عبد السلام طويل: النظر الفلسفي في المسألة السياسية لدى كمال عبد اللطيف

عبد السلام طويل: النظر الفلسفي في المسألة السياسية لدى كمال عبد اللطيف كمــال عبــد اللطيــف (يمينا) وعبد السلام طويل
نظمت شعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط بتعاون مع مركز روافد للدراسات و الأبحاث في حضارة المغرب و تراث المتوسط " و مؤسسة فهارس لخدمات الكتاب ، ندوة تكريمية للأستاذ كمال عبد اللطيف ، و ذلك يوم الأربعاء 14 ماي بمدرج الشريف الإدريسي قدمت خلالها العديد من المداخلات و الشهادات تضمنها كتاب جماعي  بعنوان :" التنوير أفقا "  قدم له ذ. محمد نورالدين أفاية . تنشر " أنفاس بريس " النص الكامل لمساهمة الأستاذ عبدالسلام طويل التي أختار لها كعنوان : " النظر الفلسفي في المسألة السياسية لدى كمال عبد اللطيف" .
 

على سبيل التقديم

يحتــل ســؤال السياســة politique( )La والسياســي politique( )Le في صلتهمــا الوثيقـة  بإشـكاليتي الحداثـة والتحديـث السياسـي، وسـؤالي الإصـاح والنهضـة، مكانـة مركزيــة في المتــن الفكــري للأســتاذ كمــال عبــد اللطيــف.1 وعيــا منــه أن المجتمعــات العربيــة لــم تتشــبع بعــد بقيــم الحداثــة والتحديــث بمــا يفضــي إلــى ارتيادهــا عوالــم العصــور الحديثــة؛ أي القواعــد التــي تهيــئ القوانيــن المســاعدة في عمليــات تنظيــم المجتمــع في مؤسســات وتنظيمــات مدنيــة، لإشــراك مكوناتــه المختلفــة في ديناميــات

التحديــث والنهضــة.2 ووعيــا منــه كذلــك أن مــن مظاهــر قصــور وهشاشــة بنيــة الــدول 

العربيــة تأرجحهــا بيــن نمطيــن مــن الســلطة؛ النمــط الســلطاني ونمــط الدولــة الوطنيــة الحديثة.1

ونحــن في مقــام تقييــم المنجــز الفكــري المتميــز للأســتاذ كمــال عبــد اللطيــف والاحتفــاء المســتحق بــه وبصاحبــه، يتعيــن ألا نغفــل عــن الــدور النقــدي الهــام الــذي اضطلــع بــه وواكبــه بــدأب وموضوعيــة ويقظــة فكريــة علــى مــدى عقــود مــن البحــث في أهــم المشــاريع الفلســفية والفكريــة العربيــة الحديثــة والمعاصــرة مــن ســامة موســى وفــرح أنطــون وصــولا إلــى عبــد الله العــروي ومحمــد عابــد الجابــري ومحمــد جابــر الأنصاري وعلي أومليل وناصيف نصار وطه عبد الرحمن.

وهــو في جــل دراســاته يتميــز بنظــر فلســفي مطبــوع بدرجــة كبيــرة مــن الشــمول والإحاطـة، وهـو مـا تعكسـه العناويـن الفرعيـة لفهـارس مؤلفاته العديـدة، وهـي العناوين التــي  يبــدع في صياغتهــا صياغــة تجلّــي وجهــة البحــث قبــل الخــوض في غمــاره، وكــذا مقـالات الـرأي في العديـد مـن المنابـر. ومثلمـا اهتـم بالقضايـا الفلسـفية والنظريـة العامة، اعتنـى كذلـك بإنجـاز دراسـات قطاعيـة خاصـة تناولـت موضوعـات محـددة مـن قبيـل؛ «الإصـاح السياسـي  في المغـرب: التحديـث الممكـن، والتحديـث الصعـب»، «العدالـة الانتقالية والتحولات السياسية في المغرب: تجربة الإنصاف والمصالحة

أولًا: في مركزية السياسة والتحديث السياسي

يتعيــن التأكيــد بدايــة أن مركزيــة ســؤال السياســة والسياســي في فكــر كمــال عبــد اللطيــف، ومحاولــة تعقلــه والنظــر فيــه مــن الوجهــة الفلســفية، ليســت أمــرا مســتنبطا فحســب، وإنمــا هــو أمــر محكــوم بدرجــة كبيــرة مــن القصديــة والوعــي؛ فقــد خصــص، علـى سـبيل المثـال، البـاب الثـاني مـن مؤلفه الموسـوم بــ «التأويـل والمفارقـة».. للتأصيل الفلســفي للنظــر السياســي،  مثلمــا عنــون الفصــل الســادس مــن نفــس الكتــاب بعنــوان بالــغ الدلالــة في هــذا المقــام «في الدفــاع عــن الحداثــة السياســية.2» كمــا أنــه لا يخفــي في مفتتـح مؤلفـه «العـرب والحداثـة السياسـية» كيـف أنـه قـد وضـع نصـب عينيـه هدفـا كبيـرا يتمثـل في «المسـاهمة في تطويـر الخطـاب السياسـي العربـي المعاصـر، مـن منظـور يـروم 

تأصيــل المفاهيــم، وبلــورة الــرؤى القــادرة علــى بنــاء النظــر السياســي العربــي بصــورة مطابقة لتاريخ ما فتئنا نعمل على تخطيه بصناعته وتأسيسه.1»

وفي مختتــم تشــريحه لأصــول الاســتبداد مــن خــال قراءتــه لنظــام الآداب الســلطانية يؤكــد أن: «مســألة التنظيــر السياســي النقــدي الهــادف إلــى القطــع مــع اللغــة السياســية العتيقــة، ســتظل ضمــن  أولويــات جــدول أعمالنــا في الفكــر السياســي العربــي المعاصــر، طــال الزمــن أم قصــر2»، نافيــا إمكانيــة القفــز علــى أســئلة النظــر السياســي بدعوى الاكتفاء بالعمل السياسي الصرف.

إن وعيـه بأهميـة التـازم بيـن النظـر والعمـل هـي التـي جعلتـه يخلـص إلـى القول: «إذا كانــت الآداب الســلطانية آدابــا في العمــل السياســي، فــإن هــذا الأمــر لا ينفــي عنهــا اســتنادها إلــى مبــادئ فلســفية كبــرى، مبــادئ موجهــة لنســيجها في الكتابــة ورؤاهــا في النظــر.3» ذلــك أن «العفويــة السياســية تعنــي التبعيــة العميــاء، والتبعيــة العميــاء لا تنتــج النظــر الكاشــف عــن معالــم الطريــق؛  طريــق إعــادة بنــاء المشــروع السياســي المطابــق للتاريــخ، والدولــة الوطنيــة المعــبرة عــن الإرادات الجماعيــة»، والمعــبرة عــن الواقــع وممكنـات التاريـخ، مراهنـا علـى مـا اصطلح عليـه بـ»المعركـة المركبة، والنقـد المركب، والأســئلة المركبــة»، باعتبارهــا» واجهاتنــا لكشــف محدوديــات فكرنــا في مســتويات متعــددة، ومــن بينهــا المجــال السياســي.4» مــن خــال صياغــة وإعــادة صياغــة ســؤال المشـروعية مـن الوجهـة الفلسـفية والتاريخيـة والقانونيـة، سـعيا لكسـب رهـان التحديـث والديمقراطية.5

ولذلــك نجــده دائــم الانشــغال بالنظــر التأصيلــي النقــدي والوظيفــي في قضايــا الدولــة،  والســلطة، والديمقراطيــة، والعلمانيــة، والحداثــة والإصــاح، والإيديولوجيــا، والشــرعية والمشــروعية، والثــورة، والمجتمــع المــدني، وقضايــا الحريــات العامــة 

وحقــوق الإنســان، والعدالــة الانتقاليــة، والمواطنــة، والتعاقــد الدســتوري.. فضــا عــن تأماتــه النظريــة في مفاهيــم الحريــة والعدالــة، والمســاواة.. وهــو في كل هــذه القضايــا والإشــكالات والمفاهيــم يربــط بشــكل جدلــي بيــن الفكــر والواقــع، بيــن المرجعيــات المعياريــة والتجــارب  التاريخيــة المســاوقة لهــا، مثلمــا يربــط الصــراع الإيديولوجــي بصــراع المصالــح والمنافــع والاســتراتيجيات في التاريــخ.1 مســتخلصا أن «كل حديــث عــن الســلطة يتضمــن بالضــرورة  بصــورة أو بأخــرى، موقفــاً مــن الطبيعــة والإنســان والتاريــخ.2» فهــو شــديد الإنصــات للتاريــخ، شــديد الوعــي بمحدداتــه، شــديد الالتــزام بمنطقه وقوانينه.

وإذا جــاز لنــا أن نكثــف النتــاج الفكــري والفلســفي للأســتاذ كمــال عبــد اللطيــف في أطروحـة أساسـية فلـن نجـد أوفـق ولا أدق مـن إشـكالية الحداثـة والتحديث السياسـي في ســعيه العنيــد لمحاولــة  تفســير وتجــاوز واقــع التأخــر التاريخــي؛ بحيــث أن مســاره المعــرفي الغنــي يشــكل، في جــزء كبيــر منــه، دفاعــا نقديــا عــن قيــم الحداثــة السياســية وأسســها المعرفيــة والأخاقيــة، إيمانــا منــه أن حاجتنــا إلــى الحداثــة والفكــر التاريخــي باتت تمثل أولوية مؤكدة.3

ولذلــك يمثــل التحديــث السياســي، بالنســبة إليــه، أفقــا تاريخيــا لتحقيــق التقــدم وتجــاوز واقــع التأخــر التاريخــي علــى مســتوى؛ أجهــزة الدولــة وســلطاتها، وعلــى مســتوى الأحــزاب السياســية، وعلــى مســتوى مؤسســات المجتمــع المــدني. وهــو مــا يفســر ســعيه للإســهام في الدفــاع عــن المشــروع التحديثــي المنتــج للفعــل الإصاحــي الأكثر تاريخية، أي الأكثر مردودية ونجاعة بمنطق الحضارة.4

غيــر أن مركزيــة التحديــث السياســي في فكــره لا تلغــي وعيــه بحقيقــة أن هــذا التحديــث والثــورة السياســية المازمــة لــه علــى أهميتهــا لا يمكــن أن تــؤتي تمارهــا التاريخيـة إلا إذا تأسسـت علـى عمليـة تحديـث ثقـافي يطـال نظـام القيـم في صيغـة «ثـورة 

ثقافيــة ومــن هنــا دعوتــه إلــى «ضــرورة تحصيــن الثــورة السياســية بثــورة مماثلــة في الذهنيــات.1» الأمــر الــذي يفســر رهانــه علــى التأويــل العقــاني التنويــري والحداثــي للــتراث في مواجهــة كل مظاهــر النصيــة والوثوقيــة. وإيمانــه الشــديد بــأن كســب رهــان معركــة الحداثــة والتقــدم لا يمكــن أن يتحقــق إلا بالاقتحــام العقــاني الجســور للجــة صراع التأويات، وهو الصراع الذي خاضه ولم يفتأ يخوضه بإصرار واقتدار.

غيـر أن ذلـك لا ينفـي أن حرصـه علـى فهـم وتفسـير واقـع التأخـر التاريخـي سـعيا لتجــاوزه  ينــدرج ضمــن إشــكالية أكــبر تتمثــل في إشــكالية النهضــة بمختلــف أبعادهــا الحضاريــة؛ في الاقتصــاد والسياســة والاجتمــاع والثقافــة والعلــوم والتقنيــة؛ حيــث تبــدو الحداثــة السياســية، رغــم أهميتهــا، خادمــة  لمقصــدي النهضــة والتقــدم، بحيــث تتحــدد لديه وظيفيا بكونها «المدخل الرئيسي للنهضة والتقدم.2»

لا ريــب أن انتصــار كمــال عبــد اللطيــف للحداثــة والحداثــة السياســية يعـبر عــن انتصـاره للدولـة الوطنيـة الحديثـة بثقافتهـا السياسـية الجديـدة القائمـة علـى هويـة جامعـة تتجــاوز جدليــا كل الهويــات الفرعيــة الطائفيــة مــا قبــل حديثــة، وهــي الهويــة الجامعــة التــي تتمثــل في المواطنــة؛  باعتبارهــا عاقــة قانونيــة تربــط الفــرد المواطــن بالدولــة ونظامهــا القانــوني العــام، وبمقتضاهــا يتمتــع بحقــوق وحريــات متســاوية، مثلمــا يلتــزم بواجبـات متسـاوية بغـض النظـر عـن جنسـه أو عرقـه أو دينـه، أو إيديولوجيتـه، أو وضعـه الاجتماعـي. إنهـا الدولـة الدسـتورية الديمقراطيـة المدنيـة، دولـة الحـق والقانـون، دولـة المؤسسـات الكافلـة للحريـات الخاصـة والعامـة، والضامنة  للحقـوق المدنية والسياسـية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية.

