أحمد الحطاب: الرؤية الملكية للمغرب مقابل العقليات الفاسِدة وغير المَسؤولة

أحمد الحطاب: الرؤية الملكية للمغرب مقابل العقليات الفاسِدة وغير المَسؤولة أحمد الحطاب
ما أقصده من خلال عنوان هذه المقالة، هو أن ملكَ البلاد يرى المغرب كوحدةٍ غير قابلة للتجزيء، بمعنى أن جلالتَه لا يرى أي فرقٍ بين مختلف المجالات الجغرافية أو الجهات التي تتألف منها رُقعةُ المغرب. أو بعبارةٍٍ أخرى، ما يريده ملكُ المغرب من خيرٍ للبلاد، يريده لجميع مناطقه، بما فيها الصحراء المغربية.

والخيرُ ألذي يريده جلالتُه للبلاد يتجلَّى في كثير من أقواله (خُطبه) وأعماله. والدليل على ذلك، أن المغرب الذي كان قائماً في عهد المرحومين، الملكَين محمد الخامس والحسن الثاني، لا يمكن، على الإطلاق، مقارنتُه بالمغرب الحالي. الأول حرَّر البلادَ من وطأة الاستعمار ووضع اللَّبِنات الأولى لطموحاتِها في مختلف مجالات التَّقدُّم والازدهار. والثاني واصل مسيرةَ أبيه، ولو بشيءٍ من الاستبداد، لكن إنجازه العظيم يتمثَّل في تنظيم المسيرة الخضراء لاستكمال وحدتنا الترابية. بل إنه، رغم ما اعترضَه من صعوبات، حافظ على نظام الحكم وبدأ في تغييره بالتدريج وتوجيهه نحو حكمٍ قريبٍ شيئا ما من الديمقراطية.

أما محمد السادس، فله كل الفضل على خلقِ مغرب جديد مختلفٍ، تمامَ الاختلاف عن ذلك الذي خلَّفه لنا مُحرر البلاد، محمد الخامس، وابنُه الحسن الثاني. مغربٌ مختلفٌ تمامَ الاختلاف اجتماعياً، اقتصاديا، ثقافيا، زراعيا، صناعيا، تكنولوجياً، مَدَنياً، حضارياً، رياضياً…

لكن الطامةَ الكبرى هي أن هناك فرقا شاسِعاً بين طموحات ملكٍ يريد الخيرَ للمواطنين، ذكوراً وإناثاً، وبين أحزاب سياسية، هاجِسُها الأول والأخير، هو "احتلال" السلطة l'invasion du pouvoir. فما هي هذه الطموحات؟

طموحات ملك البلاد لا حصرَ لها. لكن أعظَمَها وأحسَنَها، هو تطوُّرُ البلاد، أي انتقالُها من حسنٍ إلى أحسن. بل ودخولُها في مصافِّ البلدان المُزدَهِرة. بمعنى أن ملكَ البلاد يريد أن ينتقل المغربُ من بلدٍ في طريق النمو إلى بلد صاعد passer du stade de pays en développement au stade de pays émergent، ولِما لا إلى بلد نامي développé، اجتماعيا، اقتصاديا وثقافيا.

وكما سبق الذكرُ، شتان ما بين طموحات ملك البلاد وطموحات الأحزاب السياسية المُنحَصِرة في "احتلال" السلطة. أقول "احتلال" السلطة وليس الوصول إليها ديمقراطياً. لماذا؟ لأن جميع الأحزاب السياسية، بدون استثناء، لها أساليبُها الخاصة ل"احتلال" السلطة، لإرغام المواطنين على تمهيد الطريق لها من أجل تحقيق هذا "الاحتلال". فمنها مَن يستعمِل المال الفاسدَ، ومنها مَن يستعمل التَّخويف عن طريق الدين، ومنها مَن يستعمل الكذبَ والنفاقَ والبهتان والتَّحايل، ومنها مَن يلجأ إلى احتقار الأحزاب الأخرى ونعتِها بأقبح الصفات…

في نظري الشخصي، كل أحزابُنا السياسية تتشابه من حيث المضمون، بمعنى أنها تنصهِر في نفس البوتقةٍ التي تحمل كشِعارٍ لها "احتلال" السلطة. وفي نظري الشخصي، كذلك، أن أي حزبٍ، مهما كانت توجُّهاتُه الإيديولجية، وصل إلى السلطة، من واجبِه أن يُحاربَ الفسادَ بجميع أنواعِه. بمعنى أن تكونَ أولويةُ أولوياتِه، محاربة الفساد. فإن لم يفعل، فهو حزبٌ سياسي انتهازي ومُخادع. انتهازي لأنه لا تهمُّه مصلحة الوطن، ومُخادع لأنه يستعمل قضية محاربة الفساد في الحملات الانتخابية، ولما يصل إلى السلطةِ، يفضِّل تدبيرَ شؤون الوطن في مشهدٍ سياسي مشحونٍ بالفساد. لماذا؟

