عبد السلام بنعبد العالي: الفكر العربي درسا فلسفيا

عبد السلام بنعبد العالي: الفكر العربي درسا فلسفيا كمال عبد اللطيف وعبد السلام بنعبد العالي (يسارا)

نظمت شعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط بتعاون مع مركز روافد للدراسات و الأبحاث في حضارة المغرب و تراث المتوسط " و مؤسسة فهارس لخدمات الكتاب ، ندوة تكريمية للأستاذ كمال عبد اللطيف ، و ذلك يوم الأربعاء 14 ماي بمدرج الشريف الإدريسي قدمت خلالها العديد من المداخلات و الشهادات تضمنها كتاب جماعي  بعنوان :" التنوير أفقا "  قدم له محمد نورالدين أفاية . تنشر " أنفاس بريس " مساهمة  عبدالسلام بنعبد العالي التي أختار لها كعنوان : " الفكر العربي درسا فلسفيا " .

                                                  

"حينما كان معهد الدراسات التاريخية قد عزم على وضع كتاب في تاريخ المغرب، طلب مني مديره، الأستاذ محمد القبلي، أن أساهم في تحرير الجزء الخاص بالثقافة المغربية بعد الاستقلال. خلال إنجاز تلك المساهمة، لمست عن قرب الدّور الهام الذي لعبته هذه الكلية، بجميع أقسامها، في تأسيس ثقافة متجددة في بلدنا. كان يكفي الوقوف عند بعض الأطروحات التي شهدت هذه القاعة التي تضمنا الآن مرافعاتِها، سواء في التاريخ أو الأنتربولوجيا، أو الفلسفة أو الأدب، بقسميه العربي والفرنسي، لإدراك الأهمية التي كانت لهذه الكلية في الشأن الثقافي. لا أقصد أساسا الكمّ الوافر من الأطروحات الجادة التي راكمتها، ولا عدد الأطر والباحثين الذين تخرجوا منها، وإنّما أشير إلى الانعراج المنهجي الذي اتسم به كثير تلك الأطروحات. ففي ميدان التاريخ على سبيل المثال، وأنا أتوقف عند نموذج قسم التاريخ بالضبط، لأن هذا القسم يعكس بشكل جلي الدور المهم الذي لعبه جيل بكامله من الأساتذة لإرساء أسس هذه المؤسسة، كل في مجال تخصصه. ذلك أن هذا القسم ما كان له أن يبقى في صيغته العربية لولا نضال الأساتذة وتضحياتهم. ففي مستهل الستينيات، دعا العميد م. ع. الحبابي أستاذين كانا مبرزين في اللغة العربية وآدابها، وليس في تخصص التاريخ (وقد عرفت شخصيا أحدهما أستاذا في الترجمة سنة 63-64)، وخيّرهما بين إقفال القسم العربي من شعبة التاريخ، وبين أن يضحيا من أجل إنقاذه، ويتطوعا لتدريس مواده. فكان الأمر كذلك، وخيراً فعلا لأن هذا القسم سيعرف، فيما بعد، أبحاثا أحدثت تحولا عميقا في موضوعات البحث التاريخي ومنهجه، ويكفي أن نذكر هنا أطروحة أمين البزاز في المسألة الصحية بالمغرب، وأطروحات مزين وأحمد التوفيق وعبد الأحد السبتي وعمر أفا والقائمة طويلة. وهي أطروحات فتحت الدراسة التاريخية عندنا على البعد الاجتماعي والاقتصادي، كما ساهمت في تأريخ ما كان يهمله التاريخ. باستطاعتنا أن نثبت الأمر نفسه في ميدان علم الاجتماع، والأدب بقسميه، وكذا الفلسفة. هذا التحوّل المنهجي والكيفي هو الذي سيتمخض عنه ما عرف في وقت ما بالإشعاع المغربي.