وهـي هويـة جامعـة كافلـة للتعدديـة والتنوع وشـرعية الاختـاف في كنـف الوحدة، وواقيــة مــن فتــن الطائفيــة والإثنيــات؛ بحيــث: «لا خــاص لنــا مــن فتــن الطائفيــة والإثنيــات في مجتمعاتنــا إلا بمزيــد مــن توســيع مجــالات قيــم التحديــث والمشــاركة السياســية، بالصــورة التــي تعــزز أواصــر الاندمــاج المطلوبــة في مجتمــع حديــث ودولــة 

مؤسسـات قائمـة علـى تنظيمـه.1» وبصيغـة أكثـر وضوحـا يخلـص الأسـتاذ كمـال إلـى أن الديمقراطيــة والمواطنــة  كهويــة جامعــة تمثــل الصيغــة الأنســب لاســتيعاب التعدديــة في أبعادهــا المختلفــة. ففيمــا يتجــاوز تدبيــر الشــأن السياســي العــام يقــف علــى «الأهميــة التاريخية والدور المخصب للتنوع في التاريخ.2»

وهــو مــا يؤكــد حاجتنــا الفعليــة، وفــق المنطــق الاســتنتاجي التاريخــي للأســتاذ كمــال عبــد اللطيــف، إلــى الحداثــة السياســية ومــا تحيــل إليــه مــن تدبيــر تعاقــدي ديمقراطــي للســلطة في إطــار المبــادئ الدســتورية الكـبرى التــي تتحــدد بســمو القانــون، وســيادة الأمــة، وفصــل الســلط، واســتقال القضــاء، والتــداول الســلمي علــى الســلطة الــذي لا يمكــن تحققــه إلا بكفالــة الحــق في التعدديــة السياســية والإيديولوجيــة بمــا لا يخل بالثوابت الدستورية الضامنة للمشترك الوطني العام.

وضمـن هـذا المنحـى نجـده يعتمـد منظـورا للإصـاح السياسـي والثقافي في سـعيه لرســم معالــم «مشــروع مجتمــع جديــد» يقــوم علــى ثــاث ركائــز أساســية؛ مجتمــع المواطنــة القائمــة علــى الحريــة والمســاواة واتســاع دائــرة الحــق في المشــاركة في تدبيــر الشـأن العـام، ودولـة المؤسسـات القائمـة علـى الشـرعية الديمقراطيـة وحكـم القانـون، ومطلب العدالة.3

ثانياً: توترات حضور الدينفي المجال العام والحاجة إلى الإصاح الديني

حــدد الأســتاذ كمــال عبــد اللطيــف الســياق التاريخــي لمــا بعــد الثــورات العربيــة بزمــن المراجعــات الكـبرى الــذي حــاول فيــه اســتيعاب جملــة مــن القضايــا ضمــن مــا اصطلـح عليـه بـ»الطـور الانتقالـي العربـي»؛ سـواء علـى صعيـد الخطابات أو علـى صعيد الاســتقطابات السياســية المســتجدة ومــا ترتــب عنهــا مــن مــآزق حــاول جاهــدا تعقلهــا انطاقــا مــن مداخــل ومنظــورات متضافــرة يتصدرهــا المقـترب الثقــافي. وذلــك اعتمــادا علـى ثـاث مفـردات بمثابـة لحظـات أو منطلقـات تفسـيرية؛ منطلـق الارتبـاك،  ومنطلـق المفارقة، ومنطلق المراجعات.

 

نســجل بدايــة أن لحظــة الارتبــاك قــد عــادت بكمــال عبــد اللطيــف إلــى أصــل العطـب المفسـر لواقـع التأخـر التاريخـي علـى مـدى قـرن ونيـف، مـن خـال مـا اصطلـح عليــه بـ»التحديــث المعــوّق والتقليــد المعــوّق أمــا لحظــة المفارقــة أو الأحــرى المفارقــات التــي ولدتهــا انفجــارات 2011 فتتحــدد لديــه بغيــاب الاتســاق واســتحكام التناقضــات وتوترهــا،  وهيمنــة الاختــالات المولــدة لمفارقــات متناســلة، واتســاع المسـافات وتوترهـا، وهيمنـة الاختـالات المولـدة لمفارقـات أخـرى. غيـر أنـه لا يجـد تفســيرا لواقــع المفارقــات المتفجــرة إلا بمــا ســبق أن فســر بــه واقــع الارتبــاك؛ أي مــن خال» معادلة التحديث المعوّق والتقليد المهيمن.1»

بيــن الارتبــاك الــذي ينظــر إليــه كفعــل مــازم لـ»الطــور الانتقالــي العربــي»، والمفارقــات التــي تــتراءى لــه بمثابــة صــور ناقلــة لانعكاســات الارتبــاك علــى مســتوى المـدركات والتصـورات، اختـار كمـال عبـد اللطيـف أن يضـع نفسـه في بـؤرة الحـدث؛ مراهنـا علـى اسـتيعابه واسـتيعاب  الانفجـارات والشـعارات والأحـام المازمـة لهـا أمـا في بنـاء «شـرعية سياسـية جديـدة تجعلنـا نخطـو خطـوة كـبرى في مسـيرة ترتيبنـا للمشـروع الديمقراطي العربي، وذلك بكسر السقف الذي يواصل هيمنته على حاضرنا.2»

وهـو في كل ذلـك يتحـدث بلغـة حـال وانهمـام جماعـة المثقفيـن التـي ينتمـي إليهـا بجــدارة مــن خــال دور «الإســناد الثقــافي» الــذي يقــع علــى عاتقهــا تقديمــه لمشــروع التحديـث العربـي. وبوجـه خـاص مـن خـال اعتمـاد «مبـدأ المراجعـات الكـبرى» التـي بدونهــا لا أمــل في التصــدي  لمــا اصطلــح عليــه بـ»المنــازلات الكــبرى» في ظــل الطــور الانتقالـي الـذي يبـدو أنـه قـد بعـث شـيئا مـن التفـاؤل التاريخـي في روعـه حيـث لاحـت لـه إمكانيـة «إنجـاز تأصيـل ثقـافي مبـدع للتحديـث  العربـي والديمقراطيـة العربيـة» بشـكل يســعف في «تحقيــق مزيــد مــن التملــك التاريخــي لحداثــة يتطلــع  إليهــا الجميــع.3» لكــن إذا كنــا بصــدد تملــك  تاريخــي ولــو جزئــي للحداثــة نســعى إلــى تعزيــزه، فمــن الصعــب  التسـليم بكـون الجميـع يتطلـع إليهـا وإلا اختلـت إشـكالية النظـر المركزيـة التـي اعتمدت برمتها، أقصد إشكالية الحداثة والتقليد.

 

مــن مظاهــر الاحــتراس الموضوعــي والحــس التاريخــي المميــزة لمنهــج النظــر لـدى كمـال عبـد اللطيـف، رغـم اختيـاره بـل وانحيـازه الإيديولوجـي والمعـرفي الحداثـي الوضعــي الجلــي، وهــو يقــارب موضوعــا شــديد الحساســية والتمــاس بقضايــا السياســة والإيديولوجيــا والديــن ورهاناتهــا، مــن قبيــل «تحديــات توظيــف المقــدس في الراهــن العربـي»، تحديـده لأفـق البحـث ومقصـده «نحـو تحريـر الديـن» مـن المتاعبيـن بقيمـه الســامية، تحريــره مــن كل أضــرب الوصايــة  والتوظيــف الإيديولوجــي المغــرض، وكــذا تحريـره مـن «سـطوة الجهـل» لا سـعيا إلـى إقصائـه والمصـادرة  علـى حقيقتـه ووظائفـه. والأهــم مــن ذلــك رهانــه علــى أن الإصــاح الدينــي، كمــا ســوف نــرى، يمثــل أقــرب الســبل إلــى تحريــر الديــن مــن التيــارات التــي لا تتحــرج في التاعــب بمبادئــه وقيمــه ومثلــه.1 وكــذا انطاقــه مــن أن حضــور المقــدس في التاريــخ وتوظيفــه ليــس بالأمــر الطــارئ؛ فهــو قديــم قــدم المجتمعــات البشــرية، مــع مــا يتميــز بــه هــذا الحضــور  وهــذا التوظيف من تعقد والتباس.2

ففــي ســعيه إلــى تعقــل وصــول بعــض تيــارات الإســام السياســي إلــى الحكــم ومـدى تأثيـر ذلـك علـى حـال ومـآل «المشـروع السياسـي الديمقراطـي وقيمـه الوضعيـة» ياحــظ  كيــف أن أغلــب المجتمعــات الإســامية تتســاكن ضمنهــا خمســة أنمــاط مــن الإســام؛ «إســام المواطــن» ويتميــز ببعــد ثقــافي مــرن. و»إســام الدولــة» كمــا ترســم معالمـه الدسـاتير؛ وهـو «إسـام محـروس بطقـوس وتقاليـد معينـة، وأشـكال مـن تدبيـر نظـام العبـادات» وتنظيـم الفتـوى الشـرعية. إلـى جانـب «الإسـام الطرقـي» «الـذي ترعـاه الزوايـا ويسـتقر في جـوار أضرحـة  الصالحيـن، وتخصـص لـه مواسـم محـددة بالإضافـة إلـى «الإسـام الجهـادي» الـذي يتميـز بالدوغمائيـة والجذريـة والفشـو بفضـل اسـتغاله الأداتي للثــورة التكنولوجيــة في مجــال الاتصــال والتواصــل. فضــا عــن «الإســام السياســي» بطابعــه البرغمــاتي المتمثــل في نـــزوعه إلــى «الاســتحواذ علــى التمثــات المختلفــة للإســام وتمظهراتــه وطقوســه» رغــم رفعــه لشــعارات الدفــاع عــن الهويــة والعقيــدة.3 ومــا يعنينــا مــن إيــراد الوعــي بهــذا التمييــز أساســا؛  مــا ينشــأ عنــه مــن تنســيب على مستوى النظر المنهجي والمقاربة التحليلية للظاهرة موضوع البحث.

 

فرغــم نقــده الــذي لا يليــن لمظاهــر النصيــة والوثوقيــة والرجعيــة في الخطــاب الإســامي المتشــدد، إلا أنــه لا يســلم بدعــوى أن الحــركات الإســامية بإطاقهــا تمثــل ثــورة مضــادة بدعــوى أنهــا حــركات لــم تســتوعب قيــم الحداثــة، مشــددا علــى أن هــذا الحكـم يغفـل مثلمـا يذهـل عـن جدليـات التاريـخ التـي تمـارس علـى الفاعـل السياسـي مــا يدفعــه ويحملــه علــى تغييــر مواقفــه وتعديلهــا،  أو علــى الأقـل العمــل علــى تكييفهــا مــع المتغيــرات الجديــدة. ليخلــص إلــى أن التحــدي الأساســي المطــروح أمــام فكــر وممارسة الإساميين يكمن في مواجهة الذات أولا وإتمام مهمة الإصاح الديني.1

وفي هــذا الســياق، وخافــا لمخــاوف وتوجســات الكثيريــن، يغامــر بفرضيــة مفادهـا أن صعـود تيـارات الإسـام السياسـي إلـى السـلطة في بعض البلـدان العربيـة يمثل «مؤشــرا قويــا علــى ضــرورة إتمــام مشــروع الإصــاح الدينــي؛ انتصــارا لقــراءة جديــدة لنصــوص الإســام ومعتقداتــه بــدلا مــن الاكتفــاء بمخاتلــة القضايــا المرتبطــة بــه، أو الاكتفــاء، عنــد النظــر إليهــا، بتركيــب  معــادلات التوافــق الســهل الــذي يســكت عــن المركــزي في المســائل المطروحــة في موضوعــات الإصــاح، ليعتنــي بالهامشــي والعارض وهو الأمر الذي لا يخدم ديناميات تحديث مجتمعاتنا.2

وهـو التوافـق السـهل الـذي طبـع اجتهـادات الإصاحيـة الإسـامية مـع الأفغـاني ومحمــد عبــده ورشــيد رضــا، رغــم أهميتهــا القصــوى في ســياق تاريخيتهــا الخاصــة، سـعيا لإنجـاز التوافـق الضـروري بيـن القيـم الدينيـة وعالـم جديـد مـا يفتـأ يتغيـر؛ بحيـث لــم يتجــاوز ســقف الإصــاح الدينــي  لديهــم ولــدى امتداداتهــم، مــن وجهــة نظــر كمــال عبـد اللطيـف، مسـتوى «المواءمـة بيـن مقتضيـات الحاضـر في تنوعهـا، ومبـادئ الإسـام في عموميتهـا»؛ أي أن اجتهاداتهـم لـم تتجـاوز النــزعة التوفيقيـة، ولـم تصـل إلـى مسـتوى إنجــاز تأويــل جديــد في الأصــول والمبــادئ العامــة.3 علمــا  أن حريــة الاجتهــاد تمثــل مفتاحا وشرطا لأي إصاح ديني جدي.4

 

فبعــد رصــده للعــودة1 القويــة للمقــدس في المجتمعــات المعاصــرة، والحضــور المتنامــي للديــن، وتوظيفاتــه الجاريــة بكثافــة في المجــال السياســي العربــي في ســياقات «الربيـع العربـي»،  يتوقـع أن تسـفر هـذه التوظيفـات الجاريـة عـن انـدلاع معـارك مرتقبـة. وهــي المعــارك التــي تكشــف مؤشــراتها في أغلــب الــدول العربيــة، وفــق رؤيتــه التنبؤيــة، مــا ينتظرنــا مــن «مجابهــات ومواجهــات» و»معــارك مؤجلــة لا منــاص مــن خوضهــا مــن أجــل «تفتيــت القيــود التــي تكبــل الذهنيــات وتحاصــر طموحاتنــا  في تجــاوز تأخرنــا التاريخي» سعيا لـ»توطين قيم التاريخ والحداثة في مجتمعاتنا.2»

غيــر أن هــذا التوقــع بشــحنته الصراعيــة لا يحمــل أيــة دلالــة معياريــة ســلبية مــن الحقيقــة الدينيــة والنـــزوع الروحــي في بعــده الإنســاني الوجــودي الصميــم؛ ومصــداق ذلــك أن كمــال عبــد اللطيــف يؤكــد أن «الصــور الجديــدة لتوظيــف الإســام ومبادئــه السـامية في حياتنـا السياسـية، وصـور الخلـط الـذي نعايـن اليـوم في مشـهدنا السياسـي بيـن لغـة التعاقـد والتاريـخ والنصـوص الدينيـة، تضعنـا أمـام إشـكالات يمكـن التصـدي لهـا برفع راية الاجتهاد والعقل.3»

كمـا يعتقـد أن توظيـف الديـن في المجـال العـام يسـتدعي، بقـوة، تجـدد النظـر في مسـألة الإصـاح الدينـي وإعـادة الاعتبـار للبعـد الروحـي والإيمـاني المتعالـي للوجـود الإنسـاني، مسـلما  بأهميـة المقـدس والروحـي في حيـاة الإنسـان بمعاييـر التاريـخ وقيمـه.4 كمـا يسـتدعي «تحييـن تصوراتنـا ومواقفنـا مـن الديـن وعاقتـه بالسياسـة.5» اسـتلهاما لمـا بلورتـه الفلسـفات الحديثـة، في سـياق نقدهـا لصـور اسـتخدام الديـن في الحيـاة العامـة، من مبادئ أمست من «المكا سب النظرية في موضوع تصورها لأسس الدولة المدنية.6»

 

وفي هـذا السـياق ياحـظ كيـف «يؤشـر تنامـي حـركات التعبيـر الدينـي وأشـكاله في العالــم لمعاصــر إلــى تجــدد الوعــي بــدور الروحانيــات في مجتمعاتنــا، بنــاء علــى نظــرة جديــدة إلــى الحيــاة تــروم توســيع مســاحة تحريــر الديــن مــن )...( جميــع المحتكريــن لرأسـماله الرمـزي.1» ليخلـص، أبعـد مـن ذلـك، إلـى اسـتحالة «فهـم العالـم اليـوم، مـن دون الانتبــاه إلــى عوالــم المعتقــدات والأدوار التــي أصبحــت تمارســها في الصــور المختلفة للصراع الحاصلة في العالم.2»..

