تصدر دار نشر أوريون وسيريوس رواية الكاتب والمفكر المغربي عبد الحق نجيب. أراضي الله رواية للذاكرة في متاهات النسيان.
"السنوات السعيدة هي سنوات ضائعة، فنحن ننتظر المعاناة قبل أن نعمل"، هكذا كتب بروست في "الزمن المستعاد". ماذا يمكننا أن نقول إذن إذا كانت الطفولة بأكملها مرادفة للمعاناة؟ من المحتمل أن تكون أي رواية قوية، إذا كانت ثمرة الكثير من المعاناة التي عاشها الإنسان في سن مبكرة، هذا هو الأمر المجزوم فيه عند قراءة رواية الأديب و المفكر، عبد الحق نجيب: أراضي الله. هي رواية تستحق أن تكون في معبد الأدب العالمي لما تتسم به من حنكة، من أسلوب، من شاعرية ومن لغة متعددة المشارب والخطابات الذاتية والداخلية. بالتأكيد، إنها قصة عالم مظلم وكئيب، صعب جدا ، لكنه مؤثر للغاية ومليء بالعواطف. إن رواية "أراضي الله" تتجاوز إلى حد كبير القصة البسيطة لمعاناة الطفولة، مهما كانت قوية، لأنه إذا كانت كل رواية تحمل في طياتها من حيث المبدأ تجربة مؤلفها، فإن هذا ليس هو الحال بالتأكيد مع رواية نجيب عبد الحق.
تتناول هذه الرواية تجربة الحي المحمدي المحروم والمهمش بالكامل في مدينة الدار البيضاء. إن تجربة المؤلف ليست سوى ذريعة لكشف عالم كامل مخفي ومنسي تقريبًا. تنبع هذه الحقيقة المروعة المكونة من شخصيات متعددة من الرماد وتتشكل من خلال سرد آسر يستكشف أعماق العالم السفلي. وفي عدة مناسبات، لا تخفي الرواية هذا الأمر. في الواقع، يُخبر الراوي قارئه فورًا أنه سيكون "مُستقبِل رحلاتهم، كلٌّ منها مُختلفٌ عن الآخر. نعم، كان عليّ أن أصبح جرةً تُدفن فيها أسرار كلٍّ منهم، أفراحهم وأحزانهم. كان لا بدّ من نافذةٍ سقفيةٍ أن تُفتح يومًا ما ليجد شعاعٌ من نورٍ نقيٍّ طريقه إلى قلوبنا". ص40 "أراضي الله" هي مجموعة من الكائنات الورقية التي تدور حول شخصية الراوي وتشكله. بالإضافة إلى قصة حياة الشخصية الرئيسية، هناك تجارب كل أولئك الذين كانوا قريبين منه، سواء اصدقاء أو بعيدين، ولكنهم، في وقت أو آخر، كان لهم تأثير كبير على الشخصية الرئيسية.
نحن أمام رواية أصلية حيث يتشكل السرد الجذري في البحث عن أي صدمة،عن أي احساس، عن أي تجربة أو تساؤل، أي ذكريات تصبح مثل العديد من الأوردة لضبط الرواسب واستكشافها في أصغر زواياها. شيئا فشيئا، ترسم الرواية عالما بائسا وبغيضا، وبالتالي ترسم صورة تنبض بالحياة من جميع الجوانب. إنها عبارة عن صهارة متحركة من الشخصيات المتمردة التي تتبع بعضها البعض وتتشابك مع بعضها البعض، مما يكون له تأثير شديد على الشخصية الرئيسية ويساهم في تعليمه.
