محمد الشيخ: كمال عبد اللطيف.. مقام اللطف والبسط والاعتراف

محمد الشيخ: كمال عبد اللطيف.. مقام اللطف والبسط والاعتراف كمال عبد اللطيف (يمينا) ومحمد الشيخ
نظمت شعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط بتعاون مع مركز روافد للدراسات و الأبحاث في حضارة المغرب و تراث المتوسط " و مؤسسة فهارس لخدمات الكتاب ، ندوة تكريمية للأستاذ كمال عبد اللطيف ، وذلك يوم الأربعاء 14 ماي بمدرج الشريف الإدريسي قدمت خلالها العديد من المداخلات و الشهادات تضمنها كتاب جماعي  بعنوان :" التنوير أفقا "  قدم له ذ. محمد نورالدين أفاية . تنشر " أنفاس بريس " النص الكامل لمساهمة الأستاذ محمد الشيخ التي أختار لها كعنوان : "كمال عبد اللطيف : مقام اللطف والبسط و الإعتراف   " .
 
" جمعتني بالأستاذ كمال عبد اللطيف صلة التلمذة، أولا، فآصرة الزمالة، ثانيا، ثم رابطة الرفقة، ثالثا. وفي كل طور من أطوار هذه العلاقات كنت أكتشف وجها جديدا للأستاذ ما كنت قد خبرته من ذي قبل. على أن اللطف والبسط والاعتراف رافقا هذه الأطوار كلها، على أنني أقطع في هذا ولا أستثني. 
في بداية الموسم الجامعي 1985-1986 التحقت بكلية الآداب والعلوم الإنسانية طالبا بشعبة الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس. وكان من ضمن أساتذتي، في الطور الأول من التكوين الذي كان يمتد على أربع سنوات، الأستاذ كمال عبد اللطيف. وكانت محاضرات الأستاذ تجري في حمى ملحق الكلية آنذاك بمدينة العرفان، بينما كانت محاضرات أخرى تُلقى بالمقر المركزي المعروف للكلية. كان الأستاذ كمال عبد اللطيف يدرّسنا مادة "الفلسفة اليونانية" ـ وكنا آنها نربو على الخمسمائة طالب وطالبة ـ في مدرج فسيح بملحق الكلية في السويسي. وكانت هذه المحاضرات أشبه شيء تكون بالعرض المسرحي الباذخ؛ إذ كانت تتم في جو احتفالي بهيج قشيب، بحيث كانت تحدث فيها وقائع لا تُعد بعد وتتخللها طرائف لا تُحصر بحصر. وبفضل الأستاذ كمال عبد اللطيف ـ الذي كان يُفَضِّل طريقة التدريس بالنصوص والأوبة إلى المظان ـ أمكننا الاطلاع على بعض ذخائر الفلسفة اليونانية السابقة على سقراط ـ شذرات فيثاغوراس وهرقليطس وبارمنيدس وغيرهم من حكماء اليونان الأوائل ـ في حُلَّةٍ اختار لها الأستاذ أن تكون ذات نَفَسٍ أدبي شعري رفيع. 
ومن طرائف مقام اللطف والأنس هذا الذي لاطفنا فيه الأستاذ وآنسنا به: أنه أمام شراسة بعض طلبة تعاضدية الطلبة وحدّتهم أحيانا في الدعوة إلى ما كانوا يدعون إليه من إضرابات ووقفات احتجاجية، كان يقابلهم دائما بروح من المرح والمطايبة. وأذكر بهذه المناسبة أن الأستاذ كمال عبد اللطيف كان يُملي علينا بعض شذرات الفلاسفة المتقدمين على سقراط، وكان يحدث أن يُسرع في الإملاء أحيانا، أو ألا تُسمع له من في المدرج الفسيح لفظة أو جملة من تلك التي كان يمليها، أو تسقط عفو الخاطر عبارة من إملائه؛ فكانت تَصْدُرُ، بداية، عن الطلبة بعض "نقرات" بالأقلام و"طقطقات" بالأصابع على طاولات المدرج احتجاجا؛ ثم ما لبث أن التحق بركب "الناقرين" و"المطقطقين" سائر الطلبة في جلبة عامة. فما يكون من الأستاذ كمال عبد اللطيف إلا أن يوقف الإلقاء، ويرد علينا بعبارة رواقية حفظناها من كثرة ما رددها علينا: "شكرا على هذه التشجيعات!"