وتفسـير  ذلـك أن «العاقـات الدوليـة مثلمـا تتضمـن وتقـوم على فاعليـن عقانيين وأبنيـة ومصالـح وشـروطا ماديـة، أي توزيـع قـوى، فإنها تنطـوي، كذلك، علـى منظومات فكريــة وثقافيــة وقيميــة ومعاييــر تتجســد في مختلــف الأبنيــة الاقتصاديــة والسياســية والاجتماعيـة والأمنيـة التـي تشـكلها وتعطيهـا طابعهـا الخـاص المميـز. ومـع أن أدبيـات دراسـة العاقـات الدوليـة، قـد تعـددت وجهـات نظرهـا ومقترباتهـا بشـأن الـوزن النسـبي المعطــى للعامــل الثقــافي  والقيمــي في تفســير السياســة الدوليــة، فإنهــا علــى اختافهــا وتنوعهــا لــم تغفلــه. بــل إن العقــد الأخيــر مــن القــرن الماضــي قــد تميــز بإعــادة بعــث وإحيـاء دور العامـل الثقـافي القيمـي والمعيـاري في صياغـة السياسـة الدوليـة وتفسـيرها، مثلمــا تميــز بتنامــي مكانــة الثقافــة والقيــم  في هندســة السياســات الدوليــة ســعيا لتعزيــز نموذج كوني للعاقات الدولية بين الأمم أكثر تشاركية.3»

وفي هــذا الســياق تحضــر بقــوة نظريــة صــدام الحضــارات لصامويــل هنتغتــون، كنظريــة حاولــت تفســير العاقــات الدوليــة في مرحلــة مــا بعــد الحــرب البــاردة، علــى مسـتوى كـوني، بنـاء علـى «الحـدود السوسـيوثقافية؛ اللغويـة والدينيـة.4» وبمقتضـى هـذه النظريــة فــإن المصــدر  الأساســي للنزاعــات والصراعــات الدوليــة، كمــا تنبــأت، ســوف لــن يكــون سياســيا ولا اقتصاديــا  ولا حتــى إيديولوجيــا، وإنمــا ثقافيــا دينيــا وحضاريــا؛ حيــث ســوف تندلــع النزاعــات والصراعــات والحــروب علــى امتــداد خطــوط التقســيم 

الثقافيــة التــي تفصــل بيــن الحضــارات الأساســية: الحضــارة الغربيــة، الحضــارة الأمريكولاتينيــة، المســيحية الأرثودكســية، الحضــارة اليابانيــة، والهنديــة، والصينيــة، فضا عن الإسامية.1

يســتمد الرهــان  علــى اســتكمال الإصــاح الدينــي مركزيتــه مــن مركزيــة الرهــان علـى إنجـاز التحديـث السياسـي. بعيـدا عـن السـعي إلـى حرمـان النخـب الحداثيـة مـن الإسـهام في هـذا الإصـاح، إلا أن الإصـاح الدينـي لـن يـؤتي تمـاره، ولـن يكـون لـه أثـر فاعــل في التاريــخ إلا إذا تــم مــن الداخــل مــع مــا يقتضيــه ذلــك مــن توتــر وصــراع. وهــو الأمر الذي تعززه الخبرة التاريخية الغربية في الإصاح الديني.

فرغــم وعــي الأســتاذ كمــال عبــد اللطيــف بأهميــة الاســتفادة مــن مختلــف المكاســب النظريــة والمنهجيــة لتجربــة الإصــاح الدينــي المســيحي البروتســتانتي في عصـر النهضـة، إلا أنـه يشـدد علـى ضـرورة «إبـداع إصـاح دينـي ثقـافي وتاريخـي يكافـئ طبيعــة المهــام المطلوبــة في حاضرنــا، وفي صــور عاقتنــا بالبعــد الدينــي في تجلياتــه المختلفة في تاريخنا.2»

وهــو مــا جعلــه يخلــص إلــى أن الإصــاح الدينــي يســتوجب عمليــات فكريــة معـزّزة لآليـات الاجتهـاد والنقـد والحريـة، وكـذا تطويـر برامـج التربيـة والتعليـم، وتعزيـز الفكــر التاريخــي والنقــدي لمــا لــه مــن أهميــة بالغــة في اخـتراق المقدمــات الدوغمائيــة المسـيّجة للفكــر الدينــي في ثقافتنــا.  إلــى جانــب قــوة في النظــر مســتوعبة لــروح الإســام ومقاصــده الكليــة، فضــا عــن الرهــان علــى فصــل الديــن عــن الدولــة تعزيــزا لتحديــث المجــال العــام إعــاء لقيــم ومبــادئ التنويــر، والعقانيــة، واســتيعابا لمكاســب الأزمنــة الحديثة.3

 

يتعيــن التنويــه، هاهنــا، أن كمــال عبــد اللطيــف ينظــر إلــى موضــوع العلمانيــة كشــكل مــن أشــكال عقلنــة وضبــط العاقــة بيــن السياســة والديــن بعيــدا عــن أي منطــق للإقصـاء، يقـول: «لا نتصـور اليـوم أن بإمـكان أي فـرد أن يشـكك في أدوار الديـن في حيـاة البشـر، فبعـد كل أشـكال النقـد الفلسـفي  التـي وجهـت للظاهـرة الدينية وظاهـرة المقدس في المجتمــع، فــإن اســتمرار النــوازع الدينيــة في حيــاة الأفــراد والمجتمعــات تعــد أكــبر دليــل علــى حاجــة النــاس إلــى المقــدس، وإلــى الآفــاق التــي يرســمها في وجدانهــم وفي حياتهم.1»

كل مــا هنالــك أنــه يســتهجن تاعــب السياســة والسياســيين بالديــن، مؤكــدا أن الجميـع قـد اقتنـع بـأن «معـارك الأنـوار لـم تغيـب الحـس الدينـي والحساسـية الدينيـة مـن المجتمعـات الغربيـة»، ليسـلم، تبعـا لذلـك، أن «وظيفـة الديـن داخـل نسـيج المجتمـع لا يجـادل فيهـا أحـد. إن الأمـر موضـوع الجـدل هـو توظيـف الديـن في حقـل السياسـة، أي اسـتدعاء الشـواهد الدينيـة في رسـم الخطـط السياسـية «، وهـو الاسـتدعاء الـذي تترتـب عنـه، مـن وجهـة نظـره، «نتائـج تعيدنـا  إلـى عتبـة معرفيـة نظريـة جـرى تجاوزهـا، بحكـم ثـورات معرفيـة وسياسـية ودينيـة لا مفـر مـن التعلـم مـن دروسـها، للتمكـن مـن الحديـث بلغة ومنطق العصر.2»

وفي هــذا الســياق يســتخلص أن الجــدل حــول موضــوع ومفهــوم العلمانيــة في الفكــر السياســي  العربــي يقتضــي الإعــان أننــا نتحــدث في المجــال السياســي، وأن هــذا المجـال يعـد مجـالا للصـراع التاريخـي وليـس مجـالا للصـراع العقائـدي، ولذلـك نجـده يدعونـا إلـى النظـر إليهـا بصفتهـا  سـيرورة اجتماعيـة.3 مشـددا علـى أن مفهـوم العلمانيـة يعــد مفهومــا مفتوحــا لــه أبعــاد نظريــة وتطبيقيــة إجرائيــة، وعلــى أن كل محاولــة للــزج بالديـن والعقائـد الدينيـة والسـعي إلـى توظيفهـا  بهـدف تحصيـل مكاسـب ومغانـم دنيويـة تبتعد عن روح المفهوم وبعده الوظيفي.4

 

إننــا هنــا بصــدد فهــم للعلمانيــة باعتبارهــا نظريــة إجرائيــة لحــل مشــكل تاريخــي وسياســي موضوعــي يتمثــل في فــض الاشــتباك بيــن السياســة والديــن احترامــا لمنطــق ووظائـف وجوهـر ومقاصـد كل منهمـا منعـا لهيمنـة وتوظيـف أي منهمـا للآخـر. مـع مـا ينتـج عـن ذلـك مـن اضطـراب واحـتراب  تفجـره أنظمـة تسـلطية سـواء أكانـت ثيوقراطيـة أو أوتوقراطيـة، وذلـك خافـا للتصـورات العقائديـة للعلمانيـة كمـا نجدهـا لـدى كل مـن طــه عبــد الرحمــان وعــادل ظاهــر، علــى ســبيل المثــال، مــع الفــارق  الكبيــر بينهمــا علــى مستوى المرجعيات والمنطلقات النظرية والمنهجية.1

ومـع مشـروعية دعـوة الأسـتاذ كمـال عبـد اللطيـف للإفـادة مـن التجربـة التاريخيـة الأوروبيـة، في هـذا المجـال، إلا أن ذلـك يتعيـن أن ينطلـق مـن الوعـي باختـاف جوهـري فيمـا يتصـل بضبـط وعقلنـة العاقـة بيـن السياسـة والديـن بيـن التجربتيـن الحضاريتيـن؛ ففــي الســياق التاريخــي والحضــاري الأوروبــي تمثلــت الإشــكالية في تحريــر السياســة والمجـال العـام مـن هيمنـة الكنيسـة، بينمـا تركـز الرهـان في السـياق العربـي الإسـامي في تحرير الدين من السياسة.

لا يمــل كمــال عبــد اللطيــف مــن التأكيــد، في أكثــر مــن ســياق، بــأن الإصــاح الدينـي أمسـى يمثـل «المدخـل المائـم إلـى الانخـراط في طريـق طويلـة وشـاقة، طريـق أجلــت باســتمرار تحــت ضغــط شــروط ومابســات سياســية وتاريخيــة عــدة، وآن أوان إطــاق أوراشــها الفكريــة في مجتمعاتنــا، بــا تــردد ولا تراجــع»..، مــبرزاً كيــف أن مســتلزمات النجاعــة التاريخيــة وكســب الرهــان علــى مســتوى هــذه الجبهــة يقتضــي تحقــق أمريــن أساســيين؛ أولهمــا يكمــن في «تمثــل دروس التاريــخ في هــذا المجــال واســتيعابها، وهــي دروس تفيدنــا في بنــاء طريــق تخصنــا في مواجهــة أســئلة الإصــاح الدينــي، وذلــك في ضــوء معطيــات تاريخنــا المحلــي والخــاص وســياقاته، وتاريــخ حضـور الإسـام في حياتنـا وداخـل مجتمعاتنـا»،  وثانيها يتصل بـ»اسـتيعاب المسـتجدات والمكاســب الفكريــة والتاريخيــة الكثيــرة التــي تنتمــي  إلــى دوائــر الفكــر المعاصــر»، مســتخلصا أن في هــذه المكاســب مــا مــن شــأنه أن يســعفنا في ابتــكار الآليــات المائمــة لمواجهة خياراتنا في موضوع تاريخي معقد.2

 

لكمـال عبـد اللطيـف نـزوع ناقـد؛ نقـده يطـال مختلـف قـوى الإصـاح في السـلطة والمعارضــة، مثلمــا  يطــال مختلــف التيــارات المعرفيــة والإيديولوجيــة وفــق مــا يقتضيــه ســياق النظــر؛ فمثلمــا ينتقــد التيــارات الإســامية المتشــددة ذات التصــورات النكوصيــة المنغلقــة، نجــده ينتقــد تيــار الإصاحيــة  الإســامية الــذي لــم يتجــاوز منطــق التوفيــق لذلــك ظلــت، مــن وجهــة نظــره، إصاحيــة تقليديــة مقلــدة رغــم دعاواهــا التجديديــة، والتيــار  النهضــوي  التغريبــي  الــذي  اكتفــى  بالدفــاع  عــن قيــم الحداثــة الغربيــة واستنســاخ تجاربهــا دونمــا فحــص ولا نقــد ولا مراجعــة ولا مســاءلة تاريخيــة لمرتكزاتهــا  المعرفيــة والسياسية والأخاقية.1