لأن الأحزابَ السياسية، من جهة، بعدما فقدت رُوَّادها المرموقين والمُثقفين، فقدت، في نفس الوقت، مواطنتَها sa citoyenneté ووطنيتِها son patriotisme. حينها، لم يعُد هناك فرقٌ، إيديولجياً، بين اليمين واليسار وبين الليبرالية والاشتراكية وبين الرأسمالية والشيوعية وبين المحافظة والحداثة… جميع الأحزاب السياسية تتناقض مع تسمِياتِها ولها قاسمٌ واحِدٌ مشتركٌ، ألا وهو "احتلال" السلطة.

ومن جهةٍ أخرى، إذا كان ملكُ البلاد يسود ويحكم، فإنه يُعطي الأولوية للديمقراطية. كيف ذلك؟ يُعطي الأولوية للديمقراطية بإسناد كثير من مهام تدبير شؤون البلاد، إلى رئاسة الحكومة وإلى الحكومة. بما أن الحكومةَ مشكَّلةٌ من أحزاب سياسية، فعقلياتُ les mentalités هذه الأحزاب السياسية هي التي تُدبِّر شؤون البلادِ وليس المواطنة والوطنية. وإذا كانت هذه العقليات فاسِدة أو غير كُفأة أو أنانية أو انتهازية أو غير مسئولة…، كان الله في عون تدبير شؤون البلاد.

ولهذا، فهناك هُوَّةٌ عميقة un fossé profond بين طموحات ملك البلاد والأحزاب السياسية ذات العقليات المنحرِفة، الفاسدة والمُخادِعة. في نظري، هناك صراعٌ صامتٌ بين عقليةٍ ترِيدُ الخيرَ للبلاد وعقلياتٍ همُّها الوحيد هو "احتلال" السلطة.

وهذا هو ما يُفسِّر عدمَ استفادة البلاد من المجهودات التي بدلها ملكُ البلاد لمحاربة الفساد. أنشأ المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والمجلس الأعلى للحسابات ومجلس المنافسة والمجلس الوطني لحقوق الإنسان والهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتِها. كل هذه المؤسسات لم تستفد من وجودها البلاد. بمعنى أن هذا الوجودَ لم يقض على الفساد، أو على الأقل، الحد من انعكاساته السلبية على البلاد. فالفياد تزداد حِدَّتُه، سنة بعد أخرى. لماذا؟

لأن طموحات ملك البلاد في وادٍ وأطماع الأحزاب السياسية في وادٍ آخرَ. بمعنى أن طموحات ملك البلاد تصطدِم بعقلياتٍ حزبية غير مسئولة. ولو جعلت الأحزاب السياسية من محاربة الفساد أولوية الأولويات، بوضعها لخطَّة مُحكَمَة على المدى البعيد ويكون فيها القضاءُ مستقلا، وتُفعَّل فبها المؤسسات المشار إليها أعلاه، فلنقل وداعاً للفساد.

والبرلمان له دورٌ حاسمٌ في هذا الصدد. لماذا؟ لأن البرلمانَ هو الذي يُشرِّع وهو الذي يُراقِب عملَ الحكومة. في مجال التَّشريع، أن يعيدَ النظر في القوانين التي تحارب الفساد ويسُدَّ ما قد بكون فيها من ثغرات. في مجال مراقبة عمل الحكومة أن يُصرَّ البرلمانيون على تطبيق القانون، بصفةٍ عامة، والقانون الخاص بمحاربة الفساد، بصفة خاصة. فإذا أجمع البرلمانيون على محاربة الفساد، فهذا هو ما يرغب فيه الشعب المغربي. لكن، على ما يبدو، الأغلبية السياسية المسيطِرة على البرلمان، بغُرفتيه، لا ترغب في محاربة الفساد. لماذا؟

لأن هذه الأغلبية صوَّتت مؤخّرا على قانونٍ يُحرِم المجتمع المدني من التبليغ عن الفساد وفضحه. والمجتمع المدني هو جزءٌ لا يتجزَّأُ من المجتمع المغربي. فهل هناك جهةٌ مؤهَّلةٌ للإطِّلاع على كوارث الفاسدين والنفسدين أكثر من المجتمع المجتمع المدني؟ هنا بيتُ القصيد أو هنا نضع علاماتِ استفهامٍ طويلة وعريضة.