 

عندما طلب مني الإخوة أن أقدم شهادتي احتفاء بالأخ كمال، تساءلت: أيّ تحوّل كيفي ساهم به هو بدوره في هذه الوثبة المنهجية التي عرفتها كليتنا. إجابةً عن هذا السؤال ربما لا مفر من الرجوع بالذاكرة إلى الوراء كي نرصد تاريخ عهده هو بهذه الكلية وعهدي أنا به. لذا سأعود بكم إلى أواسط الستينيات. أعترف أن هذه البداية مجرد بداية مفترضة. إذ إنني في الحقيقة عاجز عن ضبط أوّل لقاء كان لي بكمال. وهذا الأمر يحدث مع ثلة من المعارف الذين يتعذر تحديد تاريخ التعرّف عليهم، والذين يوحون إليك أنك كنت دائما على معرفة بهم. كمال من هذه الطينة. والبداية المفترضة استخلصتها استخلاصا من ارتباطها مع حياتنا الجامعية طلبةً وأساتذة.

 

ننتمي، كمال وأنا، إلى ذلك الجيل الذي دخل كلية الآداب بالرباط طالبا بداية الستينيات، ومدرّسا أواسط السبعينيات، مع فروق بسيطة في عدد السنوات بطبيعة الحال، حتى نرضي كمال الذي كان يتشبث بأن يظلّ دائما لا أقول أصغرنا سنّا، وإنما الأصغر بإطلاق، اللهم إن كان قد عدل عن ذلك بعد أن بلغنا معا السن التي تتساوى فيها الأعمار.

 

كمال، كما أعرفه يتأفف من كل أشكال الاحتفاء والمدح والتكريم. لذا سأعفيه وسأعفي نفسي من ذكر خصاله غير القليلة. غير أنني لا أجد مفرا، على رغم ذلك، من الإشارة إلى إحداها، ربما لأنها غدت تعدّ من الخصال، ومن الخصال النادرة في عصرنا، وأعني إقباله القوي على الحياة: إقباله على العمل، على المعرفة وعلى الآخرين، ذلك الإقبال الذي يتجلى في الابتسامة التي لا تفارقه، وفي شغفه الذي لا يكل بمتابعة ما استجد في مجال الفلسفة والأدب (كمال من أساتذة الفلسفة النادرين الذين يتابعون الإبداع الأدبي)، وفي مثابرته الدؤوبة على الكتابة والإنتاج، وفي قدرته الجبارة على خدمة الآخرين والتفاني في إسداء المعروف إليهم.

 

كمال طاقة حيوية نادرة. الأمر الذي جعله دائما قريبا من كثيرين، ضاما إلى جنبه أصدقاء قد يتعذر على آخرين التأليف بينهم. كل ذلك بعيدا عن تصيّد مصلحة أو استهداف أغراض. لست أدري ما إذا كان هذا الوضع يعد اليوم فضيلة، إلا أن كمال لا أعداء له. وهو يذكرني في ذلك بالمرحوم أحمد السطاتي. وربما يتجلى هذا أكثر ما يتجلى في علاقته بالسياسي، ولا أقول بالسياسة التي لا تكون من غير خصوم. استطاع كمال أن يشارك الطلبة نضالاتهم، والأساتذة تضحياتهم، والكتّاب أنشطتهم من غير خوض معارك ولا مجابهة خصوم. فكأنما تمكّن دائما أن ينضوي من غير انضواء. وكثيرا ما كان يعبّر لي عن ذلك بنوع من السخرية قائلا: «نحن يساريون بصفة مطلقة».

 

  عندما ولجنا الكلية كانت ما تزال فتية تصارع في جبهات متعددة لتؤكد وجهها المغربي تأطيرا وبرمجةً ودراسات. وقد عشنا، نحن جيلَ الستينيات، لا أقول أشكالا من الانفصام، وإنّما أشكالا من الازدواجيات، وضروبا من التشتت، وأنواعا من التقسيمات. لا أشير فحسب إلى توزّعنا بين عدة مجالات، وتلقيَنا الدروس عن أساتذة تطوّعوا لتدريس ما لا يهتمون به في تخصّصاتهم إن صحّ الحديث وقتها عن تخصّصات، وتوزّعنا نحن فيما بعد بين اهتمامات ومجالات شتى مشتّتة، لا أشير إلى كل هذا فحسب، وإنّما أساسا إلى ذلك التقسيم الذي ترسّخ في قسم الفلسفة بين فكر فلسفي من جهة، وفكر إسلامي، ثم فكر عربي معاصر.