كمــا انتقــد التيــارات القوميــة؛ بحيــث لــم يــتردد إزاء واقــع الانفجــارات الإثنيــة والعرقيــة والطائفيــة والمذهبيــة المهــددة لــكل التوازنــات الاجتماعيــة، والمبــددة لــكل الجهـود التنمويـة،  مـن تحميـل المسـؤولية إلـى فشـل الأنظمـة القوميـة في تحقيـق الحداثة ومـا تسـتوجبه مـن تعزيـز وتمكيـن لقيـم ونظـم المواطنـة وحكـم المؤسسـات والقانـون الكافلــة لاندمــاج والتماســك الاجتماعــي والكرامــة الإنســانية.. مثلمــا ينتقــد تغييــب مختلــف التيــارات القوميــة لمســألة التعدديــة والتنــوع في مجتمعاتنــا. وفي هــذا المعنــى يقـول دونمـا مواربـة: «لـم يعـد بإمكاننـا أن نقبـل رسـم خطـط المشـروع القومـي خـارج أبجدية دروس الديمقراطية، كما بلورتها وتبلورها تجارب التاريخ.2»

في سـياق نقـده للمركزيـة الثقافيـة الغربيـة، مـن منظـور إنسـاني منفتـح غيـر متشـنج ولا منتــج لمركزيــة معكوســة، يراهــن الأســتاذ كمــال عبــد اللطيــف علــى «بنــاء كونيــة ثقافيــة مشــتركة»  تتجــاوز الآثــار المترتبــة عمــا اصطلــح عليــه بـ»التغريــب القســري» المكــرس لتقســيم العالــم إلــى مركــز قــوي تشــع منــه الحضــارة والمدنيــة، وأطــراف متخلفـة وتابعـة تحتـاج إلـى تأهيـل وتمديـن. مثلمـا تتجـاوز الرؤيـة الخطيـة للتاريـخ التـي تجعــل أصــل الحضــارة الإنســانية ومنتهاهــا غربيــا؛ بدايــة مــن الحضارتيــن اليونانيــة والرومانيــة قديمــا وصــولا إلــى الرأســمالية الصناعيــة المعاصــرة. مــع مــا يترتــب عــن ذلـك مـن الإقـرار بوجـود نمـوذج واحـد للمعرفـة والعقـل؛ في إنـكار متعمـد لإسـهام كل الحضـارات الإنسـانية العريقـة في العـراق ومصـر والصيـن والهنـد.. فضـا عـن الإمعـان في «تهميش الدور الحضاري الإسامي.3»

 

وبعـد أن يـبرز أن مواجهـة «التمركـز الثقـافي والحضـاري الغربـي» قـد باتـت تأخـذ طابـع «المواجهـة الحضاريـة» الرافضـة لـكل مـن التغريـب والتبعيـة، يؤكـد أن نقد النــزعة المركزيــة الغربيــة مثلمــا يتعيــن أن يعتمــد علــى اســتراتيجية للكشــف عــن «التركيــب المتناقــض للمشــروع الثقــافي الغربــي1»، لا ينبغــي أن ينتــج انكفــاء ذاتيــا أو تمركــزا معكوســا وإنمــا «نقــداً إيجابيــا للتمركــز الغربــي2» مــن شــأنه أن يســعفنا في اســتيعاب الآليــات المعرفيــة والتاريخيــة الموضوعيــة التــي ســاهمت في تشــكيل البنيــة التكوينيــة لهذا الفكر وبالتالي إمكانية الوقوف على محدوديته ونسبيته.

وبــدل التمركــز المعكــوس يدعــوا إلــى فلســفة وآليــة «الحــوار الثقــافي» باعتبــاره أداة مــن أدوات بنــاء المعرفــة الإنســانية المنفتحــة والمؤمنــة بالتعدديــة وشــرعية الاختــاف. وهــو الحــوار الثقــافي الــذي يتحــدد بالانفتــاح التاريخــي علــى الآخــر.. «الانفتــاح الــذي يســعف أولا بتملــك أصــول الحداثــة، واســتيعاب دروســها، ويســمح ثانيــا، بالمســاهمة في تشــكيل الكونيــة الثقافيــة.. ضمــن جدليــة الصــراع التاريخــي بمختلف أبعاده.3»

ثالثاً: منطلقات في الرؤية والمنهج

مــن مميــزات النظــر المنهجــي الــذي طبــع أعمــال الأســتاذ كمــال رفضــه وتبرمــه وحساســيته المفرطــة مــن كل نـــزوع للإطــاق والإطاقيــة؛ ســواء في مجــال المعرفــة بتصوراتهــا ومناهجهــا واجتهاداتهــا ورؤاهــا، أو في مجــال التاريــخ ووقائعــه وأحداثــه وبنياتــه ومحدداته..كمــا  في مجــالات الديــن والسياســة.. بحيــث لا تــوازي قــوة رفضــه السـالفة إلا قـوة إيمانـه بـأن الحداثـة «أفـق مفتـوح علـى جميـع ممكنـات الإبـداع الذاتـي في التاريـخ»، ولذلـك لا يتصـور «إمـكان تحقـق  الحداثـة بالتقليـد» مـا دام سـؤال الحداثـة في أصوله ومبادئه يعد ثورة على مختلف أشكال التقليد.4

 

لكـن مـع وجاهـة القـول باسـتحالة ترتـب الحداثـة ترتبـا كليا عـن التقليـد والتراث، إلا أن التجربـة الحداثيـة الغربيـة في عودتهـا المسـتمرة والموصولـة إلـى الأصـول اليونانيـة والرومانيــة والمســيحية  تؤكــد علــى أهميــة إســهام الجوانــب الإيجابيــة والعقانيــة مــن الخـبرة التراثيــة في تعزيــز وإســناد المشــروع الحداثــي، لدرجــة الحديــث عــن الأصــول الدينيــة للحداثــة والقــول بــأن «خطــاب العلمنــة لــم يقــم ســوى بنقــل صفــات الله إلــى الإنسـان بوصفـه قـادرا علـى الفعـل المسـتقل عـن أي نظـام موضـوع منـذ الأزل.1» وهـو مــا يشــكل خاصــة محوريــة مــن خاصــات المشــروع الفكــري للمرحــوم محمــد عابــد الجابــري في بحثــه عــن ســند تراثــي لمنظومــة القيــم والمبــادئ والمؤسســات  الحديثــة.. وهو ما يبرر مشروعية التساؤل:

هـل يمكـن لجدليـات الحداثـة والتحديـث أن تنطلـق وتعتمـل وتتمخـض جدليـا مـن قلـب التقليـد وبنياتـه التاريخيـة القائمـة (وهـو مـا يعكسـه تاريخيـا النجـاح النسـبي في الانتقـال مـن النظـام السـلطاني التقليـدي إلـى النظـام الدسـتوري الحديـث علـى غـرار مـا هــو جــار في بلدنــا خاصــة  إذا مــا بلغــت ديناميــة هــذا التحــول التاريخــي إلــى مداهــا المأمــول) أم إنــه لا منــاص مــن المنابــذة والمفاصلــة بيــن البنيتيــن؟ رغــم أن البنيــات التراثيــة لا زالــت حاضــرة بدرجــات متفاوتــة في مختلــف مجتمعاتنــا العربيــة، وهــو الحضــور الــذي يؤكــده الأســتاذ كمــال عبــد اللطيــف ولا ينفيــه حينمــا يجــزم أننــا «لا نســتطيع القــول.. أننــا وجدنــا الوصفــة المناســبة  للتعامــل مــع ماضينــا، الماضــي الــذي  مازال يشكل في واقعنا مرجعا أساسيا، ضمن مرجعيات أخرى.2»..

ومـن مظاهـر رفضـه لـكل إطـاق وإطاقيـة في التاريـخ ولـكل وثوقيـة في المعرفـة انطاقــه  مــن: «إمكانيــة تأســيس المشــروع السياســي الديمقراطــي، باعتبــاره مشــروعا تاريخيــا قابــا للتطويــر والتجــاوز، اعتمــادا علــى مبــدأ تدبيــر التوافقــات السياســية التاريخية والعقانية التي تطابق إشكالاتنا السياسية التاريخية.3»

 

ومــن مظاهــر النظــر المنهجــي للأســتاذ كمــال تمييــزه وهــو يقــارب قضايــا الفكــر والواقـع العربييـن بيـن أزمـة الفكـر وأزمـة الواقـع دون إلغـاء أو مصـادرة للجدليـة القائمـة بينهمـا؛ حيـث نجـده يعالـج ويقـارب ويحلـل أزمـة الفكـر العربـي المعاصـر بالنظـر إلـى كونهــا مســألة موضوعيــة ترتبــط  بســياق تاريخــي وفكــري وإيديولوجــي مخصــوص. وتفسـير ذلـك أن الصـراع الإيديولوجـي عـادة مـا يعـبر عـن «الإرادات المحكومـة بصـراع المصالـح والمنافـع والاسـتراتيجيات في التاريـخ غيـر أن هـذا لا ينفـي الفـارق الموجود بين التفكير في أزمة الفكر والتفكير في أزمة الواقع التاريخي مستبطنة للأزمة الأولى.

وهـو النظـر المنهجـي الـذي يسـعف كمـال عبـد اللطيـف ويتيـح لـه وهـو يفكـر في أزمــة الفكــر العربــي  تشــخيص طبيعــة البنيــة النظريــة لهــذا الفكــر في محتواهــا الفلســفي، وفي آليـات ومناهـج بنائهـا للإشـكاليات والطروحـات والمفاهيـم. وغيـر بعيـد عـن هـذا المعنـى ينفـي إمكانيـة الادعـاء بإراديـة مطلقـة علـى مسـتوى تاريـخ الوعـي، بنهايـة قضيـة وميــاد أخــرى. وتفســير ذلــك أن: «جدليــة  الإشــكاليات في تحولهــا التاريخــي، في ضمورها أو في عودتها إلى الواجهة، تعد عملية تاريخية معقدة.1»

وتفعيـاً لهـذا المنحـى مـن النظـر المنهجـي يتصـدى الأسـتاذ كمـال لمـا اصطلـح عليــه بـ»زمــن المراجعــات الكــبرى» باعتبــاره زمنــا يرتبــط بعبــور أطــوار الانتقــال في التاريــخ، ذلــك أن هــذه الأطــوار تســتدعي القيــام بمراجعــات مهمــة في بــاب المقدمــات والخيـارات الناظمـة للعمـل  الثقـافي في مجتمعاتنا، بحيـث يرتبط مفهوم زمـن المراجعات في تصــوره بـ»أفقيــن محدديــن موصوليــن بحاضــر الفكــر العربــي ومســتقبله: أولهمــا؛ إتمــام معــارك الإصــاح النهضــوي، خصوصــا  منهــا معــارك الإصــاح الثقــافي وتطويــر الذهنيــات، وثانيهمــا؛ إعــادة تأســيس مرجعيــة الحداثــة السياســية  في الفكــر العربــي، مــن خال التفكير مجدداً في جدليات التقليد والحداثة في فكرنا.2»

اســتخلص كمــال عبــد اللطيــف مــن جمــاع قراءاتــه النقديــة التراكميــة والتركيبيــة لأهــم مشــاريع الفكــر العربــي المعاصــر، وأهــم أطروحاتــه الحداثيــة في الإصــاح والتجديــد والتقــدم والنهضــة، نمذجــة منهجيــة تتميــز بقــدر كبيــر مــن الإجرائيــة والاسـتيعاب، تسـتحضر اللحظـات المفصليـة لتطـور هـذا الفكـر وتعنـى برصـد جوانـب مــن مآزقــه. وذلــك  مــن خــال لحظــات ثــاث راصــدة لتجليــات ومظاهــر أزمــة الفكــر العربــي: لحظــة إدراك الفــارق،  ولحظــة المماثلــة ولحظــة وعــي الــذات. علمــا أن هــذه اللحظــات، يســتدرك الأســتاذ كمــال، لا تعكــس مســارا تطوريــا خطيــا، كمــا لا تمثــل خطاطـة ناجـزة ونهائيـة، وإنمـا هـي أداة منهجيـة  ترنـو إلـى تسـهيل الاقـتراب مـن مشـاريع الفكر العربي المعاصر من خال أهم طروحاته في الإصاح والنهضة والتحديث.

تتحــدد لحظـ ة إدراك الفـ ارق بفعــل الوعــي غيــر المســبوق بالهــوة الســحيقة التــي باتـت تفصـل المجتمعـات العربيـة عـن الغـرب بفعل الفـارق النوعـي على مسـتوى مصادر القــوة العلميــة والتقنيــة والاقتصاديــة  والثقافيــة.. وهــو الوعــي الــذي تشــكل في خضــم مــا اصطلح عليه في الأدبيات ذات الصلة بـ»صدمة الحداثة» أو «الصدمة الحضارية..»

أمــا لحظــة المماثلــة فتتحــدد بتبلــور الوعــي النهضــوي، بضــرورة الانخــراط في ديناميــات التاريــخ الكــوني، والحــرص علــى تمثــل منطقــه ســعيا لتملــك مصــادر قوتــه، بعــد التجــاوز الأولــي لمفعــول الصدمــة الحضاريــة. وهــي لحظــة تفتــح المجــال لوعــي الكونيــة المشــروطة بمحــددات الخصوصــي والتاريخــي، مثلمــا تفســح المجــال لتعزيــز عمليــات المثاقفــة والتعقــل والتأويــل، الأمــر الــذي يســمح  ببنــاء جدليــات في التواصــل والتاقح بدل التنافي والإقصاء المتبادل.1

كمـا تفسـح  هـذه اللحظـة المجـال لتفعيـل مبـدأ التأصيـل بحثـا عـن سـند لمنظومـة القيــم والمؤسســات والمبــادئ الحديثــة في المرجعيــة التراثيــة، أو العمــل علــى رفــع مــا يبـدوا مـن تناقـض ظاهـر بيـن المرجعيتيـن مـن خـال آليـات التأويـل. وهـو مـا يسـمح لنـا بالنظــر إلــى الفكــر السياســي العربــي  الإســامي الحديــث باعتبــاره حصيلــة لعمليــات التأصيـل والتأويـل التـي أجراهـا ويجريهـا «العقـل العربـي الإسـامي» بمختلـف تياراتـه سعيا للمواءمة والتفاعل بين المرجعيتين.