وقد تذكرت هذا المشهد، في ما بعد، أثناء مقامي في ألمانيا زائرا بجامعة توبنجن، لما هي انعقدت أول ندوة حضرتها في تلك الجامعة العتيقة. إذ ما أن أنهى المتدخل الأول مداخلته، حتى ارتجت القاعة بنقرات بالأقلام أو بطقطقات بالأصابع على الطاولات! لم أفهم، بداية، ما الذي دعا إلى هذه النقرات التي حسبتها احتجاجات، لا سيما وأن المتدخل كان قد أبلى بلاء حسنا ولم يجئ شيئا نُكرا يدعو إلى الاستغراب أو الاستنكار. ثم ما لبث أن أدركتُ أن هذه كانت من رسوم الأوساط الأكاديمية الألمانية في التفاعل الإيجابي مع المشارك وشكره على مداخلته. وما كان مني إلا أن قلت حينها مع نفسي: "والله ما كان الأستاذ كمال عبد اللطيف يظلمنا حين كان يعلق على نقراتنا بسخريته اللاذعة: "شكرا على هذه التشجيعات""! 
ومن شأن الطرفة أن تستدعي أختها ومن أمرها أن تستجلبها هي الاستجلاب: ذلك أنه عادة ما كان المدرج يغص بالطلبة، حتى أن الجالسين في الوراء كان يعسر عليهم الإصغاء إلى ما كانت تنبس به شفتا الأستاذ كمال عبد اللطيف في محاضرته؛ اللهم إلا بعد التَّعَمُّل والتَّسَمُّع والتنصت ببذل الجهد الجهيد. وكان لما يتدخل طالب من الطلبة بإبداء ملاحظة أو بالاشتكاء من ضعف الصوت، يخاطب الأستاذُ الطلبة بلازمة لطالما حفظناها لكثرة ما رددها الأستاذ: "أنتم تروني وأنا لا أراكم". وفي البداية، كانت هذه العبارة تثير حنق المستمعين، حيث كان يتحسس منها بعض الطلبة ويعدُّونا إهانة لهم. كانوا يتساءلون في ما بينهم البين: وكيف بالأستاذ ألا يرانا؟ وكان أن علّق أحد ظرفاء الطلبة ذات يوم: لعل الأستاذ يلج القاعة نشوانا، فلا يرى أي أحد! لكننا فهمنا في ما بعد مقصد الأستاذ: كنا طلبة جددا يفوق عددنا الخمسمائة طالب، وكان كل واحد منا "يعرف" الأستاذ كمال عبد اللطيف بعد أن استأنس هو بصورته أول يوم، أما الأستاذ فكان من الطبيعي ألا يعرف كل طالب طالب؛ إذ كيف لعينين مشغولتين بقراءة ما سُطر أن تتعرفا على ألف عين! بل كيف لأستاذ أن يتعرف على ما ينيف عن خمسمائة وجه! 
كان ذلك درسا في "فينومينولوجيا الإدراك". وما كنا لنحتاج ـ نحن معشر الطلبة ـ لكي نستأنس بالفينومينولوجيا إلى ما كان احتاج إليه جون بول سارتر وسيمون دو بوفوار ـ أيام الطلب ـ من الرواح إلى ألمانيا عام 1932 ـ وقد بدأت "نوادر" النازية ترسل شرارتها الأولى ـ حتى يكتشفا هوسرل وفلسفته التي ما سمعا بها أبدا في فرنسا ـ الفينومينولوجيا ـ وما كنا نحتاج كما احتاجا إلى أن يسهرا ليلة بأكملها في تأمل "المعيش المُدْرَك" من خلال وصف فينومينولوجي لشعلة إنارة؛ إذ كان يكفينا أن نـتأمل عبارة الأستاذ آنذاك. وقد كان حالنا مع الأستاذ كمال عبد اللطيف كحال تلامذة ديوجنيس الكلبي مع تلامذته لما كانوا يُبدون إليه بما كان يورده زينون الإيلي من "حُجَجٍ" ـ أو بالأحرى "شُبَهٍ" ـ في إبطال الحركة الظاهرة للعيان، فكان يكتفي بأن ينهض من مكانه ويذرع المكان رواحا وإيابا، فيتهامس الطلبة بأنه أحار الجواب، بينما الواقع أنه كان يجيبهم جوابا عمليا لا محاجّة فيه ولا نبس بأي كلمة: إنما الدليل على وجود الحركة دليل عملي ـ مشية الأستاذ تثبت الحركة ولو هو تقدم المُمَوِّهُ بألف حجة وحجة تنكر الحركة ـ وما كان دليلا نظريا ـ بالجدل والمماحكة بأمحل المحال ... 
