ونفذت ضربات أخرى لا تقل تصويباً ودقة فشلّت دفاعات إيران الجوية، المحيطة بالعاصمة أيضاً، وعلى إثر ذلك، وبعد ساعات طوال كأنهن أسابيع أو أشهر، تلقّت إسرائيل عددا من الصواريخ الإيرانية كرد فعل يراد به حفظ ماء الوجه، أكثر مما أُريد به الثأر والانتقام وردّ الصاع بمثله أو أكثر، لأن الخسائر المسجلة بين البلدين لا مجال لمقارنتها لفداحة الفارق!!
واستقبلت إسرائيل بموازاة ذلك صبيباً غزيراً من التهديدات الإيرانية، كما هي العادة، تتوعد بردٍّ أقوى وأقسى، ولكن الكلام في كل التهديدات الإيرانية، كما هي العادة مرة أخرى، يخالف في كثافته وقوته حجم ردود الفعل الميدانية، الهزيلة والخاضعة لنوع من الكبت والفرملة خشية خروج الحرب عن الطوع، وانتقالها إلى نقط اللاعودة، ومَخافةَ أن تخرج المعارك عن السيطرة فلا تعود لها نهاية في المنظورَيْن القريب والمتوسط، وإيران كما نعرفها جميعاً، ويعرفها العالم من حولنا، لا تمتلك النفَس الطويل ولا الدعمَ اللوجستيكيَّ اللازمَ لضمان صمودها السنوات الطوال، لأن الرصيد الإيراني، الشعبي والجماهيري، مصاب بكل الآفات، وفي مقدمتها آفة التذمر العام من سلوك عجائز القصر الجمهوري، الذين يبدو أنهم لا يرون أبعد من أنوفهم، والحرب العراقية الإيرانية ليست ببعيدة، ونتائجها ما زالت اللحمة والنسيج الإيرانيان يعانيان من إسقاطاتها، بالرغم من وقوعها في عهد الشاه رضا بهلوي، الذي صار مأسوفاً على ذهابه من لدن السواد الأعظم من إرانيي هذا العهد الغامض والمرتبك والملتبس!!
كل هذا واضح ولا يحتاج إلى كثير إطناب، لكن الذي فاجأ المتتبعين والملاحظين، إنما هو الجانب النوعي من الإدارة الإسرائيلية للمعارك، والذي حمل مفاجآت لم تكن تدور ببال أحد من العالمين... فكيف ذلك؟!
لقد انتشرت أخبار غريبةٌ ومذهلةٌ، بسرعة انتشار النار في الهشيم، مفادها أن إسرائيل استطاعت أن تحقق استحواذاً شاملاً على الأجواء الإيرانية، لكن ذلك ليس بسبب احترافية وقدرات ومواهب الطيران الإسرائيلي، كما قد يتصور أغلب المتتبعين، بل وبكل بساطة، لأن "الاختراق المخابراتي الإسرائيلي للتراب الإيراني وللمؤسسات الإيرانية الخاصة والرسمية" بلغ إلى مستويات خُرافية، لم نعهدها سوى في أفلام الجاسوسية التي أتحفتنا بها الصناعةُ السينمائية طوال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، قبل أن ينطفئ ويخمد أَوار الحرب الباردة، ويسقط جدار برلين، ويسطع نجم "البيريسترويكا" التي جعلت آخر رئيس سوفياتي، غورباتشوف، يبدو للعالم كليبرالي أكثر من الليبراليين الأكثر حماسا وحمية، وكيف لا وهو الذي دق آخر المسامير في تراث الكريملين المخابراتي والبلشفي والشيوعي بكل دلالات الكلمة!!