رغــم أن الأســتاذ كمــال يــبرز، مســتدركا، أن هــذه اللحظــات لا يربطهــا منطــق تطــوري تعاقبــي، إلا أنــه لا ينفــي وجــود شــيء مــن هــذا البعــد التطــوري بيــن مختلــف هـذه اللحظـات؛ حيـث  نجـده يسـتخلص، علـى سـبيل المثـال، أن: «الانتقـال مـن لحظـة إدراك الفــارق إلــى لحظــة المماثلــة يشــكل تحــولا نوعيــا في تصــورات فكرنــا المعاصــر ومشروعاته وتياراته.2»

 

في حيــن أن لحظــة وعــي الــذات ارتبطــت وتحــددت بوعــي الهزيمــة؛ الهزيمــة العربيــة في مواجهــة  إســرائيل ســنة 1967، مثلمــا ارتبطــت «بعجزنــا عــن إنجــاز مشــروع الإصــاح السياســي الديمقراطــي»؛ وهــو مــا يجــد تفســيره لــدى الأســتاذ كمــال في أن «حاجتنــا إلــى تجذيــر الوعــي النقــدي  بذاتنــا وبالعالــم أصبحــت أكثــر إلحاحــا»، كمــا أن السـياق المواكـب لهـذه اللحظـة قـد عـزز مـن حاجتنـا  إلـى التعلـم مـن مكاسـب العصـور الحديثــة وتحقيــق تواصــل إيجابــي معهــا. مثلمــا عــزز القطــع مــع آليــات التوفيــق والماضويــة وفتــح المجــال لتبرعــم إرهاصــات الإبــداع الفكــري  كمــا تجلــت في جهــد الفكر النهضوي العربي.1

وفي صلــة بهــذه اللحظــات يرصــد ثــاث خصائــص مركزيــة ولــدت مفارقــات ثــاث طبعــت الفكــر العربــي المعاصــر تــكاد تــوازي اللحظــات الثــاث المميــزة لأزمــة هــذا الفكــر؛ خاصيــة التركيــب المــزدوج في الخطــاب المنتــج لانتقائيــة، وخاصيــة التفـاوت وعـدم المطابقـة في موضـوع عاقـة الخطـاب بالتاريـخ، ثـم خاصيـة التوتـر التـي تســكن أســئلة فكرنــا المعاصــر وتنعكــس علــى خياراتــه الحديــة المتقاطعــة.2 علمــا أن هذه الخصائص  تستبطن عناصر فكرية وتاريخية وسياسية وسيكولوجية.

فخاصيــة مفارقــة الانتقــاء تعــد نتيجــة طبيعيــة للقصــور في تلقــي الفكــر العربــي لصدمـة الحداثـة. حيـث سـعى إلـى تجـاوز عجـزه بحثـا عـن البدائـل والحلـول الازمـة للمشــكات الطارئــة بمنطــق الانتقــاء المكــرس لنـــزعات التوفيــق الــذي غالبــا مــا يغــدو تلفيقـا ذاهـا عـن «الأصـول النظرية المؤسسـة»، وعـن «تناقض الأصـول والمرجعيات»، ونافيـا لــ التركيـب «المخصـب والمبـدع  للمرجعيتيـن» الحديثـة والتقليديـة، مـع مـا تولـد عن ذلك من خطابات فقيرة وسطحية من الوجهة النظرية.

والواقــع أن مفارقــة  الانتقائيــة لا تعـبر عــن صابــة مرجعيــات التقليــد كمــا ذهــب إلــى ذلــك الأســتاذ كمــال  فحســب3، بقــدر مــا تعــبر عــن هشاشــة الموقــف المعــرفي والنظــري المتفاعــل مــع صدمــة الحداثــة، وبالتالــي العجــز عــن إدراك الفــارق إدراكا تاريخيا وحضاريا مستوعبا.

 

أمــا مفارقــة عــدم المطابقــة فتتجلــى في أن ســيادة التيــارات الفكريــة التــي تغيــب قواعــد المعرفــة  المعاصــرة وآلياتهــا، بحكــم التأخــر التاريخــي العربــي.. عــززت هيمنــة الفكـر المعـادي للعقـل والعقانيـة، الأمـر الـذي ترتـب عنـه عزلـة وغربـة أغلـب تيـارات العقانيـة والتنويـر في فكرنـا المعاصـر.1» نظـرا لافتقارهـا للحامـل الاجتماعـي المتمثـل والمؤمــن والمدافــع عــن أفكارهــا كمــا دلــل عــن ذلــك مبكــرا أســتاذ الأجيــال علــي أومليل.2

غيــر أن منســوب المفارقــة ســرعان مــا يتراجــع بفعــل «المســاعي الهادفــة إلــى إعــادة بنــاء العقانيــات في فكرنــا في ضــوء الخصوصيــات التاريخيــة التــي تســمح بالاقـتراب بصـورة أفضـل مـن أسـئلة التاريـخ الحـي، وهـو أمـر يـؤدي، مـن وجهـة نظـر الأســتاذ كمــال، إلــى تركيــب معطيــات نظريــة أكثــر تطابقــا مــع نظــام المعرفــة وأنظمــة التاريخ والمجتمع.3»

تــكاد مفارقــة التوتــر تمثــل المقابــل النفســي للصدمــة الناتجــة عــن إدراك الفــارق أكثــر مــن تعبيرهــا عــن لحظــة التماثــل والمقايســة؛ فهــي تعــبر عــن صعوبــة المســايرة والتملــك لعناصــر  القــوة والمصيــر، مثلمــا تعــبر عــن أزمــة الوعــي بـ»المــآل التاريخــي لـذات تقـف علـى أبـواب التاشـي» كمـا عـبر عـن ذلـك الأسـتاذ كمـال بعمـق هيجيلـي يسـتحث علـى التأمـل. الأمـر الـذي فـرض عليهـا بمنطـق الضـرورة التاريخيـة والوجودية الســعي إلــى تملــك مقومــات قــوة الآخر/الغــرب.  مــع مــا يســتلزمه ذلــك مــن «اشــتغال رصين على الذات في أبعادها ومكوناتها المختلفة

بينمــا حــاول الجهــد الفكــري الإصاحــي ذو المنحــى العقــاني وعــي التوتــر مــن خـال اجتهـاده في صياغـة وتركيـب مـا مـن شـأنه أن يسـعف لبلـوغ عتبـة التقـدم تجـاوزا لأزمـة إدراك الفـارق، فـإن لحظـة وعـي التماثـل عملـت جاهـدة علـى تقليـص حـدة التوتـر من خال سعيها لاجتراح  برامج ومشاريع من شأنها أن تساعدها لبلوغ مرمى النهضة.

 

وفي ســياق وقــوف الأســتاذ كمــال علــى مظاهــر أزمــة الثقافــة العربيــة ومفارقاتهــا، يمعــن التفكيــر  في إمكانيــات تجــاوز بعــض أعطــاب الفكــر والاجتمــاع العربييــن. كمــا ينظــر في إمكانيــة الحــد مــن منســوب الأزمــة في فكرنــا المعاصــر، وكــذا منســوب التوتــر الحاصــل في لحظــة الوعــي بالــذات خاصــة لــدى الجيــل الثالــث المعنــي بنقــد الـتراث، ومـا يتصـل بذلـك مـن نقـد لآليـات التفكيـر الموروثـة. ولتجـاوز واقـع التأخـر التاريخـي ينبــه الأســتاذ كمــال إلــى القضايــا ذات الأولويــة والظواهــر التــي يتعيــن مواصلــة الجهــد للحــد مــن آثارهــا الســلبية في فكرنــا؛ تجــاوز الخطابــات المخاتلــة والتحلــي بالجــرأة، وكـذا تجـاوز المقاربـات التجزيئيـة، والتركيـز علـى الإصاحيـن الثقـافي والدينـي. كمـا لا يتصـور إمكانيـة توسـيع دوائـر الوعـي الحداثـي في فضائنـا السياسـي علـى صعيـد الفكـر  والممارســة معــا، إلا بتكثيــف العمــل القــادر علــى «تفتيــت الإســمنت الاحــم للفكــر الوثوقي في ثقافتنا، والمنطق النصي في وعينا الديني.1»

وممــا يعـبر عــن مــدى التــزام كمــال عبــد اللطيــف، وعمــق انهمامــه بتجــاوز واقــع التأخـر التاريخـي؛ كثافـة وحـرارة اسـتعماله لمفاهيـم مـن قبيـل؛ «الجبهـة»، و»المعركـة»، و»الثـورة» «التحريـر يقـول: «نحـن بصـدد معركـة مفتوحـة؛ معركـة الإصـاح الثقـافي، تســتوجب مزيــدا مــن تقويــة مرتكــزات  الفكــر التاريخــي والتاريــخ المقــارن»، مثلمــا تقتضـي «إنجـاز ثـورة ثقافيـة في فكرنـا مـن خـال  العمـل علـى اسـتيعاب الثـورات العلمية والمعرفيــة2»، وتبنــي مشــروع للترجمــة، فضــا عــن إصــاح منظومــة التربيــة والتعليــم والنهوض بالبحث العلمي.

وهــو الأمــر الــذي ســوف يســهم في «عمليــة تحريــر الأذهــان» لتحقيــق التواصــل التاريخـي والحضـاري مـع ذواتنـا ومـع العالـم. وهاهنـا نقـف علـى ملمـح مهـم غالبـا مـا يتـم الذهـول عنـه، يتعلـق الأمـر  بـ»معرفـة الـذات» كشـرط واقـف للفعـل في التاريـخ. ذلك أن التواصـل مـع الـذات يقتضـي، مـن وجهـة نظـره، الوعـي التاريخـي للتحـول الحاصـل في ذواتنـا بعيـدا عـن كل مظاهـر الاغـتراب والاسـتاب؛  ذلـك «أننـا مـا زلنـا، في كثيـر مـن مظاهـر وعينـا، نتحـدث عـن ذات لـم تعـد ذاتنـا»؟! بفعـل تثبيتنـا لصـور ذهنيـة متخيلـة لا صلــة لهــا بحقيقتنــا ولا بواقعنــا، وبفعــل رفضنــا الوجــداني لكثيــر مــن أضــرب  التحــول 

الموضوعيــة الحاصلــة والمعتملــة فينــا، والحاصــل أن مــا اعــترى ذاتنــا وأصابهــا مــن تحـول تاريخـي أعظـم ممـا نتصـور، وهـو مـا يسـتدعي ضـرورة تصالحنـا مـع ذواتنـا عـبر مقاومتنا لمختلف مظاهر تخلفنا التاريخي ووعينا غير المطابق.1

وهــو مــا جعلــه ينتقــل مــن مســتوى تشــخيص أزمــة الفكــر العربـي المعاصــر إلــى مسـتوى محاولـة تجاوزهـا ورفـع مفارقاتهـا، داعيـا، علـى وجـه الاسـتعجال، إلـى العمـل علـى تأسـيس جبهـة للفكـر الحداثـي مـن شـأنها أن تحـد مـن منحـدر التراجـع والانكفـاء، ومواجهــة المفعــول النكوصــي للفكــر النصــي المحافــظ، ســعياً لتحقيــق القطائــع المطلوبــة دونمــا تــردد ولا مخاتلــة. وفي ســياق تناولــه لمظاهــر أزمــة الفكــر العربــي المعاصــر ومفارقاتــه يخلــص إلــى أنهــا تمثــل حصيلــة ردود الأفعــال المتواصلــة علــى عمليـات المثاقفـة الحاصلـة في الثقافـة العربيـة منـذ قرنيـن دونمـا تفاعـل خـاق؛ تأصيـا وتجديدا وإبداعا.2

رابعاً: من النظام السلطاني إلى النظام الحديث.

يعــود الاهتمــام العلمــي التأصيلــي للأســتاذ كمــال بالمســألة السياســية بعيــدا في التراثيـن  اليونـاني والساسـاني3 مـن خـال محاولتـه اسـتنباط البنيـة الفكريـة العميقـة لنظـام الآداب الســلطانية في الــتراث العربــي الإســامي، حيــث ســعى، في بــادئ الأمــر، إلــى «الإحاطـة بمجـال  السياسـي في الإسـام مـن خـال مختلـف تجلياتـه وتمظهراتـه النظريـة المتنوعـة»، غيـر أن انخراطـه  الفعلـي في إنجـاز بحثـه للدكتـوراه جعلـه يقـف علـى مـدى الصعوبــات التــي تكتنــف المجــال، وهــو مــا اقتضــى منــه التراجــع عــن مشــروع قــراءة المتـن السياسـي في الإسـام في كليتـه، نحـو برنامـج في البحـث، يركـز على قـراءة «الآداب السـلطانية»، علـى أمـل أن تشـكل خطـوة أولـى في مخطـط أكـبر في البحـث يـروم تحقيـق عمليــة مســح شــاملة وعامــة لمختلــف جوانــب القــول السياســي في الإســام؛ بحيــث يتخصــص في الكتابــة السياســية في الإســام.4 وهــو مــا عــدل عنــه لمصلحــة مســارات أخرى متنوعة وغنية في النظر الفكري والفلسفي.