وشيء آخر أذكره عن هذه المحاضرات، وهو أن الأستاذ كمال عبد اللطيف كان يمدنا بنصوص ـ عبارة عن شذرات مستغلقة هرمسية معتاصة ـ من نظم الفلاسفة الإغريق الأوائل، وكانت الفلسفة أول ما كُتبت هي إنما دوِّنت نظما قبل أن تُبسط هي في مبسوطات من نثر. ومن بين هذه النصوص كان يقدم لنا مقاطع من قصيدة بارمنيدس في دربي الحقيقة والرأي، ومن بينها أيضا شذرات مما تبقى من نظم هرقليطس. وبينما كنا نرطن في قراءة تلك الشذرات ونُكِدُّ أذهاننا في محاولة فهم بعض مستغلقاتها، كانت تلوح معجزة في الأفق: ذلك أنه كان قد يحدث أن تأتي طالبة متأخرة، و"تتعمد" هي أن تمشي أمام منصة الأستاذ وهي تتهادى في مشيتها وتتطوّس في غنجها وتتمايل في دلالها، حتى لأنه تُسمع لكعبها العالي نقرة تكاد هي تضبط إيقاع خطاب الأستاذ ... ويحدث أن يكون الأستاذ آنذاك يردد على مسامعنا وهو يفك بعض طلسمات النص الفلسفي الشعري: "أنظروا إلى هذا النص، وتأملوا فيه: كم هو جميل، كم هو رائع، كم هو مِفن؟" فما يكون من الطلبة آنذاك إلا أن يبهتوا ويحاروا ويَعجبوا، ويطرقوا ويوسوسوا، ويتأولوا ما خاطبهم به الأستاذ، لا أقول كما كانت العرب القدامى تقول، "تأويلا باردا"، وإنما بالضد تأويلا "ساخنا" و"حَمِيَّا" ... في مشهد من أفكه ما يكون.
وخلف ما كان يحدث في هذه المحاضرات ـ التي لن تمحى ما حييت من ذاكرتي بفضل جمعها بين ما قد لا يجتمع إلا القليل النزر في محاضرة: المتعة والفائدة ـ كان ثمة مما تعلََّمْتُهُ من الأستاذ كمال عبد اللطيف من إشراك الطلبة في إنشاء هذه المحاضرات. إذ أذكر أنه كان ينبِّهنا بين الفينة والأخرى إلى صعوبة الحصول على نصوص هؤلاء الفلاسفة ـ وكان معظمها لا يزال مخطوطا أو منشورا في لغات غير معهودة للقارئ المغربي آنذاك ـ الألمانية والإنجليزية، فضلا عن الإغريقية واللاتينية ـ  وكان يذكر بحسرة عدم حصوله على بعض جوامع هذه النصوص وتآويلها في كتابات جون بيوني John Burnet (كان ينطق اسمه بلكنة فرنسية) صاحب كتاب: Early Greek Philosophy   الذي كان طبع منذ عام 1892 وأعيد طبعه المرار العدة على مدى عقود من الزمان، وفي كتابات الباحث الفيلولوجي فرانسيس ماكدونالد كورنفوردFrancis Macdonald Cornford، صاحب كتاب                                                                    "Principium Sapientiae: The Origins of Greek Philosophical Thought" الذي صدر بعد وفاته (1943) عام 1952. وكان الأستاذ يأسف على أنه لن يكون مطمئنا إلى قراءته لهذه الفلسفة اللهم إلا بعد اطلاعه على هذين الكتابين، وكان يهيب بنا نحن الطلبة أن نساعده على العثور عليهما وإن أمكن ذلك أن ننقل أجزاء منهما لمن يقتدر على فعل ذلك.  