منذ ذلك الحين، لا يروي الراوي الذاتي حياته فحسب، بل يروي أيضًا عالمًا متحركًا كاملًا يسكبه ويعيد تشكيله: "عندما أتذكر تلك الأيام السعيدة، تتزاحم الأسماء والوجوه لتحتل كل ركن من أركان ذاكرتي. مدينة بأكملها لا تزال تسكن عقلي، وتدعوني للعودة إلى الحياة بعد رحيل الزمن والأيام. (...) لعشرين عامًا، عشتُ مع هاجس أن أذكر يومًا ما أولئك الرجال والنساء الذين هزّوا طفولتي. لقد شعرت لسنوات عديدة بالحاجة إلى أن أشهد على عظمة جيل ضحى بنفسه على مذبح الحرية والكذب والنفاق والاحتيال والاستغلال وعدم الكفاءة والتلقين والخيانة والغش والخداع والكراهية والجهل. PP39-40
لا يتكشف هذا العالم وفقًا للنموذج التقليدي للحبكة السردية المباشرة، بل من خلال تفرعات تتطور وتتوسع مع تقدم السرد، وتنتقل من شخصية إلى أخرى وتميل في بعض الفصول إلى وضع شخصية الراوي في الخلفية. لذا، في الفصل "الشيطان يكمن في التفاصيل" تركز القصة على شخصية حسنية: "قالوا إنها تعرف كيف تجذب الرجال بمؤخرتها الجميلة" ص89. تقلبات الحياة جعلتها امرأة مقززة، عوراء، ثم لجأت إلى البصيرة، ثم تنبأت بموت شعيب. ويتابع السرد بعد ذلك التقلبات المأساوية التي رافقت شخصية شعيب ثم أفعاله الشنيعة ومواجهاته مع الشرطة إلى جانب الراوي.
تسمح لنا هذه الرواية بتسليط الضوء على جزء من لغز يتعلق بعالم السجون وسنوات الرصاص، وإعادة بناء جزء مهم من هذه الحقبة. وتتخلل الرواية أمثلة أخرى مثل السرد الذي ينتقل من الأخ إلى أخته "علياء" ليقدم لنا قصة حب مكثفة تنتهي بزواجها من مخرج سينمائي إنجليزي، مما يقود السرد إلى ملخص آخر لحياة الإنجليزي حتى انتحاره. ثم نعود إلى شخصية "علياء" ممثلة الظلم الذي وقع على الجنس الأنثوي في ذلك الوقت (التي تعرضت للضرب بسبب رفضها الزواج من رجل ذي مكانة عالية).
يتم التخلي عن جوهر السيرة الذاتية الأنانية من أجل السيطرة على العالم المحيط. وبذلك تصبح «أراضي الله» بمثابة شهادة مذهلة على عصر مضى. إن هذا الضجيج اللفظي، يعطي عمقاً للرواية ويربط المصائر معاً لخلق كل يمثل جزءاً من التاريخ المعاصر (سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن العشرين) مثل "الكوميديا الإنسانية" لأونوري دي بلزاك أو "روجون ماكوارت" لإميل زولا.
إن هذا العالم لا يرحم وفظيع ولكن ليس ميؤوسًا منه إلى هذا الحد حيث تتأرجح الرواية باستمرار بين إيروس وثاناتوس، بين متع الحياة وابتهاجاتها، وآلام الوجود المهينة. عالم فرحة العيش معًا حتى في المعاناة والهشاشة: "كان الناس يتذمرون لكنهم كانوا سعداء دائمًا".ًوهذا بلا شك هو الأصالة الأخرى لهذه الرواية: فبعيدًا عن التركيز على المعاناة، تجسد هذه الرواية الفروق الدقيقة التي تشكل أفراح الحياة في الألم والمعاناة.
وبعبارة أخرى، إنها رواية مليئة بالبؤس المثير للغضب والمزعج، والبؤس المقيد والمنحط، ولكن في ذروة المحنة تنتشر حلاوة الحياة بشكل متناقض. يقدم لنا النص تجوالاً عبر مساحة تحمل ظلال الماضي حتى يمكن إحياء عمل مثمر. في "أراضي الله"، نستمتع بهذا المفهوم البروستي الذي ينبثق منه، بأسلوب واضح وخام، ويستند إلى الواقع المغاربي الخالص.
قال فيكتور هوجو: "يجب أن ينمو العشب ويجب أن يموت الأطفال".
أقول إن قانون الفن القاسي هو أن الكائنات تموت وأننا نموت نحن أنفسنا من خلال استنفاد كل المعاناة، بحيث ينمو العشب ليس من النسيان ولكن من الحياة الأبدية، العشب الكثيف للأعمال المثمرة، والذي ستأتي عليه الأجيال لتتناول "غداءها على العشب" بسعادة، دون الاهتمام بأولئك الذين ينامون في الأسفل.
أراضي الله رواية متاهة، ملعونة بلا شك، لكنها تنبع من الأفراح والمتع والاحتفال بالحياة. السؤال كله الذي نسأله لأنفسنا هو ما إذا كانت فرحة الحياة هذه ترجع إلى "منظور الزمن المشوه"، بعد الهروب من المذبحة، أم أنها في الحقيقة فرحة ساذجة تنفجر على وجه التحديد في الطين وتخففه؟
محمد زيلاوي، أستاذ وروائي