إدريس قصوري: أزمة الصحافة بالمغرب هي أزمة تنظيم ذاتي مفقود

إدريس قصوري: أزمة الصحافة بالمغرب هي أزمة تنظيم ذاتي مفقود إدريس قصوري
تقديم:
إن الواقع المأزوم الذي عاشته وتعيشه الصحافة المغربية اليوم ناتج عن عطب وخلل تنظيمي في إدارة الإدارة. ذلك، أن المؤسسات الصحفية المغربية لم تخطط في الوقت المناسب لتطوير ذاتها عبر إعادة هيكلة مؤسساتية تواكب تحولات القطاع الجارفة. وظلت عاجزة ومنكفئة على نفسها في ظرف وبيئة دولية كان يجرفها تيار قوي نحو التغيير من الورقي إلى الرقمي في ثورة تكنولوجيا وضعت وسائل التواصل الاجتماعي في قمة التداول الإعلامي.
 
فالإدارة الصحفية لم تجدد هياكلها وفق قواعد الحكامة التنظيمية على مستويات: إدارة الإدارة وإدارة المهمة وإدارة العلاقات وإدارة البيئة والتي تعتبر الركائز الأساسية لضمان الفاعلية الذاتية للتنظيم المؤسساتي للصحيفة. فقد أضاعت الصحافة المغربية فرصة استمرار القيام بواجبها بفعالية واستقلالية ومهنية وتأمين حقوق الصحفيين والالتزام بالمعايير الأخلاقية وحقوق المتلقي والمجتمع.
 
ففقدان المبادرة في تطوير التنظيم الذاتي للصحيفة وعدم هيكلتها فوت على المؤسسات الصحفية والإعلامية فرصة تغيير وتحول علمية نسقية للعلاقة التنظيمية بين مختلف مكونات المؤسسة. حيث، أضاع المسؤولون الإمكانات التدبيرية الاستراتيجية لوضع سياسات وبرامج ومشاريع لإدارة البيئة وتجديدها وللتفاعل الفعال مع البيئة الخارجية والبقاء في خط التنافس المنتج وغاب منطق استغلال فرص التكيف المبدع وتحسين الأداء وتخفيض التكلفة والتحكم في كل المشاكل التي واجهتها المؤسسة على جميع المستويات التقنية والمالية والتنظيمية والبشرية ولا فرق في ذلك بين الحزبي والخاص.
 
ولعل مسؤولية الدولة والحكومات ووزارات الاتصال قائمة في عدم اكتراثها بالأزمة وفي عدم اهتمامها باستباق التغيير ومجاراته ودعم التحول من أجل تأمين أساسيات أداء الإعلام لواجبه الوطني بفعالية وبكفاءة وحكامة وشفافية. ومن أجل تأمين الاستدامة المهنية للمؤسسات الصحفية ومواكبة ضغوط تحولات صناعة الصحف المكلفة، دوليا ووطنيا، ومن أجل تأمين استمرار تواصل وتداول الأجيال والخلفيات الأخلاقية للمهنة عوض القطيعة القاتلة اليوم.
 
فالدولة وحكوماتها ووزاراتها المتعاقبة والمتباينة بكل أطيافها تتحمل مسؤولية عدم تحديث البنيات التحتية الأساسية والاستراتيجية للمؤسسة الصحفية.
 
وحتى اليوم لا يوجد في قوانين الصحافة والإعلام ما يعبر بشكل كاف عن وجود إرادة سياسية رسمية شاملة للنهوض بهذا القطاع عوض تركه يئن تحت عدم القدرة على منافسة شبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية وجشع بوز الدخلاء والمتطفلين والتافهين وعديمي الأخلاق والقيم من كل صنف على حساب الإرث الصحفي المهني السليم حتى انحسرت الصحف كليا تحت ضغط المنافسة العبثية الهدامة والأزمة المالية الخانقة وخاصة بعد أزمة كورونا.
 
فالنصوص القانونية الحالية ومشاريع الهيكلة المستقبلية تؤكد أن تصور الإصلاح لا يزال رهين آليات واعتبارات الدعم القديمة وبلا شفافية وبلا معايير تقييم مهني يخضع لأساسيات المهنة وأخلاقياتها ولاعتبارات التجديد والجودة والتطوير الفني والتقني وتخطيط الاستراتيجيات.
 