كل هذا بات يذكّرني، في ما بعد، بالطريقة البديعة التي تم بها إنشاء  كتاب "المباحثات" لابن سينا وتلامذته ـ هذا الكتاب الذي يعد بمثابة ورشة في التفكير، وهو الكتاب المؤلف الجماعي البديع الذي لم يكتب بيدين وإنما بأيدي عدة ـ بحيث شغلت فيه مسألة "الذات" ـ وجودا ومعرفة وقيمة ـ من بين مشاغل أخرى، الشيخ الرئيس وتلامذته، أكثر مما شغلت أي فيلسوف عربي مسلم آخر وأتباعه ـ أكاد أقطع في هذا ولا أستثني. والشاهد على ذلك أنه وأنهم في كتاب "المباحثات" إذا ما أنت تصفحته تجد ابن سينا وتلامذته يتحاورون: هذا يسأل: "بأية قوة نشعر بذواتنا الجزئية؟" وذاك يتساءل: "كيف أعقل ذاتي؟" ورابع يُشْغِب بالسؤال: "وهلَّا بقيت ذاتي هي ذاتي؟" و"ماذا لو هي أُخِذَت مني "أناي"، فبقيت بلا أنا؟" ... وقد تساءل أحد تلامذة ابن سينا: هل تشعر الحيوانات الأخرى‌ - سوى الإنسان- بذواتها، وما البرهان عليه إن كان كذلك؟ وكان جواب الشيخ الرئيس نموذجا لتنسيب الفيلسوف أحكامه: "يُحتاج أن يُفكّر في ذلك، ولعلّها تشعر بذواتها بآلات ... أو لعلّها لا تشعر إلا بما تحسّ وتتخيّل، ولا تشعر بذواتها وقواها ولا أفعال قواها الباطنة - يجب أن يفكّر في هذا". والحقيقة أنني لم أعثر على فيلسوف يبدأ بعبارة يُحتاج أن يُفكّر في ذلك ـ بمشاركة من التلامذة ـ وينتهي بعبارة يجب أن يفكّر في هذا مثل ابن سينا. ومما أجاب به ابن سينا: "أسأل اللّه‌ التوفيق- نحن إذا شعرنا بجملة شعرنا بها كواحد وكمركب من آحاد نحن شاعرون‌ بكل واحد منها من حيث يتميّز عن الآخر، ويجوز أن يكون إنما يتمثّل فينا ذلك الواحد وحده من الجملة بحقيقته - والبواقي غيّب - كما يجوز أن تكون حاضرة ويكون كل واحد منها مشعورا بانفراد طبيعته، بحيث يجوز أن يلحظ مجردا عن قرائنه ـ أي لا يشترط المقارنة، ويشترط اللامقارنة معا ـ (...) أمّا أنه لِمَ صار بعض ما ليس له ذاته يشعر بذاته- شعورا غير عقلي- وبعضه لا يشعر؟ - وطلب السبب فيه - فهو صعب". وعاود الطالب السؤال المعاودة: "قلت: لِمَ صارت الحيوانات الأخر لا تشعر بشعورها بذواتها من حيث الشعور؟"، والقول الذي رجحه أستاذه: "لأن هذا المعنى ـ الشعور بالشعور بالذات ـ يُجَرَّد، فلا يجرده إلا مجَرِّد؛ أي إلا عقل مثل الإنسان". وهكذا، يتكشف أمامنا تقدم الفحص المشترك بين الأستاذ والتلامذة، في إطار بناء معرفة مشتركة، وكأننا أمام ورشة عمل فكرية نادرة من نوعها في تقاليد الفلسفة العربية: "(...) وعندي أني وأنت إذا تأملنا هذا وفكرنا فيه خرج المطلوب، إلا أني لم أخص فيه بالرأي". هي ذي مخاطبة ابن سينا النهائية إلى طلبته. وكانت بعض مخاطبات الأستاذ كمال عبد اللطيف لنا تشبه هذه.