 

لقـد أسـعفته  مراجعتـه لمتـون النصـوص التـي تيسـر لـه مراجعتهـا، بصياغـة تبويب رباعــي يــكاد يغطــي مختلــف  النصــوص المحــددة لعينــة بحثــه، مــع توجــه يـبرز هيمنــة محــور مــن محــاور التبويــب علــى باقــي المحــاور، ومــع تداخــل لا يمنــع مــن غلبــة مرجعيــة بعينهــا. وقــد مكنتــه هــذه الصياغــة مــن إدراج النصــوص في الخانــات التــي حددهــا، مــع اعترافــه بنســبية مقاربتــه وبوظيفتهــا الإجرائيــة المحــددة في التقريــب بيــن النصــوص، بهــدف ضبــط حدودهــا تســهيا لعمليــة فحصهــا، وإدراك محتوياتهــا ومضامينهـا. وقـد تمثلـت المحـاور الكـبرى التـي بـوب ضمنهـا مـواد الخطـاب السياسـي السـلطاني في محـور الفـرد، النفـس، وهيمنـة النمـوذج  الأخاقـي، ومحـور أدب الملـوك، الطقــوس والنصائــح، ومحــور التدبيــر السياســي، والمهــام المنوطــة بالوظيفــة الملكيــة، ومحـور الأمثـال والمواعـظ، أو مخـزون الذاكـرة الإسـامية في مجـال الثقافـة السياسـية المرتبطة بالفضاء السلطاني.1

لقــد جهــد مــن وراء ذلــك إلـى رســم المامــح المعبّــرة عــن فلســفة هــذه الآداب، ويقصـد بذلـك طبيعـة المُلـك وصـورة المَلِـك. بحيـث بدا لـه أن أسـئلة التعليـل التاريخي أو التصــوري منعدمــة كمــا يرصــد ذلــك ابــن خلــدون؛ فـ»الخطــاب ملــيء بالمماثــات ذات الطابــع التصويــري، المماثــات التــي تحتفــل بالأبهــة الملكيــة وترســم لهــا قواعــد المجـد.2» وبمقتضـى هـذه المماثلـة التـي «تـروم تملـك القدسـية والقداسـة»، فـإن «القوة الإلهيــة تتركّــز في شــخص الملــك، كمــا أن تنظيــم العالــم وضبــط دورة فصولــه  يظهــران مندمجيـن في إطـار النشـاط الملكـي؛ إنهمـا مظهـران مـن مظاهـر وظيفـة السـيادة الملكيـة، (بحيث تتراءئ) الطبيعة والمجتمع متداخان.3»

يتحــدد فضــاء الممارســة السياســية الســلطانية، كمــا رســم معالمــه كمــال عبــد اللطيــف،  مــن السياســة الملكيــة وسياســة العامــة والخاصــة، فضــا عــن تدبيــر شــؤون الجنـد والمـال، مثلمـا يتحـدد الأمـر السـلطاني بكونـه الفعـل النافـذ في شـؤون الجماعـة. وبنـاء علـى ذلـك يـبرز كيـف أن آليـة واحـدة تتحكم في مختلـف الحلقـات السـالفة الذكر؛ يتعلـق الأمـر بترويـض الـذات علـى احتـال مكانـة فـوق المراتـب المجتمعيـة، وترويـض 

الخاصــة علــى الطاعــة، وترهيــب العامــة، ومــلء الخزينــة، وإعــداد الجيــش لحمايــة الحكم السلطاني، بالوفرة في المال، وبالوفرة في الجند والعتاد.1

لقــد اعتمــد مقاربــة منهجيــة تتوخــى فهــم وتعييــن فضــاء النصــوص الســلطانية، وذلــك بصياغــة مضمراتهــا العامــة (المقدمــات الكـبرى الناظمــة للخطــاب) ومامحهــا الأساســية (تشــريح تجليــات الســلطة)، ســعياً للإحاطــة بنظــام هــذه الآداب، والوقــوف بعــد ذلــك علــى محدوديتهــا  التاريخيــة والنظريــة.2 وعليــه، فقــد انصــب بحثــه علــى القضايـا الكـبرى التـي اعتقـد بمركزتيهـا  في متـون الآداب، أي مبادئ السياسـة السـلطانية؛ مؤسســة الســلطة وصــورة الملــك، ثــم المماثلــة بيــن  الإلــه والملــك، وموضــوع الســلطة القهريــة الاســتبدادية. إلــى جانــب موضــوع الخطــط الســلطانية، والتدبيــر السياســي العملي.3

فبعــد أن يـبرز كيــف أن «كل حديــث عــن الســلطة يتضمــن بالضــرورة، بشــكل أو بآخــر، موقفــاً مــن الطبيعــة والإنســان والتاريــخ»، يؤكــد أن «هــذه المواقــف لا تطفــو حتمـاً فـوق سـطح الخطـاب،  بقـدر مـا تشـكل مجـراه، وتحـدد سـقفه النظـري، وتنعكـس علـى تجلياتـه ومظاهـره موضحـا أن عملـه يتجـه إلـى بنـاء المبـادئ العامـة، وتحويلهـا مـن مسـتوى العـرض السـطحي إلـى مسـتوى المبـدأ النظـري المتماسـك، سـعيا للكشـف عـن الأدوار الأساسـية التـي لعبتهـا هـذه المبـادئ في تأسـيس خطـاب الآداب السـلطانية.4 ورغــم تســليمه بعــدم إمــكان إدراج نمــط الكتابــة السياســية الســلطانية في بــاب الكتابــات التنظيريــة، والفلســفة السياســية، إلا أنــه ظــل يبحــث عــن هــذه النظريــة وهــذه الفلســفة؛ يقينــا منــه أن متــون  هــذه الآداب تســتبطن» فلســفة ضمنيــة، ورؤيــة نظريــة عامــة وجامعــة لتقنياتهـا في التدبيـر والممارسـة السياسـية، ومؤكـداً أن التدبيـر يُعـدّ القاعـدة المركزيـة في المعرفــة السياســية الســلطانية. ذلــك أن: «العلــم في نظــر أصحــاب هــذه الآداب، وكمــا حـدده ابـن المقفـع، لا يكتمـل إلا بالعمـل، وإلا فإنـه يصبـح أشـبه بشـجرة بـدون ظـل ولا ثمــار فالتدبيــر، كمــا أوضــح ذلــك الأســتاذ كمــال: «صفــة مازمــة للنــص الســلطاني؛ 

فهــو علّــة منشــئة، وهــو القاعــدة الموجِّهــة لترتيــب أبوابــه وفصولــه. ثــم هــو بعــد ذلــك، أبــواب وفصــول تخــوض في أدق تفاصيــل التدبيــر بهــدف تلقيــن أســاليب التمــرّس بالممارسة السياسية.1» وذلك في مختلف أبعاده الاقتصادية والسياسية والعسكرية.

فالتدبيـر  في الآداب هـو النظـام، نظـام ضبـط الممارسـة السياسـية العمليـة، انطاقاً مــن أصــول وقواعــد محــددة. وهــذا يعنــي أن التدبيــر وســيلة مــن وســائل رفــع الفوضــى والارتجــال، أي كل مــا يفســد الممارســة  السياســية. ولهــذا، فــإن مبــدأ التدبيــر يتضمــن مراعــاة الانسـجام، والتاحـم، كمــا يتضمـن مبــدأ التنظيـم.2 فهـو أمـر يخـصّ المؤسسـة الملكيــة، باعتبارهــا مصــدر الفعــل والتدبيــر، في فضــاء المجــال السياســي، كمــا يخـصّ الهيئــة السياســية المعنيــة بالتدبيــر الســلطاني (المجتمــع والاقتصــاد والجيــش والثقافــة والتربية السياسية.3)

أمــا مــا اصطلــح عليــه بــ «الشــأن التدبيــري» فتتمثــل وظيفتــه في صياغــة «الرؤيــة السياســية»  المتضمنــة في الآداب والكشــف عــن أبعادهــا ومراميهــا، مثلمــا يكشــف في الوقــت عينــه المرامــي الفعليــة المتوخــاة منهــا. ذلــك أن الغايــة مــن التدبيــر تتحــدد في المحافظــة علــى الســلطة أولًا، أي الاســتمرار في الحكــم، ثــم ســيادة نــوع مــن الســام والســلم الاجتماعــي، وذلــك بضبــط آليــات التغيــر الاجتماعــي. كمــا أن التدبيــر يتوخــى الازدهــار الاقتصــادي مــن أجــل ســعادة الرعيــة وازدهــار المجتمــع.4 في حيــن يمثــل التدبيــر السياســي البعــد العملــي الكاشــف لطبيعــة «الرؤيــة السياســية»، التــي ترســم مامحهــا الآداب الســلطانية باعتبارهــا «نصوصــا في الثقافــة السياســية»، لدرجــة القــول بـ»وجود تطابق بين مفهوم التدبير ومفهوم السياسة في الخطاب السلطاني.5»

تتحــول السياســة في الخطــط الســلطانية، إذن، إلــى فضــاء للفعــل التدبيــري، الهـادف إلـى بلـوغ مرامـي بعينهـا. وهـي لا تحـدد كتعريفـات نظريـة، أو مفاهيـم مجـردة، علــى شــاكلة المعطيــات  النظريــة التــي بلورتهــا الفلســفة اليونانيـة وخاصــة مــع أرســطو، 

بـل إنهـا تتجـه في نصـوص الآداب والسـلطانية لتشـمل مجـالات واسـعة، وتوظـف مبـادئ معرفيــة وأخاقيــة  لا حصــر لهــا. تســتوعبها ضمــن متطلبــات منطــق الإنجــاز والنجاعــة والفعــل التاريخــي، أكثــر ممــا تســتدعيها وتســتعيدها في أفــق مــن التنظيــر الخالــص أو الفكــر النســقي المرتــب والمنظــم.1 فــالآداب الســلطانية ترســم معالــم سياســية بعينهــا، سياســة الدولــة الســلطانية، بمختلــف مــا بلورتــه في الواقــع السياســي للدولــة عـبر تاريــخ الإسـام مـن تصـورات ومواقـف وأسـاليب في العمـل السياسـي؛  إنهـا تنشـأ لتحـدد رؤيـة معيّنــة للعمــل السياســي، مرتبطــة بالشــروط التاريخيــة والنظريــة العامــة  التــي أطَّــرت مجراها في الواقع، وأطَّرت نصوصها في النظر السياسي التاريخي.2

مــن المهــم التنبيــه ،هاهنــا، أن كمــال عبــد اللطيــف حينمــا قــرر اقتحــام مجاهــل الــتراث السياســي  الســلطاني ســعيا لدراســة محدداتــه، والامســاك بالمفاصــل المشــكلة لبنيتــه العميقــة، ســعيا لاســتنباط فلســفته الصريحــة والضمنيــة، والوقــوف علــى أهــم وظائفـه وأهدافـه، لـم يكـن بصـدد دراسـة ظاهـرة تراثيـة جامـدة أصابهـا المـوات؛ بحيـث لـم يعـد لهـا مـن صــدى ولا تأثيــر في واقعنــا الراهــن، وإنمـا علـى النقيـض مـن ذلـك لـم يقـرر هـذا الاقتحـام الجسـور إلا ليقينـه أن: «في أغلـب الـدول العربيـة الإسـامية لا تـزال عاقـة الحاكميـن بالمحكوميـن تتـم بتوسـط لغـة الآداب السـلطانية، ومـا زالـت السـلطة تنظـر إلـى نفسـها مـن الزاويـة نفسـها، زاويـة نظـر الحاكـم السـلطان، الآمـر الناهـي، الآمـر الــذي لا راد لأمــره، ولا ضابــط قانونيــا ومؤسســيا لقــراره وحكمــه  وســطوته.3» وهــو اليقيــن الــذي عــزز وعيــه باســتحالة كســر مــا عـبر عنــه بــ «النـــزعات التلفيقــة في المجــال السياســي النظــري، وإنجــاز المشــروع السياســي المبــدع، نظــرا وممارســة، إلا بتشــريح مختلــف أنمــاط تمظهــر السياســي في عصورنــا الوســطى واســتمراره المقنــع والملــون والمكشـوف في راهننـا، أي تفكيكـه  وضبـط آليـات عملـه بمبضـع النقـد التاريخـي الرامـي إلــى محاصرتــه، ضمــن تاريخيتــه، والحــد مــن أشــكال اســتمراره خــارج إطــار التاريــخ الذي تولد في صلبه.4»

 

فمـع أن الدولـة السـلطانية أثنـاء عمليـة حوارهـا القسـري مـع الغـرب قـد اتخـذت بعـض مظاهـر الدولـة الحديثـة، مـن خـال سـعيها إلـى إصـاح الجيـش، وإصـاح نظـام التعليــم، والنظــام الاقتصــادي والمالــي والإداري، إلا أنهــا ظلــت في جوهرهــا وماهيتهــا السياسـية، يؤكـد كمـال عبـد اللطيـف، دولـة سـلطانة.1 الأمـر الـذي بـات يفـرض مواجهـة الــتراث السياســي الســلطاني مواجهــة  نقديــة؛ ســواء في مظهــره التقليــدي المنافــح عــن الاســتبداد والطغيــان، أو في مظاهــره الجديــدة التــي  تتزيــن بأزيــاء متنوعــة وتتخــذ أقنعــة متعـددة، في الخطـاب السياسـي الإسـامي المعاصـر. إن نقـد الخطـاب السـلطاني ينـدرج ضمــن مشــروع نقــد المؤسســة الســلطانية وتجلياتهــا. فالخطــاب هنــا مظهــر ونتيجــة، وهـو، في الآن نفسـه، أداة للدفـاع عـن شـرعية قادمـة مـن التاريـخ في زمـن لـم يعـد قـادراً على حماية فلسفات تسوّغ العبودية، وتحتقر آدمية الإنسان.2

وعليــه، لا يــرى  الأســتاذ كمــال، مــن إمكانيــة لتطويــر» تراثنــا إلا بتركيبنــا لـتراث جديـد نحقـق معـه درجـات الوصـل نفسـها التـي حققناهـا مـع الأول». رافضـا أن «تتحول لحظــة تراثيــة بعينهــا إلــى لحظــة انغــاق مانعــة لإمكانيــات التجديــد والتجــاوز التــي تســمح للعقــل وللإنســان بتجــاوز ذاتــه في اتجــاه إبــداع مــا يمكــن مــن مزيــد مــن تحقيــق الـذات وتطويرهـا.3» وذلـك مـن خـال؛ «الاسـتيعاب التاريخـي  والنقـدي»، ومـن خـال «جدليــة القطــع وإعــادة التركيــب التاريخيــة والمفتوحــة «للــتراث ومــا يتيحــه مــن بنــاء بدائل متعددة.4»