 

لا يتعلق الأمر هنا بتخصّصات يبرّرها توزيع مواد التّدريس والدراسة، كأن يُقسّم تدريس الفلسفة إلى منطق وفلسفة عامة ثم فكر إسلامي وفكر عربي... بل بقارات فكرية متمايزة بعضها عن بعض، مماثلة إلى حد ما لما كان يعرفه برنامج الدراسات في فرنسا من تمييز بين تاريخ للفلسفة وما كان يُسمّى "تاريخ الأفكار"، ذلك التاريخ الذي كان يشمل أولئك الكتّاب الذين لم يكونوا وقتها يجدون لهم مكانا ملائما لا ضمن تاريخ الأدب ولا ضمن تاريخ الفلسفة، والذين كانوا يُعدّون، حتى وقت قريب، في منزلة بين-بين، شأن مونتيني وباسكال وفولتير وروسو، والذين انتظروا مدة غير قصيرة كي يوليهم الفلاسفة عنايتهم شأن مونتيسكيو مع ألتوسير، وروسو مع دريدا، وباسكال مع غولدمان وبورديو.

 

ربما لم نكن لنجد هذا التّصالح نفسه عندنا بين الفلسفة وما يصنّف فكرا عربيا. ويبدو أن ذلك الفصل الذي ترسّخ بين تلك القارات الفكرية التي أشرت إليها ظل قائما لمدة غير قصيرة، وعند معظم الدارسين والمدرسين. ربما يرجع ذلك إلى كون الانتقال من حقل فكري إلى آخر لم يكن يعني فحسب تغيير موضوع الاهتمام، وإنما الانتقال من طريقة في التفكير إلى أخرى، طريقة في طرح الأسئلة إلى أخرى، طريقة في التعامل مع التاريخ إلى أخرى. فبينما كان الباحث في حقل الفلسفة يسمح لنفسه بأن يحلل ويراجع وينتقد وينتج الأسئلة ويولّد المفهومات، كان في الحقول الأخرى غالبا ما يتحول إلى مجرد مؤرخ يرصد التيارات، ويثبت الاتجاهات، بل ويتوقف أكثر مما ينبغي عند الوقائع التاريخية. نموذجه الأساس كُتُب الفرق التي كان همّها دوما وضع تصنيفات تُدرج المفكرَ ضمن خانة من الخانات.

 

كانت نادرة تلك المحاولات التي سعت أن تعيد النظر في هذه التقسيمات وأن تحطّم الجدران الوهمية التي تفصل بين أطرافها وتَمُد الجسور الواصلة بينها، أشير هنا إلى ما حاول بعض أساتذتنا أن يقوموا به كعلي أومليل في كتابه في السلطة الثقافية والسلطة السياسية وعبد الله العروي في بعض تآليفه وخصوصا مفهوم العقل.

 

وربما لن أبالغ إذا قلت إنّ أهم إسهامات العزيز كمال في نظري تدخل هي كذلك في هذا الباب، وهذا هو إسهامه الكيفي، فهو لم ينفك عن بذل مجهود كبير، سواء في حلقات دروسه أو في مختلف كتاباته، انطلاقا من رسالته لنيل دبلوم الدراسات العليا حول سلامة موسى سنة 1980 في أن يفتح الفكر العربي المعاصر على الدرس الفلسفي، ويعيد النظر في مفهوماته خصوصا ما يتعلق منها بالفلسفة السياسية، مبيّنا أنّ درس الفكر العربي هو، أولا وقبل كل شيء، درس فلسفي منفتح ضمنا أو صراحة على مصادر الفكر الغربي، وأن تناوله بالتالي ينبغي أن يتحرّر من المركزية التراثية، ومن الهوس التأريخي، والانضواء الأيديولوجي، والهمّ الهوياتي Le souci identitaire كي يُسائل نصوص الفكر العربي المعاصر معتمدا منهجا مقارنا يسمح بالانفتاح على نصوص الفكر السياسي الكلاسيكي انطلاقا من فلاسفة اليونان ووصولا إلى كبار المفكرين المحدثين، همّه في ذلك ألا يكتفي برصد التيارات، وتعقّب الاتجاهات، وتصنيف المواقف، وإنّما أن يولّد الأسئلة، ويفكك الثنائيات، وينتج المفهومات، غايته من كل ذلك هي أن يجعل تدريس الفكر العربي درسا فلسفيا بلا منازع".