والشيء بالشيء يذكر، فقد تعلَّمنا من الأستاذ كمال عبد اللطيف، ثاني ما تعلمنا منه، ضرورة العناية بالأسلوب، وأن الفلسفة إنما هي قبل كل شيء وحصرا أسلوب: أسلوب بالمعنى البلاغي، وأسلوب بمعنى نمط عيش ... وإني لمدين له بهذا الدرس البليغ.
ثم حدث أن درّسنا الأستاذ كمال عبد اللطيف مادة الفكر العربي المعاصر في السنة الأخيرة من تكويننا ـ سنة الإجازة (1989). وذلك بعد أن كنا قد افتقدنا وجوده ومحاضراته لسنتين. وها هو الأستاذ يؤوب إلينا بعد غياب. وفي هذه المرة انتقل بنا من الفكر اليوناني إلى الفكر العربي، لكن بعدد أقل من الطلبة بعد أن كان قد راح منهم من راح إلى علم الاجتماع، ولاذ منهم من لاذ بعلم النفس، وضل منهم من ضل في الطريق، فتخلى أو تُخُلِّي عنه ... وكنا قد افتقدنا إلى ميل الأستاذ كمال عبد اللطيف في بعض محاضراته إلى تسجيع العبارة التسجيع طورا، وإلى إعمال أسلوب الاتباع والمزاوجة طورا آخر. وأذكر أنه بدأ بعض محاضراته بتقويم عام للفكر العربي المعاص؛ فردد على مسامعنا بنغمته الجهورية الطيبة حيث تتأنق الراء التي كان يلثغها بلثغة فاسية خفيفة لذيذة، متلفظا بقول جلالي مهابي: "إن الفكر العربي المعاصر يتسم بسمتين اثنتين: الهشاشة والهجانة"؛ فكنا عادة ما نتسلى بترديد هذه العبارة، لا متمسخرين منها التمسخر، وإنما معجبين بها في ما بيننا البين، ومتبارين في من يفلح في أن يقلِّد الأستاذ ـ صوتا وإلقاء ـ بأوفى تقليد يكون وأبدعه ...
ذاك كان على عهد الطلب، أما في عهد الزمالة، فقد كنت أجد الأستاذ كمال عبد اللطيف دوما على جديلة واحدة وعلى سمت مسترسل في سائر الندوات التي قيض لنا أن نحضرها سوية: 
كان الرجل نادرا ما يتغيب عن حضور تكريم زميل، اللهم إلا بعد أن أضناه المرض وهدّه (ومتمنياتي له بهذه المناسبة: وفور صحة وطروء سكينة)، وذلك على نحو ما عشت هذا الأمر بمرافقته على الأقل في تكريمين لطيفين: في تكريم المرحوم سالم يفوت بشعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، وفي تكريم المرحوم محمد سبيلا بشعبة الفلسفة بكلية ابن مسيك بالدار البيضاء. فكان الرجل يجمع بذلك بين النظر ـ الانتصار للفكر الفلسفي المغربي ـ والعمل ـ العرفان اتجاه أهل هذا الفكر.
وسمة هي الأخرى كانت قد ميزت الكتابة عنده عن كتابات بعض آخرين من زملائه: فقد كتب هو عن الرعيل الأول من أهل الفكر والفلسفة بالمغرب الحديث ـ شأن محمد عابد الجابري ومحمد عزيز الحبابي وعبد الله العروي وعلي أومليل وغيرهم كثير ـ كما لم يتردد في الكتابة عن الجيل المجايل له ... وكأني بالرجل، مأخوذا على وجه الجملة، المفكر المغربي الذي أوقف أزيد من ثلث مؤلفاته على الفكر الفلسفي المغربي حصرا. أكاد أجزم في هذا. 