وفي سـعيه لذلـك يعتمـد في قراءتـه للـتراث مـا اصطلـح عليه بــ «القـراءة الداخلية5» ويقصــد بهــا؛ «القــراءة التــي تعنــى بالنــص كنــص، أي بالنــص ضمــن ســلم الــتراث الإسـامي، بمختلـف مظاهـره وتجلياتـه، ثـم النـص في عاقتـه بتاريخيتـه الحيـة بمختلف 

مابسـاتها الفرعيـة والجزئيـة، دونمـا قفـز علـى الأزمنـة أو تعـال علـى شـروط المجتمـع والتاريــخ في جدليتهمــا  الحيــة، ودون إســقاط لبعــض المفاهيــم غيــر المائمــة وبصــورة قســرية.1» ونظــرا لوعيــه بمــا قــد يثيــره توظيفــه لمعجــم مفاهيمــي حديــث لمقاربــة نظــام سـلطاني مـا قبـل حديـث مـن قبيـل؛ المؤسسـة، والمجال  السياسـي، والشـرعية السياسـية، والثقافــة السياســية، والرؤيــة السياســية، والسياســة الاســتراتيجية،  والإيدلوجيــا، فقــد سارع إلى نفي دلالتها الحديثة والمعاصرة وهو ما يجعل الالتباس قائما.2

رغـم أن نصـوص الآداب السـلطانية تشـير إلـى ميـزان العـدل، وتسـتدعي شـواهد نصّيـة تدعـو إلـى الرحمـة والمشـورة، إلا أن كمـال عبـد اللطيـف يعتـبر أن هـذه الشـواهد، لا تصمــد أمــام وجهــة النـصّ العامــة وبنيتــه العميقــة التــي لا تتوقــف عــن تبريــر الظلــم والجــور.3 منتصــرا بذلــك لتأويــل لا يــرى في أصــول الأحــكام الســلطانية إلا أصــولا لاسـتبداد؛ يقـول: «فـالآداب السـلطانية  مرايـا تعكـس أوجـه التاريـخ السياسـي الفعلـي، تاريــخ الملــوك والأمــراء الذيــن تعاقبــوا علــى حكــم  الجماعــة الإســامية تاريــخ الدولــة السـلطانية التـي توالـت علـى حكـم البلـدان الإسـامية في مختلـف  المناطق التي أسـلمت بالفتـوح والغـزوات، وهـي نصـوص تبحـث للسياسـة الفعليـة المتحققـة في التاريـخ عـن سـند وحجـة، تحولهـا إلـى أمـر واقـع، مـبرر ومقبـول، ومسـتند إلى حكمـة التاريـخ وعبرة الزمـان، كمـا بلورتهـا الدولـة القهريـة أينمـا وجـدت في التاريـخ»، بحيـث «لا يحـق لأحـد الخــروج علــى الســلطة مهمــا بغــت. فطينــة الســلطة واحــدة، وهــي الاســتئتار والتملــك والأبهة.4»

كمــا اســتبعد في الســياق نفســه، تأويــا آخــر صــادر عــن مرجعيــة عليمــة بالــتراث عمومـا والـتراث السياسـي السـلطاني خصوصـا؛ يتعلـق الأمـر برضوان السـيد الـذي خلص إلـى القـول: «لقـد كثـرت في الأعـوام العشـرين الأخيـرة التحليـات التـي تعتـبر كتابـات المـاوردي الأخاقيـة والسياسـية داخلـة في تسـويغ الاسـتبداد. ومـا كنـتُ أنظـر إليهـا مـن هـذه الجهـة في دراسـاتي، بـل كنـت أقـرأُ اتسّـاقها مـع الـرؤى الفقهيـة، والـرؤى السـنية في 

وحـدة الأمـة والـدار والسـلطة، والحـذر مـن الفتنـة وتفـرق الكلمـة. كمـا نظـرتُ إليهـا مـن حيـث الجنـس أو النـوع الأدبـي وطرائـق الكتابـة فيـه. وبذلـك فقـد كنـتُ شـكانياً بحـدود معينة، وما رأيتُ إمكان اللجوء لتأويل أيديولوجي لنصوص الماوردي أو غيره.1»

وبينمــا نجــد الأســتاذ كمــال يجــزم أن «مجــال السياســي في الآداب الســلطانية لا عاقــة لــه بالنظــر الفقهــي2»، فــإن رضــوان الســيد يذهــب إلــى خــاف ذلــك معتـبرا أن « كتـاب الأحـكام السـلطانية يشـكل مدخـا لدراسـة الخلفيـة الأخاقيـة للنظريـة الفقهيـة، ورؤيتهــا لمهــام الخليفــة وخصائــص الخافــة،  ولســلطات  الخافــة  وحدودهــا، وللمنظومــة الفقهيــة العمليــة المتفرعــة علــى الشــرع الموحــى، ولنظريــة المناصــب والولايـات، والجهـاد، والحـرب بشـكل عـام، والحـدود، وامـور الدولـة الماليـة، وقضايا الأرض، والجنايات.3»

وضمــن هــذه الخلفيــة الأخاقيــة يدافــع رضــوان الســيد عــن تأويــل إيجابــي لمفهـوم العدالـة يتجـاوز المفهـوم التراتبـي الـذي دافـع عنـه كمـال عبـد اللطيـف. حيـث نجـد رضـوان  يؤكـد أن «التوجـه الواقعـي للمـاوردي في الأحـكام السـلطانية لا يقلـل مـن شــأن الخلفيــة الأخاقيــة التــي يريدهــا أن تســود في الحــكام الخاصــة والعامــة. إذ تبــدو العدالـة التـي يطلبهـا شـرطا لـكل الولايـات المتصلـة بمجالـي القانـون مسـتوى متقدمـا ذا بعديــن دينــي وأخاقــي.4» مؤكــداً أن الخليفــة إذا فقــد العدالــة بشــروطها الجامعــة عــد ذلك قادحاً في خافته وصحتها.5

وخافـاً لرضــوان  الســيد الــذي يتبنــى تأويـاً إيجابيـاً للطاعــة يشــرطها بالالتــزام بأحـكام الشـريعة وكليـات الديـن وقيمـه بحيـث لا تكـون إلا في المعـروف6، نجـد كمـال 

عبـد اللطيـف يتبنـى تأويـاً معياريـاً وتاريخيـاً سـلبياً لمفهـوم الطاعـة؛ يقـول: «شـكلت الطاعــة المقابــل الموضوعــي  للســلطة الطاغيــة والمســتبدة عـبر التاريــخ، وتــم اعتبارهــا فضيلـة كـبرى في كل الخطابـات السياسـية  ذات الطابـع التسـلطي. إنهـا القيمـة الأخاقيـة الضروريـة لـكل نظـام تراتبـي في المجتمـع وفي السياسـة. وبمـا أن السـلطة تفـرد وامتيـاز، يمنــح الحاكــم القــدرة علــى الأمــر والنهــي، فــإن اســتمرار  المراتبيــة واســتمرار الملــك واهبـاً للرتـب، يقتضـي اسـتمرار الامتثـال والرضـى بالأوضـاع كمـا هـي عليـه، مخافـة أن تعود الجماعة إلى حالة الفوضى السابقة على كل سلطة.1»..

يذكــر كمــال كيــف كان للتجربــة الإســامية في الممارســة السياســية لحظــة تأسيسـها، ولحظـة حصـول انقطـاع الخافـة وظهـور الملـك، ثـم عـودة الخافـة كاسـم مواكــب للصيــرورة في الحكــم ذات طبيعــة ســلطانية، كان لــكل هــذا طريقتــه الخاصــة في التأمــل في الشــأن الدينــي (مــع الدعــوة أولًا، ثــم مــع العقيــدة في تجلياتهــا الطقوســية ومظاهرهـا ذات الشـأن الدنيـوي)، وهـي طريقة حاولت الجمع بيـن إرث الإمبراطوريات البيزنطيـة والفارسـية وبعـض تعاليـم الإسـام،  ممـا ولـد ممارسـة حـدد فيهـا البعـد الديني العقائــدي قاعــدة القواعـد في كل شــأن زمــاني بمــا في ذلــك  الشــأن السياســي.2 معتـبراً أن لحظـة الفتنـة في الآداب تعـد لحظـة عـودة للتقاتـل والاحـتراب، لحظـة الشـر المسـتطير. أمــا الملــك الأمــوي فيكــون بانتصــاره علــى الفتنــة قــد أســس للســلطة التاريخيــة  كمــا حصلـت، وأسـس للسـلطة الإسـامية كمـا تاحقـت بعـد نهايـة الأموييـن، وإلـى حـدود واقعهـا المتواصـل  في صـور الدويـات والممالـك والإمـارات والطوائـف. وقبـل ذلك في صـور الخلفـاء الذيـن تعاقبـوا علـى الإمبراطوريـة الإسـامية إلـى نهايـة الربـع الأول مـن القرن العشرين.

وفي هـذا السـياق أعتقـد أن اسـتحضار تجربـة الانتقـال مـن النظـام السـلطاني إلـى النظــام الدســتوري الحديــث بالمغــرب كان ضروريـاً، بالنظــر إلــى مــا تحيــل إليــه هــذه التجربــة مــن جدليــة تاريخيــة حيــة لا زالــت تفاعاتهــا وتحولاتهــا ســارية وجاريــة علــى مسـتوى الزمنيـة الطويلـة بـكل مـا تعرفـه مـن توتـرات وممانعـات. ولا أدل علـى ذلـك مـا شـهدته مـن تحـول نوعـي مـع دسـتور 2011 . وهو الاسـتحضار الـذي يبرره ويسـتدعيه، 

أكثـر مـا يسـتدعيه، سـياق تنـاول الأسـتاذ كمـال في خاتمـة كتابه «في تشـريح الاسـتبداد»..، لإشــكالية الحداثــة  السياســية وســؤال القطيعــة، خاصــة وأن هــذه التجربــة، كمــا ســبقت الاشــارة، لازالــت تفاعاتهــا جاريــة بمنطــق التحــول التاريخــي بعيــد المــدى مــن النظــام السـلطاني إلـى نظـام الملكيـة الدسـتورية الديمقراطيـة  البرلمانيـة والاجتماعيـة كمـا نـص على ذلك دستور المملكة القائم.

على سبيل الختم

في مختتـم  هـذه المحاولـة العجلـى في مقاربـة المنجـز الفكـري للأسـتاذ كمـال عبـد اللطيــف، لا بــأس مــن تجديــد التســاؤل: هــل يمكــن لجدليــات الحداثــة والتحديــث أن تنطلــق وتعتمــل وتتمخــض جدليــا مــن قلــب التقليــد وبنياتــه التاريخيــة القائمــة والمســتحكمة في مجتمعاتنــا العربيــة أم إنــه لا منــاص مــن المنابــذة والمفاصلــة بيــن البنيتين؟

هـل يمكـن لمـا اصطلـح عليـه الأسـتاذ كمـال بـ»مآثـر العالـم الكبـرى وروحانياتـه الجديــدة» والمتمثلــة في الجماليــات والفنــون ومبتكــرات التقانــة أن تحــل محــل الروحانيــات الأصليــة؟ هــل يمكــن لـ»الديــن الطبيعــي» أن يغنينــا عــن الديــن الســماوي المتعالـي؟ هـل يمكـن لـ»الديـن المـدني» في إعائـه مـن شـأن العقـل والحريـة والضميـر الفــردي والتشــوف نحــو الكمــال الإنســاني1 أن يغنينــا عــن «الديــن التوحيــدي» الديــن الموحى به؟

لقـد رأينـا كيـف أن الأسـتاذ كمـال ينطلـق مـن الوعـي بـأن نقـد الـتراث السياسـي، عـن طريـق البحـث في سـياقاته التاريخيـة وأبنيتـه النظريـة وكشـف مفارقاتهـا مـن شـأنه أن يسـهم في «تطويـر  فكرنـا السياسـي، ويمنحنـا إمكانيـة التواصـل الإيجابـي مـع مسـتجدات تاريخنــا، والتاريــخ الــذي تأســس ويتأســس بالقــرب منــا، فننخــرط بصــورة أفضــل في تعزيـز أسـس الحداثـة السياسـية  وذلـك بتوسـيع الأفـق التاريخـي الحداثـي، وإعـادة إنتـاج أطروحاتــه ومفاهيمــه، في ضــوء أســئلتنا التاريخيــة وإشــكالاتنا السياســية.2» فرغــم اسـتحكام تعبيـرات الأزمـة والتـأزم في الخطـاب العربـي المعاصـر، إلا أنـه ظـل، دون أن 

ينكــر هــذا الواقــع، متحليــاً بــروح التفــاؤل التاريخــي؛ وهــو مــا يعكســه الفهــم الــذي اعتمـده وتبنـاه لمفهـوم الأزمـة بعيـدا عـن أيـة معياريـة سـلبية؛ وهـو الفهـم الـذي ينطلـق مــن أن «الأزمــة لــم تعــد مرضــا أو عرضــا مرضيــا، بقــدر مــا تحولــت، انطاقــا مــن ارتباطاتهــا بالنســق العــام للمجتمــع والفكــر، إلــى مســألة حيويــة، بــل مســألة موضوعيــة يلزمنا التعايش معها.1»

وبعـد أن يسـجل أن «سـؤال التأصيـل النظـري»، و»بنـاء الوعـي المطابـق» لأسـئلة الحاضــر السياســية  والاجتماعيــة أمســت مازمــة للخطــاب السياســي الراهــن، يؤكــد أن القــراءات النقديــة للـتراث تســتبطن  مــا يدلــل علــى انطــاق مشــاريع في النظــر السياســي تتشــوف إلــى تجــاوز مظاهــر القصــور النظــري التــي  طبعــت جهــود الســابقين مــن رواد الليبراليــة العربيــة. وهــو مــا يؤشــر، مــن وجهــة نظــره، علــى «تطــور عميــق في الوعــي السياسي، سيؤتي ثماره في المستقبل.2»

ــــــــــــــــــــــــ

أســتاذ القانــون العــام والعلــوم السياســية، جامعــة محمــد الخامس/السويســي، ورئيــس تحريــر مجلــة الإحياء.

