لم يعد لا غريبا ولا مفاجئا ، أن يستقبلك موظف عمومي في مرفق إداري – قصدته لقضاء مصلحة – وهو يرتدي لباسًا لا يمتّ بأي صلة إلى الوظيفة التي يشغلها. أحيانًا تتساءل: هل هو خارج للتو من غرفة نومه؟ أو في طريقه إلى المطبخ؟ أو عائد من قاعة رياضة؟
ولم يعد مستغربا أن تتابع نشرة إخبارية فتُصدم بهيئة نائب أو مستشار تحت قبة البرلمان.
أما حين يُستضاف أحد الباحثين أو الأساتذة أو الخبراء في برنامج حواري، أو تصريح تلفزي فأول ما يتبادر إلى الذهن إذا كان المشارك قد قبل أن يظهر بهذا الشكل أمام ملايين المشاهدين؟ فكيف هو مظهره داخل المدرج الجامعي أو القسم أمام الطلبة ؟ ففي هذا المجال الإعلام العمومي فقد، أي مرجعية أو ضابط سواء لموظفيه او لضيوفه.
ويزداد الوضع سوءًا حين نلاحظ أن هذا التراخي امتد حتى إلى بعض المؤسسات البنكية والمهن الحرة، التي كانت – إلى وقت قريب – مثالًا في الانضباط والصرامة في المظهر والسلوك.
في التراث الإسلامي، كما في التجربة الأوروبية الكلاسيكية، لم يكن اللباس مجرّد تفصيل هامشي، بل كان جزءًا من وظيفة رمزية عميقة وامتداد للبناء الرمزي للدولة، لا اختيارًا شخصيًا معزولًا.
قال ابن خلدون في المقدمة:
“إنّ الهيئة في اللباس والمظهر تُحْدِث في النفس هيئةً من الهيبة، وتأدبُ المرؤوس في حضرة الرئيس من أثر تلك الهيئة.”
أما كبار الفقهاء كابن جماعة والشاطبي والماوردي، فاعتبروا الوقار الظاهر شرطًا ضمنيًا من شروط الثقة في المؤسسة.
فهل ما نعيشه اليوم مجرّد استهتار فردي؟ أم أننا بصدد تراجع في رمزية الوظيفة، وانهيار تدريجي في صورة الدولة داخل مخيال الناس؟
• يروي لي صديق رحل رحمه الله ، كان عضوًا بمجلس المستشارين في زمن ما ، أنه في أحد أيام الصيف الحارة، خرج مع زميله لتناول الغداء بعد جلسة برلمانية، وقد نزعا ربطة العنق. وعند عودتهما، رنّ الهاتف قبل أن يصلا إلى المكتب. كان على الخط نوبير الأموي، من البيضاء، مستفسرًا – وقد بلغته الملاحظة من إدارة البرلمان. بالنسبة إليه، كان غياب ربطة العنق ليس تفصيلًا شخصيًا، بل تقصيرًا في تمثيل المؤسسة.
• أما المحامي عباس الفاسي، شفاه الله فقد أمر، في مشهد آخر، أحد المحامين المتدرّبين بمغادرة قاعة المحكمة فورًا، لأنه كان يحمل الحقيبة بيده، ويرتدي لباسًا غير ملائم للمرافعة. فعل ذلك أمام زملائه. لم يكن التوبيخ شخصيًا، بل دفاعًا عن رمز المحاماة، وعن الهيبة المهنية في حضرة القضاء.
• أما أنا، فقد صُدمت شخصيًا عند زيارتي تونس بعد سقوط نظام بنعلي. ففي المطار، رأيت رجال أمن بقمصان مفتوحة، دون ربطة عنق، وبعضهم يرتدي صندلاً. كان ذلك مشهدًا صاعقًا، إذا قارنته بالانضباط الشكلي الصارم الذي كنت ألاحظه خلال زياراتي السابقة في زمن بورقيبة وبنعلي. بدا لي المشهد عنوانًا لانهيار في أدق تفاصيل الدولة.
لا أحد ينكر أن لكل فرد حريته في اللباس في حياته الخاصة – وإن كانت هي الأخرى خاضعة للذوق العام.
لكن الحقيقة أن مؤسسات الدولة ليست فضاءات شخصية، بل واجهات عمومية.
حين يدخل الموظف إلى الإدارة، أو يقف النائب في البرلمان، أو يترافع المحامي في المحكمة، أو يصعد الأستاذ إلى منصة المدرج الجامعي، فإنه لا يمثل نفسه، بل يمثّل سلطة رمزية وهيئة ذات دلالة.
الهيبة لا تُفرض بالقانون فقط، بل تُبنى بالمظهر والسلوك.
اللباس، هنا، ليس أداة للزينة، بل لغة غير منطوقة. هو شكل من أشكال الانضباط المؤسساتي.
• في سنغافورة، يخضع الموظفون العموميون لتقييم دوري يشمل الالتزام بالمظهر المهني.
• في اليابان، يُعدّ اللباس الموحد جزءًا من الفلسفة الجماعية للعمل، لا قيدًا على الحرية.
• في فرنسا وألمانيا، تتضمن بعض الوزارات مدونات سلوك تنظم لباس المناسبات الرسمية، بعقوبات رمزية عند الإخلال بها.
أما في المغرب، فباستثناء القطاعات الأمنية والعسكرية، تغيب المدونات المؤطرة للمظهر داخل الإدارات، ويترك الأمر للذوق الشخصي، الذي غالبًا ما يفقد بوصلته حين تغيب المرجعية.
إذا أردنا فعلًا إعادة هيبة المؤسسات، فلا بد أن نبدأ من التفاصيل: من اللباس، من اللغة، من سلوك الموظف. فحين لا يعود المواطن يفرّق بين الموظف العمومي والمارّ في الشارع، أو بين الأستاذ ومشجع كرة قدم، أو بين المحامي وناشط على تيك توك، نكون قد دخلنا مرحلة الانهيار الحقيقي، لا الرمزي فقط، للمؤسسات.
فلنُعِد للوظيفة العمومية هيبتها ، لا بفرض الزّي قسرا بل ببناء وعي مجتمعي جديد.
ولنُعِد للهندام رمزيته، لا لأنه حكم على الناس، بل لأنه مرآة احترام الذات والمكان .
"المؤسسة تُوقَّر بوقار ممثليها، وتُهان بإهمال تفاصيلهم."