كما أتيحت إليّ فرصة التعرُّف عنه في ما بعد، في ندوات بالعالم العربي تكررت فيها اللقاءات (مسقط، بيروت، تونس ..)، وحيثما كان يحل الرجل كان يجد من يتعابث معه بالتعابث الجميل، وأذكر بهذا الصدد جلسة "مفاخرة" جمعت بينه وبين المفكر اللبناني رضوان السيد ذات ندوة بمسقط ذكَّرَتني هي بنقائض جرير والفرزدق، إلا أنها كانت هذه المرة نثرا عربيا ممزوجا باللهجتين اللبنانية والمغربية ... وكانت قد جمعت هي بين الظرف والسخف. وقد تأدت بي إلى تذكر بيت من قصيدة لابن المعتز مطلعها "سقى المطيرة ذات الظل والشجر"، وردده الغزالي في منقذه وجعله مثلا سائرا:
فكان ما كان مما لست أذكره     فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر
وفي الجملة، ثمة أشخاص يعطوك الانطباع بأنك تعرفهم منذ زمان، لا كلفة بينك وبينهم، هم من أصحاب مقام البسط لا من ذوي مقام القبض. يستقبلونك بابتسامة كأنهم خرجوا لتوهم من عرس، على خلاف غيرهم الذين ما أن يلاقوك حتى يشعروك وكأنهم حديثو عهد بمصيبة. والأستاذ كمال عبد اللطيف من الصنف الأول، لا شك عندي في ذلك. 
أكثر من ذلك، لو هي وُزِّعت المقامات بين أهل الفكر من معاصري الأستاذ كمال عبد اللطيف، لكان حظه منها مقام الاعتراف، وأي مقام هو؟! ذلك أن الرجل كان ينبه دوما على فضل المفكرين المغاربة. هكذا كان بعض أنجب أهل الفكر العربي عامة والفكر المغربي خاصة، من الرعيل الأول، لا يرون في هذا الفكر سوى أن أهله من: "الفلاسفة العرب المعاصرين هم جميعا إما انتقائيون أو مجرد أصحاب معلومات تاريخية موسعة" ، ذاهبين إلى أن لسان حال الفلاسفة العرب إنما حقيقته القول: "نحن الفلاسفة العرب: لا ننجو من الانتقائية إلا لنسقط في نزعة وضعية مسطحة" ، وأن: "الباحثين العرب يبالغون في تقدير أهمية فلاسفتنا المزعومين، فكتب هؤلاء الباحثين هي جميعا إما محاضرات مدرسية للطلبة، وإما محاولات أدبية" ، وذلك بما وجد فيه أحد منشئي هذه الفلسفة ـ المرحوم محمد عزيز الحبابي ـ "تحاملا على الفلاسفة العرب، دون استثناء"، وقرأ فيه "حساسية خاصة اتجاههم" ، متمنيا على صاحب هذه "الأحكام السريعة" ـ التي هي على الحقيقة: "فرض أحكام بلا مقدمات، ولا حتى افتراضات" ـ والذي "هكذا، بجرة قلم، وفي تعليق لا يتعدى سطرا واحدا، يصفي الحساب مع كل الفلاسفة العرب المعاصرين من المشرق ومن المغارب"  أن يكون قد تراجع عن مثل هذه "الأحكام السريعة" . كما أن بعض أهل هذا الفكر من الرعيل الثاني كانوا لا يجدون أن في  ما حصل من التراكم ما يسمح بتقويمه، ذاهبين إلى أنه: " "ربما لم يحن الوقت بعد لدراسة الإنتاج الفلسفي عندنا ومتابعة حركته وتقويمه، خصوصا وأن هناك من ينكر حتى وجوده فيعتبر أن ما يروج عندنا من أفكار وما يتداول من كتب لا يعدو أن يكون مؤلفات مدرسية تعليمية مهمتها ترويج ما يصدر في أوربا أو محاولة تأريخ الفلسفة الإسلامية، وأن هذه المحاولات لا ترقى إلى مستوى الفلسفة الغربية، ولا تضاهي الفلسفة الإسلامية أيام عزها ومجدها" . وقد كتب الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي ما كتبه ولم يكن قد حدث من التراكم في الكتابات الفلسفية المغربية ما يكفي، فإلى حدود مطلع الثمانينات ـ وهي السنة التي نشر فيها الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي عمله المذكور (1983) ـ ما كان "رواد الجيل الأول" من الباحثين في مجال الفلسفة قد أصدروا بعض أهم أعمالهم بعد، ولم تكن ملامح "الجيل" الذي تلاه قد تبلورت تبلورها الأبين، وكان "الجيل الثالث" من الباحثين في الفلسفة بالمغرب لا زال آنذاك يطلب دروس الفلسفة في مقاعد الثانوية أو، على أبعد تقدير، في كراسي الجامعة على يد الجيلين الأول والثاني... 