-1 منـذ بحثـه عـن «سـامة موسـى وإشـكالية النهضـة»، مـرورا بتأصيلـه الفلسـفي للنظـر السياسـي العربـي والحداثــة السياســية في كتابــه حــول «التأويــل والمفارقــة» وكتابــه عــن «المعرفــة والســلطة في المجتمــع العربــي»، و«أزمــة الخليــج قبــل الحــرب وبعدهــا»، و«تحــولات المغــرب السياســي»، و«الإصــاح السياســي في المغــرب: التحديــث الممكــن، التحديــث الصعــب» و«العدالــة الانتقاليــة والتحــولات السياســية في المغــرب: تجربــة هيئــة الإنصــاف والمصالحــة»، و«أســئلة الحداثــة في الفكــر العربــي: مــن إدراك الفـارق إلـى وعـي الـذات»، وأسـئلة النهضـة العربيـة: التاريـخ، الحداثـة، التواصـل»، و«الثـورات العربيــة، تحديــات جديــدة ومعــارك مرتقبــة»، و«المعــرفي، الإيديولوجــي، الشــبكي، تقاطعــات ورهانات»، فضا عن أطروحته «في تشريح أصول الاستبداد: قراءة في الثقافة السياسية السلطانية

-2 كمــال عبــد اللطيــف، العــرب في زمــن المراجعــات الكبــرى: محــاولات في تعقــل تحــولات الراهــن العربي، قطر-بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016، ص .105

 

1 المرجع نفسه، ص .114-115

-2 كمــال عبــد اللطيــف، التأويــل والمفارقــة: نحــو تأصيــل الحداثــة السياســية، القاهــرة: رؤيــة للنشــر والتوزيع، .2011

 

1 كمال عبد اللطيف، العرب والحداثة السياسية، بيروت: دار الطليعة، 1997، ص .8

-2 كمــال عبــد اللطيــف، في تشــريح أصــول الاســتبداد: قــراءة في نظــام الآداب الســلطانية، بيــروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 1999، ص .280

-3 المرجع نفسه، ص .284 -4 المرجع نفسه، ص .280 -5 المرجع نفسه، ص .281 

 

1 كمال عبد اللطيف، العرب والحداثة السياسية، ص .50-51

-2 كمال عبد اللطيف، في تشريح أصول الاستبداد: قراءة في نظام الآداب السلطانية، ص .111

-3 كمــال عبــد اللطيــف، العــرب في زمــن المراجعــات الكبــرى: محــاولات في تعقــل تحــولات الراهــن العربي، ص .92

-4 كمــال عبــد الطيــف، الإصــاح السياســي في المغــرب: التحديــث الممكــن التحديــث الصعــب، الــدار البيضاء: شركة النشر والتوزيع المدارس، 2011، ص .5

 

1 كمــال عبــد اللطيــف، تجليــات الثقــافي في الربيــع العربــي، القاهــرة: رؤيــة للنشــر والتوزيــع، القاهــرة، 2014، ص .196

-2 كمال عبد اللطيف، العرب والحداثة السياسية، ص .25

 

1 كمــال عبــد اللطيــف، العــرب في زمــن المراجعــات الكبــرى: محــاولات في تعقــل تحــولات الراهــن العربي، ص .122

-2 المرجع نفسه، ص .124

-3 المرجع نفسه، ص .106-108

1 المرجع نفسه، ص .66 -2 المرجع نفسه، ص .67 -3 المرجع نفسه.

 

1 المرجع نفسه، ص .97

-2 كمال عبد اللطيف، في تشريح أصول الاستبداد: قراءة في نظام الآداب السلطانية، ص .18 -3 المرجع نفسه، ص .71

 

1 كمال عبد اللطيف، تجليات الثقافي في الربيع العربي، ص .173-176

-2 كمــال عبــد اللطيــف، العــرب في زمــن المراجعــات الكبــرى: محــاولات في تعقــل تحــولات الراهــن العربي، ص .82

-3 المرجع نفسه، ص .86 -4 المرجع نفسه، ص .89

 

1 وهـي العــودة التــي يذهـب بأصولهــا الأسـتاذ كمــال عبــد اللطيــف، في أطروحتـه للدكتـوراه، بعيــدا إلــى الإرث الفارسـي كمـا رسـخه «عهـد أردشـير» الـذي وثـق الصلـة الوظيفيـة بيـن المقـدس والدنيـوي. مـع مــا يقتضيــه ذلــك مــن احــتراز منهجــي يســتلزم الوعــي بالفــارق بيــن الســياقات والأنظمــة المعرفيــة والإيديولوجية المختلفة.

-2 كمــال عبــد اللطيــف، العــرب في زمــن المراجعــات الكبــرى: محــاولات في تعقــل تحــولات الراهــن العربي، ص .77

-3 المرجع نفسه، ص .72 -4 المرجع نفسه، ص .97 -5 المرجع نفسه، ص .77 -6 المرجع نفسه، ص .70

 

1 المرجع نفسه، ص .76 -2 المرجع نفسه، ص .77

-3 عبـد السـام طويـل، دور التسـامح في تعزيـز العيـش المشـترك: مكانـة القيـم في العاقـات الدوليـة، ضمـن موســوعة الســلم في الإســام، مجلــد التســامح، منتــدى أبــو ظبــي للســلم، الإمــارات العربيــة المتحــدة،

.430 ص

4- »les frontières socioculturelles, linguistiques, religieuses«

1 عبــد الســام طويــل، الديــن ونظــام العالــم: البعــد الجيوسياســي لاعتقــاد الدينــي، مجلــة الإحيــاء، الربـاط، العـدد 50، 2025، قيـد النشـر. فمثلمـا اسـتقلت الكنيسـة الأنغليكانية عـن الكنيسـة الكاتوليكية تأكيــدا لســيادة بريطانيــا الوطنيــة، فقــد اســتقلت الكنيســة الإيبيســكوبالية )Épiscopalienne( عــن الكنيســة الإنجليزيــة، وذلــك علــى إثــر الثــورة الأمريكيــة تأكيــدا لســيادة واســتقال الأمــة الأمريكيــة الوليــدة بعدمــا كانــت مســتعمرات انجليزيــة تابعــة هــي وكنائســها للمســتعمر البريطــاني، كمــا اســتقلت حديثــا الكنيســة الأرثودوكســية الأوكرانيــة عــن الكنيســة الأرثودوكســية الأم بروســيا، بحيــث أن كل سياقات الاستقال السالفة كانت تؤذن بتحولات جيوستراتيجية كبرى ذات أبعاد دولية.

-2 كمال عبد اللطيف، تجليات الثقافي في الربيع العربي، ص .198 -3 المرجع نفسه، ص .199

 

1 المرجع نفسه، ص .201

-2 كمال عبد اللطيف، العرب والحداثة السياسية، ص .64-65 -3 كمال عبد اللطيف، تجليات الثقافي في الربيع العربي، ص .206

-4 كمــال عبــد اللطيــف، العــرب في زمــن المراجعــات الكبــرى: محــاولات في تعقــل تحــولات الراهــن العربي، ص .79-80

 

1 أنظـر: عبـد السـام طويـل، إشـكالية العلمانيـة في الفكـر العربـي المعاصـر، مجلـة الديمقراطيـة، القاهرة: مؤسسة الأهرام، عدد: 25، .2007

-2 كمــال عبــد اللطيــف، العــرب في زمــن المراجعــات الكبــرى: محــاولات في تعقــل تحــولات الراهــن العربي، ص .81

 

1 المرجع نفسه، ص .139

-2 كمال عبد اللطيف، العرب والحداثة السياسية، ص .62 -3 المرجع نفسه، ص .21-22

 

1 المرجع نفسه، ص .22 -2 المرجع نفسه، ص .26 -3 المرجع نفسه، ص .27

-4 كمــال عبــد اللطيــف، العــرب في زمــن المراجعــات الكبــرى: محــاولات في تعقــل تحــولات الراهــن العربي، ص .123

 

1 للوقــوف علــى الأصــول الثيولوجيــة للحداثــة، انظــر: المصطفــى تــاج الديــن، الحداثــة والديــن: إعــادة

 

 

.، مجلـة الإحيـاء، العـدد المـزدوج 45-46،

 

النظر في الأسس الملتبسة، قراءة في كتاب:

Michael Allen Gillespie, The Origins of Modernity

 

2018، ص .220-229 انظـر كذلـك: عبـد السـام طويـل، الأصـول الدينيـة للحداثـة السياسـية: تبلـور المجـال السياسـي في سـياقين تاريخييـن مختلفيـن، ضمـن كتـاب، إشـكالية العاقة بيـن الدين والسياسـة في الفكر العربي المعاصر، بيروت: دار مدارك للنشر، 2012، ص 227 وما بعدها.

-2 كمال عبد اللطيف، العرب والحداثة السياسية، ص .101

-3 كمــال عبــد اللطيــف، العــرب في زمــن المراجعــات الكبــرى: محــاولات في تعقــل تحــولات الراهــن العربي، ص .123

1 كمال عبد اللطيف، العرب والحداثة السياسية، ص .5 -2 المرجع نفسه، ص .131

 

1 كمــال عبــد اللطيــف، العــرب في زمــن المراجعــات الكبــرى: محــاولات في تعقــل تحــولات الراهــن العربي، ص .135

-2 المرجع نفسه، ص .133

 

1 المرجع نفسه، ص .133-134 -2 المرجع نفسه، ص .135

-3 المرجع نفسه، ص .136

 

1 المرجع نفسه، ص .137

-2 انظـر: عبـد السـام طويـل، إشـكالية الحداثـة والموقـف مـن الـتراث لـدى علـي أومليـل، ضمـن كتـاب: الفكــر السياســي العربــي: قــراءة في أعمــال علــي أومليــل، الــدار البيضاء-بيــروت: المركــز الثقــافي العربي، 2004، ص .58-59

-3 كمــال عبــد اللطيــف، العــرب في زمــن المراجعــات الكبــرى: محــاولات في تعقــل تحــولات الراهــن العربي، ص.137

1 المرجع نفسه، ص .144 -2 المرجع نفسه، ص .145

 

1 المرجع نفسه، ص .146

-2 كمال عبد اللطيف، العرب والحداثة السياسية، ص .132

-3 لقــد ظلــت أغلــب نصــوص الآداب الســلطانية تغــرف مــن معيــن النصــوص المرجعيــة الأساســية المسـتخرجة إمـا مـن كتـب تاريـخ ملـوك الفـرس، أو التاريـخ البيزنطـي، أو العهـود اليونانيـة المنحولة..، أنظر: كمال عبد اللطيف، في تشريح أصول الاستبداد: قراءة في نظام الآداب السلطانية، ص .210

-4 المرجع نفسه، ص .6 

 

1 المرجع نفسه، ص .78 -2 المرجع نفسه، ص .145

-3 المرجع نفسه، ص .148-149

1 المرجع نفسه، ص .213 -2 المرجع نفسه، ص .186 -3 المرجع نفسه، ص .187 -4 المرجع نفسه، ص .111

1 المرجع نفسه، ص .188 -2 المرجع نفسه، ص .189 -3 المرجع نفسه، ص .189 -4 المرجع نفسه، ص .189 -5 المرجع نفسه، ص .189

1 المرجع نفسه، ص .196 -2 المرجع نفسه، ص .188 -3 المرجع نفسه، ص .270 -4 المرجع نفسه، ص .273

 

1 المرجع نفسه، ص .271 -2 المرجع نفسه، ص .274 -3 المرجع نفسه، ص .5-6 -4 المرجع نفسه، ص .6

-5 وممـا أسـعفه علـى إنجـاز هـذه القـراءة العميقـة قدرتـه الملفتـة للنحـث الإصاحـي؛ ففـي سـياق رصـده لمســافة الخلــف بيــن الإســام المعيــاري والإســام التاريخــي ومــا ينتــح عــن ذلــك مــن توتــر نجــده يكثــف هــذه المســافة وهــذا التوتــر في مــا اصطلــح عليــه بــ «امتحــان الرســالة في التاريــخ كمــا نجــده يتحدث عن «التشبّع النظري التاريخي»، و «الاستواء النصي واكتمال النمطية..» وغيرها.

 

1 المرجع نفسه، ص .34

-2 نفس المرجع، ص .191-192 -3 المرجع نفسه، ص .93

-4 المرجع نفسه، ص .183-184

 

1 رضــوان الســيد، ضمــن تقديمــه ودراســته لتحقيــق كتــاب، قوانيــن الــوزارة وسياســات الملــك، للمـاوردي، بيـروت: مركـز ابـن الأزرق لدراسـات الـتراث السياسـي، ط3، 1433(هــ2012/م)، ص

.6-7

-2 المرجع نفسه، ص .109

-3 رضــوان الســيد، ضمــن تقديمــه ودراســته لتحقيــق كتــاب، قوانيــن الــوزارة وسياســات الملــك، للماوردي، ص .26

-4 المرجع نفسه، ص .29-30 -5 المرجع نفسه، ص .45

-6 المرجع نفسه، ص .41

1 كمال عبد اللطيف، في تشريح أصول الاستبداد: قراءة في نظام الآداب السلطانية، ص .180-181 -2 المرجع نفسه، ص .161

1 كمــال عبــد اللطيــف، العــرب في زمــن المراجعــات الكبــرى: محــاولات في تعقــل تحــولات الراهــن العربي، ص .90

-2 المرجع نفسه، ص .11-12

1 كمال عبد اللطيف، العرب والحداثة السياسية، ص .48 -2 المرجع نفسه، ص .18