظام‭ ‬ديني‭ ‬شمولي،‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬العرب‭ ‬ككتلة‭ ‬وظيفية‭ ‬ضمن‭ ‬مشروعه‭ ‬القومي‭ ‬الخاص‭.‬
 
إن‭ ‬تعامل‭ ‬طهران‭ ‬مع‭ ‬حزب‭ ‬الله‭ ‬يقدم‭ ‬أوضح‭ ‬مثال‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬البراجماتية‭ ‬القاسية‭. ‬لقد‭ ‬وظفته‭ ‬كذراع‭ ‬ضارب‭ ‬في‭ ‬صراعاتها‭ ‬مع‭ ‬إسرائيل‭ ‬والغرب،‭ ‬كما‭ ‬سخّرته‭ ‬لإعادة‭ ‬ترتيب‭ ‬توازنات‭ ‬القوى‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬والعراق‭ ‬واليمن،‭ ‬ثم‭ ‬تخلت‭ ‬عنه‭ ‬عندما‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬الحاجة‭ ‬إليه‭ ‬قائمة‭. ‬الصمت‭ ‬الذي‭ ‬يلف‭ ‬مواقف‭ ‬الحزب‭ ‬بعد‭ ‬الضربات‭ ‬التي‭ ‬طالت‭ ‬بنية‭ ‬النظام‭ ‬الإيراني‭ ‬مؤخراً‭ ‬ليس‭ ‬موقفًا‭ ‬عرضيًا،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬نتاج‭ ‬إدراك‭ ‬عميق‭ ‬لطبيعة‭ ‬العلاقة‭ ‬الحقيقية‭ ‬بين‭ ‬الطرفين:‭ ‬علاقة‭ ‬سيطرة‭ ‬وتوظيف‭ ‬وليست‭ ‬علاقة‭ ‬تحالف‭ ‬نديّ‭. ‬لم‭ ‬يصدر‭ ‬الحزب‭ ‬أي‭ ‬بيان‭ ‬إدانة‭ ‬أو‭ ‬دعم‭ ‬علني،‭ ‬لأن‭ ‬دروساً‭ ‬مريرة‭ ‬قد‭ ‬لُقّنت‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬الكواليس،‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬مصيره‭ ‬لا‭ ‬يساوي‭ ‬شيئاً‭ ‬أمام‭ ‬مصالح‭ ‬المشروع‭ ‬الأم‭.‬
 
الأمر‭ ‬ذاته‭ ‬ينطبق‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬السوري،‭ ‬الذي‭ ‬بُني‭ ‬استقراره‭ ‬في‭ ‬العقد‭ ‬الأخير‭ ‬على‭ ‬تدخل‭ ‬إيراني‭ ‬مكثف،‭ ‬لكنه‭ ‬وجد‭ ‬نفسه،‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬حرجة،‭ ‬مكشوفًا‭ ‬ومجبرًا‭ ‬على‭ ‬الانسحاب‭ ‬خطوة‭ ‬تلو‭ ‬الأخرى‭ ‬من‭ ‬مشروع‭ ‬أصبح‭ ‬عبئًا‭. ‬إيران‭ ‬تخلّت‭ ‬عن‭ ‬حلفائها‭ ‬حين‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬وجودهم‭ ‬يخدم‭ ‬أهدافها‭ ‬الاستراتيجية،‭ ‬وتركتهم‭ ‬يواجهون‭ ‬المصير‭ ‬وحدهم‭. ‬والواقع‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬تُسميه‭ ‬طهران‭ ‬“محور‭ ‬المقاومة”‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬سوى‭ ‬شبكة‭ ‬من‭ ‬الكيانات‭ ‬القابلة‭ ‬للاستهلاك‭ ‬السياسي،‭ ‬تُستبدل‭ ‬أو‭ ‬تُضحى‭ ‬بها‭ ‬كلما‭ ‬دعت‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭.‬
 
أما‭ ‬اليوم،‭ ‬فإن‭ ‬النظام‭ ‬الإيراني‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬عزلة‭ ‬خانقة،‭ ‬محاصرًا‭ ‬داخليًا‭ ‬بالاحتجاجات‭ ‬الشعبية‭ ‬وتآكل‭ ‬شرعيته،‭ ‬وخارجيًا‭ ‬بغياب‭ ‬الدعم‭ ‬الحقيقي‭ ‬من‭ ‬حلفائه‭ ‬المفترضين‭. ‬لم‭ ‬يبق‭ ‬في‭ ‬صفّه‭ ‬سوى‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬غارقًا‭ ‬في‭ ‬أوهام‭ ‬كبرى،‭ ‬يُغذيها‭ ‬الخطاب‭ ‬التعبوي‭ ‬الموجّه،‭ ‬دون‭ ‬إدراك‭ ‬لحقيقة‭ ‬أن‭ ‬طهران‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬يومًا‭ ‬حريصة‭ ‬على‭ ‬همومهم،‭ ‬بل‭ ‬وظّفتهم‭ ‬غطاءً‭ ‬لتمديد‭ ‬عمر‭ ‬نظامها‭ ‬المتهالك‭. ‬لقد‭ ‬أصبح‭ ‬واضحًا‭ ‬أن‭ ‬المشروع‭ ‬الإيراني‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مشروع‭ ‬وحدة‭ ‬أو‭ ‬تحرر،‭ ‬بل‭ ‬مشروع‭ ‬استخدام‭ ‬طويل‭ ‬الأمد‭ ‬لمظلومية‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬نمط‭ ‬من‭ ‬السيطرة‭ ‬الدينية‭ ‬والسياسية‭ ‬على‭ ‬المنطقة،‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬في‭ ‬جوهره‭ ‬عن‭ ‬المشاريع‭ ‬الاستعمارية‭ ‬التي‭ ‬لطالما‭ ‬أدانها‭ ‬الخطاب‭ ‬الإيراني‭ ‬ذاته‭.‬
 
لقد‭ ‬سقط‭ ‬حزب‭ ‬لله،‭ ‬وسقطت‭ ‬معه‭ ‬الرمزية‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬ترتكز‭ ‬عليها‭ ‬سردية‭ ‬المقاومة‭ ‬المؤدلجة‭. ‬ومن‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة،‭ ‬بات‭ ‬من‭ ‬المشروع‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬المشروع‭ ‬الإيراني‭ ‬بأكمله‭ ‬يقف‭ ‬على‭ ‬حافة‭ ‬الانهيار،‭ ‬لا‭ ‬لأنه‭ ‬فقد‭ ‬قدرته‭ ‬العسكرية‭ ‬أو‭ ‬التمويلية،‭ ‬بل‭ ‬لأنه‭ ‬فقد‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬الإقناع،‭ ‬على‭ ‬صناعة‭ ‬الوهم،‭ ‬وعلى‭ ‬توجيه‭ ‬العقول‭. ‬ومع‭ ‬سقوط‭ ‬الوهم،‭ ‬يسقط‭ ‬المشروع‭. ‬والمستقبل‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬إلا‭ ‬لمن‭ ‬يعيد‭ ‬بناء‭ ‬الوعي‭ ‬العربي،‭ ‬خارج‭ ‬خرافات‭ ‬الهيمنة،‭ ‬وبعيدًا‭ ‬عن‭ ‬شعارات‭ ‬الخداع‭ ‬الاستراتيجي‭.‬
 
إدريس الفينة/ خبير اقتصادي