وتعد مجالات وتجليات الوضع المقلق لانحسار الصحف بالمغرب كثيرة ومنوعة. ومن مقاربة مدخل ومنهجية القيم التنظيمية، تتمثل الأعطاب فيما يلي:
مجالات وتجليات الأزمة: تعد مجالات وتجليات الوضع المقلق لانحسار الصحف كثيرة ومتنوعة تتمثل في:
إدارة الإدارة: تمثل المسؤولية الأساسية.
من حيث القوة: فإن المؤسسات الصحفية ظلت لعقود من الزمن تدار بعقلية الإدارة القديمة وعقيدة المدير التقليدي وليس الإدارة المفتوحة والملهمة. حيث، طغت عليها المركزية الفردية والبيروقراطية والرقابة بدون مبرر حرمت المؤسسة الصحفية من إدارة ذات رؤية تدبيرية عصرية صحيحة وسليمة. فطغت الصلاحيات على المسؤوليات والضبط والتغيير الإيجابي.
من حيث النخبة: لم تعط المؤسسات الصحفية بعض أطرها المهنية العاملة والفاعلة التقدير في المسؤولية، فدفعتها للمغادرة أو تركتها لحالها تئن في صمت متأسفة على سنوات العمر الضائعة.
من حيث المكافأة: تُغيب الصحف كل أشكال المكافأة والتحفيز المادي والمهني وتأمين التقاعد المنصف وعدم التفكير في صناديق الدعم المهني والصحي والاجتماعي.
إدارة المهمة: وتتمثل في:
من حيث الفعالية: لم تجدد المؤسسات الصحفية هياكلها وبنياتها التحتية وآلاتها وأدواتها. وطغى عليها سوء توظيف واستعمال الموارد البشرية وعدم القدرة والخبرة في استثمار الإمكانات المتوفرة مثل المطابع بل ظلت تراكم خسائر كبيرة في الإصدارات والمبيعات وتغرق في الديون والقروض.
من حيث الكفاية: لم تواكب المؤسسات الصحفية دعم وتطوير وتحسين المحتوى والإخراج الفني نتيجة تغير نمط القراءة وجيل القراء؛ خاصة مع تشابه المعلومات وتناغم الأخبار وتنميط طرق تقديم المحتوى نتيجة عدم المعرفة بتموجات اهتمامات الجمهور. إذ، ظل العائد ضعيفا أمام ارتفاع تكلفة المداخيل وانحسار الإعلانات وعدم كفاية الدعم وتنوع مصادر التمويل لمسايرة مداخل التغيير الاستراتيجي الشامل.
وقد استغرقت الصحف في تناول كل ما هو رسمي دعما أو مسايرة أو نقدا أكثر من الاهتمام بروح الحاجات الفعلية والمستجدة للجماهير وتعويض ذلك بالخوض في مساجلات إيديولوجية غير مفيدة أو السقوط في نمط دفوعات التبرير غير الحميدة.
من حيث الاقتصاد: انخفضت مداخيل المؤسسات الصحفية إلى أقصى مستوياتها بفعل توالي واستمرار الأزمات المالية العالمية والتضخم والنقل واللوجستيك وكل مداخل الطباعة وتكاليف النشر والإنتاج والتوزيع وتراجع الدعم بـمحسوبية وعدم شفافية الإعلانات في حقيقتها وفي توازنها حتى فقدت المؤسسات توازنها باطراد العجز في ميزانياتها. وقد تزامن العجز المالي بفقدان الإدارة المركزية رؤية الاجتهاد في تنويع وتوسيع الاستثمار والتي لم تفلح جميع الحكومات في إغناء مصادرها وتوسيعها.
إدارة العلاقات: إن علاقات النسق الصحفي والإعلامي أفقيا وعموديا مشوبة باختلالات غياب العدالة والقانون في التعامل مع جميع الفاعلين والمكونات بحيث يسجل عدم عدالة الأجور بين الرسمي والحزبي وبين الخاص، وخاصة جمود أجور الصحفيين المهنيين المتخصصين والفاعلين. وقد تضاعف الجور وأثر على المنافسة بدفع جهات غير حكومية وحكومية ومؤسسات خاصة لاعتبارات سياسية لأجور مؤسسات صحفية وإعلامية بشكل منتظم، مما أنتج اختلالات في المنافسة وفي النهوض بالالتزامات سواء تعلق الأمر بالأجور أو بمستلزمات الإنتاج.
وقد ترسخ عدم الانصاف في ازدواجية بين جمود أجور الصحفيين المهنيين المتخصصين والفاعلين وبين التوظيفات الحزبية وعطاءات الزمالة الفكرية والمحاباة السياسية المبالغ فيها لأسماء بعينها.
وقد أثبت الزمن عدم شفافية وحكامة جشع استغلال المساهمين وأعضاء مجالس المؤسسات لريع سنوات الوفرة.
