في سابقة غير معهودة، بلغت أسعار الكيلوغرام الواحد من اللحوم الحمراء 150 درهمًا في عدد من الأسواق المغربية أيام قليلة قبل عيد الأضحى، فيما تجاوزت أسعار "الدوارة" 800 درهم، وكأننا في بلد يشهد مجاعة، لا في بلد قرّر رسميًا تعليق الذبح حفاظًا على القدرة الشرائية، وصيانة للثروة الحيوانية، واستجابةً لموسم جفاف غير مسبوق.
القرار الملكي لم يكن فقط إلغاءً لشعيرة دينية، بل كان نداءً للتعقل، ومحاولة لتقليص الضغط عن الفئات الهشة والرأفة بها، ودعوة إلى ممارسات استهلاكية أكثر وعيًا. ومع ذلك، قوبل هذا النداء ببعض من "العصيان الصامت"، أو لنقل "جهل جماعي" بالمعنى الرمزي والاجتماعي للقرار. وكأن بعض المغاربة اعتبروه مجرد خبر عابر، لا يخصهم، فهرعوا إلى الأسواق، وأنعشوا الذبيحة السرية، وساهموا في العبث بالثروة الحيوانية بطريقة عشوائية وغير مراقبة.
لقد تحول المواطن نفسه، للأسف، إلى صانع أزمة عبر مساهمته في رفع الأسعار، وكرّس بفوضاه السوق السوداء، وشرعن بجهله الذبيحة السرية، وفرض على نفسه ضغطًا اجتماعيا لا مبرر له. فمن قال إن الفرح بالعيد يمرّ عبر "قطبان بولفاف"؟ ومن ربط التقوى ب"التقلية" وّالراس لمفور"؟ متى أصبح "عيد الأضحى برمزيته الدينية العظيمة مناسبة لإهانة الجيب والعقل معًا؟.
لسنا بحاجة إلى نظريات اقتصادية لفهم ما وقع، فالمعادلة واضحة : التهافت يولّد الندرة، والندرة تفتح شهية المضاربين. المواطن الذي اندفع نحو الأسواق، واشترى كميات من اللحوم ليخزنها ليوم عيد لا وجود له، هو نفسه من غذّى هذا الجشع الجماعي، ورفع الأسعار، وسمح بالتهاب الأسعار وهو المواطن نفسه الذي اكتوى بارتفاع أسعار الاضاحي خلال عيد الاضحى المنصرم، واشتكى من "طغيان الشناقة".
إن هذا السلوك الجماعي يضعنا اليوم أمام صورة محزنة لمجتمع يرفض الانضباط، يقاوم الإصلاح حتى حين يأتي من أعلى سلطة في البلاد. لقد اختار البعض أن يقف في موقع "العصيان الصامت"، لا يعترض على القرار الملكي، لكنه يفرغه من مضمونه فعليًا، ويعانده عبر سلوك استهلاكي متخلف، يعيد إنتاج الأزمة وتحويرها بدل تجاوزها.
ليست هذه المرة الأولى التي يُظهر فيها المواطن قصورًا في الوعي الاقتصادي والاجتماعي، لكنه هذه المرة يُسهِم في تكريس نموذج "شناقة" جديد، ينتعش في الازدحام وينشط مع كثرة الطلب، وهكذا نخلق نحن "الضحية" و"الجلاد" في الآن ذاته.
لا معنى لأي إصلاح دون مواطن يتحمّل مسؤوليته في ضبط السوق من خلال سلوكه اليومي. لا جدوى من تشريعات رقابية إذا كان المستهلك نفسه يشعل نار الأسعار بيديه، إننا اليوم لا نحتاج إلى حملات توعية موسمية، بل إلى تربية دائمة على الاستهلاك الرشيد، على منطق الكفاية، وعلى كسر "تقليد القطيع" الذي يجعل البعض يشتري اللحوم لا لحاجة حقيقية، بل فقط لأن الآخر اشتراها!
الحقيقة المُرّة أن الذهنية الاستهلاكية في المغرب مازالت سجينة عادات اجتماعية، تتغذى على المظاهر، وتتحرك بدافع “ما يقوله الآخرون”، أكثر من الإحساس بالمسؤولية الفردية أو الاجتماعية. فبدل أن يكون العيد مناسبة للرحمة، تحول إلى سباق على الكبد والكرشة والقلب، أيًا كانت الأسعار، وأيًا كانت الظروف.
إن ما حدث هذا العام يكشف أن الشناقة الحقيقيين ليسوا فقط أولئك الذين يحتكرون العرض ويرفعون الأسعار، بل أيضًا أولئك الذين يشترون بلا وعي، ويدفعون السوق نحو الجنون. فالسوق لا يتحرك وحده، بل يحركه الطلب. وحين يكون هذا الطلب جشعًا ومندفعًا، لا مجال للحديث عن العدالة أو العقل أو حتى الوطنية.