على أننا نجد الأستاذ كمال عبد اللطيف لا يتردد ـ كعادته التي عودنا عليها ـ في الاعتراف بالفضل لأهل الفضل: إذ أنه بعد ذاك التصريح بعقدين من الزمن، فإنه وإن كان أقر كمال عبد اللطيف، في أشمل محاولة ثانية لتقويم الفكر الفلسفي في المغرب، بأن: "زمن الإنتاج الفلسفي المغربي قصير قياسا إلى زمن الفكر وأزمنة تطور تاريخ الفلسفة" ، إلا أنه سرعان ما أضاف: "(...) وإذا كنا نعرف أن الإنتاج الفلسفي المغربي بما فيه إنتاج المؤسسين قد عرف تراكما أكثر خلال العقدين الأخيرين، أدركنا النقلة النوعية الجماعية التي بلورها الفكر الفلسفي في الحقبة المذكورة، والتحولات المرتقبة في كم وكيف هذا الفكر في العقد الأول من القرن الجديد". ولذلك رام كمال عبد اللطيف في كتابه ـ أسئلة الفكر الفلسفي في المغرب (2003) ـ إنجاز ما سماه: "القراءة الأولية ذات الطبيعة الاستطلاعية والعامة لمنتوج النظر الفلسفي في الفكر المغربي المعاصر" . ولقد كان هذا العمل أول أشمل محاولة لتوصيف وتقويم المحصلة العامة للإنتاج الفلسفي المغربي على مدار أربعة عقود من الزمان ونيف، من منتصف الخمسينات إلى أواخر التسعينات ... وفي كتابه هذا، يذكر كمال عبد اللطيف أن: "النصوص الفلسفية التي كتبت ونشرت في العقدين المنصرمين، والنصوص التي ما زالت تكتب إلى يومنا هذا تعكس حيوية نظرية ملحوظة في الفكر الفلسفي المغربي تحتاج إلى العناية والاهتمام، وذلك بالمساهمة في ترتيب أسئلتها ومجالات بحثها بهدف إبراز القدرات الجديدة التي تتمتع بها هذه النصوص في خضم المعارك الفكرية القديمة والجديدة القائمة في مجال الفكر المغربي المعاصر" . وهو يستقصي في هذا الكتاب أهم القضايا الفلسفية التي ناقشها جيلان من أجيال التفكير الفلسفي بالمغرب: "جيل المؤسسين" الأول، ثم "الجيل الثاني". ويقف عند منجزات كل جيل جيل، كليا ومن خلال دراسات قطاعية، ويبدي بعض الملاحظات النقدية. ويستشرف ما يسميه "مستقبل الفكر الفلسفي بالمغرب" ... 
وهكذا، كتب الأستاذ كمال عبد اللطيف طائفة من الكتب معرّفا بالفكر المغربي ومقوما له مبتعدا عن كل مديح للذات أو جلد لها. وكما أنه يوجدdes passeurs d’hommes  بين البلدان، فإن جزءا معتبرا من تَعَرُّفِ بلدان المشرق العربي على الفكر الفلسفي بالمغرب يعود الفضل فيه إلى الأستاذ كمال عبد اللطيف، بحسبانه un passeur d’idées . ولو أن الرجل أنجز فقط هذه المهمة ـ وقد أنجز أكثر من هذا حيث انصبت اهتماماته على مجالات من الفكر السياسي والفلسفي شتى ـ لاستحق بها أكثر من تكريم."