إدارة البيئة: أكدت التحولات العميقة في المنظومة الصحفية والإعلامية بالمغرب أن الإدارة المركزية العليا للدولة وللحكومات وللمؤسسات الصحفية والإعلامية لم تكثرت بإدخال التحديث وبالتغيير كاستراتيجية وكأولوية.
من حيث الدفاع: فقدت المؤسسات الصحفية بسرعة هويتها التاريخية أو ميزتها المكتسبة. وفقدت معها علاماتها الصحفية وقراءها نظرا لتراجع المصداقية بفقدان التوازن بين الدور السياسي والحكومي والإعلامي وتغليب الواجب الوطني على الأداء المهني (الجزيرة ولوموند لم تقعا في هذا الفخ).
من حيث المنافسة: لم تستطع الصحف أن توجد لنفسها ميزات تنافسية مؤثرة جديدة. ونتيجة لذلك، انقرضت الاشتراكات وتراجع التوزيع بفعل منافسة المواقع والمنابر الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهواتف الذكية. بيد، أن الميزة التنافسية قد تضررت كثيرا كذلك بهجرة الأطر المهنية الناضجة والفاعلة نحو صحف أخرى ومواقع جديدة. ولعل تشتت اهتمامات الحزبيين وتحول اهتماماتهم نحو مواقع ومنافع حكومية أو استثمارات أخرى لا سيما بعد سنوات التناوب قد ساهم كثيرا في هذه الاختلالات.
من حيث إدارة البيئة: إن غياب إدارة مهنية مسؤولة وذات خبرة بالأوضاع الاقتصادية والبيئية والجمهور وتقييم الأداء وتقويمه وتحسينه بل والانغلاق على النمط التحريري والإنتاج القديم قد أغفل الاهتمام برفع جودة المنتوج وكفاءته، فغابت تنافسية الصحف الرقمية أمام تزايد مطرد للمشاريع الصحفية والإعلامية المنافسة. وقد تضاعف الخلل بعدم اكتراث المؤسسات الصحفية بتطوير الموارد البشرية والإدارية.
وإذا كانت بعض الصحف الخاصة قد استطاعت تحمل بعض ضغوط الصدمة والأزمة والتكيف النسبي والجزئي مع الصحافة الرقمية والحفاظ على هويتها وميزتها، بفعل تنظيمها الذاتي المرن، فإن الصحف الحزبية ظلت تئن تحت رياح التغيير الجارفة. وذلك بـ:
فقدان الصحف الحزبية لاستقلاليتها وحريتها وتحول خطابها نحو تبييض السياسات الرسمية في سنوات حاسمة في التحول وهي سنوات التناوب عوض تجديد خطابها ونمط تحريرها بحسب الهويات الجديدة للجمهور؛ مما دفع الجمهور للانتقال إلى الصحافة الخاصة ثم إلى شبكات التواصل الاجتماعي.
تقلبات هوية وميزة الصحيفة بتقلبات المواقع والأدوار السياسية للحزب وللمدراء السياسيين والإعلاميين واصطفافات النخبة الحزبية.
عدم الإيمان بضرورة التغيير والتعجيل بالإصلاح المهني والتضحية بالإعلامي لصالح السياسي الذي انسحب أو تفرغ لمهام رسمية وعليا وترك الإعلام.
السقوط في ازدواجية العقلية المناضلة التطوعية أو الربح الحزبي، بحيث لم يتم تنظيم المؤسسة الصحفية وفق قواعد العمل بالأهداف والشفافية والمحاسبة والمسؤولية وأداء الواجب الوطني والرسالة المهنية بحرية واستقلالية ومهنية واحترافية وفعالية وذمة مالية مستقلة وموارد مالية متنوعة وقارة.
بيد، أن الكثير من الجرائد ظلت تطالب الدولة والجهات الرسمية بالدمقرطة والتحديث والإصلاح وهي غارقة في هيكلة قديمة متجاوزة أصبحت مضرة بالمؤسسة الصحفية تكلفة وأداء وتنظيما ووجودا.
وقد مر عدة مسؤولين صحفيين من مواقع المسؤولية دون أن يكون لهم أثر استراتيجي واضح على تغيير المهنة والتأثير في تحديثها وتأمين مستقبل وتضحيات مواردها البشرية.
على سبيل الختم: يبقى أمل الإنقاذ بيد مصداقية الهياكل الصحفية الوطنية والنقابية المهنية كقوة وقوى تشاركية للتغيير والتحديث الشامل وليس كقنوات للتسيير العادي أو أدوات للضبط ونشر البيانات وعقد المحاكمات.
 
إدريس قصوري/ أستاذ جامعي ومحلل سياسي