ونعود إلى الاختراق المخابراتي الإسرائيلي لبطنِ إيرانَ وأحشائِها، لتُطالِعَنا أخبار انطلاق المُسَيَّرات الإسرائيلية من داخل التراب الإيراني لضرب دفاعات إيران (!!!) وأنباء أخرى عن مصانع ومدرّجات ومستودعات للدرونات الإسرائيلية داخل التراب الإيراني، ليس بفعل الخونة الإيرانيبن، الذين هم كُثْرٌ بكل تأكيد، بل على أيدي عملاء إسرائيليين سكنوا في إيران واختلطوا بناسها، وشاركوها أعيادَها ومناسباتِها وأفراحَها وأتراحَها، فكان لهم الوقت الكافي، وعلى مدى سنوات مضت، ليؤسسوا شركاتهم، ويفتحوا مصانعهم، ويجعلوا لها وجهين، أحدهما ظاهر بأنشطته الاعتيادية، والثاني محتجب يعمل في صناعة المُسَيَّرات، وإنتاج قذائفها في عين المكان، حتى إذا دقت ساعة الهجوم تكالبت الضربات من داخل البلد وخارجه، تماماً بنفس أسلوب عمليات أجهزة "البايجر" اللاسلكية، التي أجهزت إسرائيل بواسطتها على قيادات حزب اللات في لبنان قبل أشهر من يومه!!
لقد كان هذا النبأ، بالذات، أوفى تفسير للسرعة التي نفّذت بها القوات الإسرائيلية هجومها الأول، فاستطاعت أن تُسكت به وسائل الدفاع الجوي الإيرانية، في وقت قياسي يصعب تحقيقه لو أنها اعتمدت بالكامل على طائراتها أو مسيراتها القادمة من خارج التراب الإيراني... وياله من درس جديد، في فنون إدارة الحروب والمعارك، يقطع مع كل الأساليب التقليدية والجاهزة التي كان معمولاً بها في السابق!!
من الطبيعي، الآن، أن تبذل إيران منتهى جهدها لاسترداد شيء ولو يسير من كرامتها المهدورة، أمام أنظار عالم وقف مشدوهاً من فرط فُجائيةِ الهجوم وسرعة تنفيذه، ومِن الطبيعي، أيضاً، أن تتحرك لمساعدتها على استرجاع بعضٍ من كرامتها دولٌ يُفترَض أنها صديقة ومتعاطفة، مثل باكستان التي بدأت تُلوّح بتدخّل وشيك، ومثل الصين التي شرعت في مد طهران ببعض الأسلحة، ليس على سبيل الدعم من أجل النُّصرة، وإنما على سبيل الدفع بأنواع من السلاح الصيني، تروم الصين تجربتها ميدانياً!!
والحال أنه لا يبدو في الأفق أكثر من هذا، لأن إيران أدخلت نفسها في عزلة قاتلة بسبب سلوكاتها اللاحضارية واللاسلمية تجاه كل مَن حولها، والعرب في طليعة المتضررين من تلك السلوكات، ولذلك وقفوا "وقفة متفرج واحد"، وكأن الأمر لا يخصهم في شيء، ولسان حالهم يقول بالصمت المُطْبَق أكثر وأوفى مما قد تحمله الكلمات!!!
ثم هناك أخبار أخرى حلت بالساحة قبل ساعات قلائل، تحمل تهديدات إسرائيلية باللجوء إلى السلاح النووي في حالتين اثنتين على الخصوص:
الأولى: إذا خسرت معركتها مع إيران، والتي أطلقت عليها مسمّى "الأسد الصاعد"؛
والثانية: في حالة ملاقاة حركات كبح أوروبية موازاة مع استمرار الولايات المتحدة في تفرّجها عن بُعد...
وهذا تهديد غير مسبوق بكل المعايير، خاصة وأنه قدم نفسه للعالم في صورة المقولة "الشمشونية"، التي اشرتُ إليها في مقال سابق: "عليّ وعلى أعدائي"!!
تُرى إلى أي حدّ يمكن لكلام كهذا أن يكون من صميم الواقع، وليس فقط، مجرد فرقعة إعلامية موجهة للاستهلاك الداخلي؟!!