في خطوة مثيرة للجدل، أعلن وزير العدل عبد اللطيف وهبي، في سياق حديثه عن مستجدات مشروع القانون الجنائي المنتظر الذي ما زال يخضع لنقاش داخلي دام نحو سنتين دون الحسم النهائي فيه، عن نية الحكومة دراسة مشروع قانون يُحمّل الآباء المسؤولية الجنائية أو المالية عن أفعال أبنائهم القاصرين، لا سيما في حالات حمل السلاح الأبيض أو ارتكاب أعمال عنف في الأماكن العامة. كما تحدث عن إمكانية تحميل المسؤولية أيضاً للمدرّسين في حال ارتكب التلميذ فعلاً جرمياً بعد خروجه من المؤسسة التعليمية، مؤكداً الحاجة إلى قانون جنائي جديد يكرّس مبدأ المساءلة القانونية للأولياء، ويعتمد على غرامات وإجراءات واضحة لإعادة ترسيخ دور الأسرة في تربية القاصرين.
وبحسب ما تم تسريبه حتى الآن، كما كشفت مجموعة من التقارير، ينص المشروع، الذي لا يزال قيد الدراسة والتشكل داخل وزارة العدل دون إعلان عن تفاصيله النهائية أو تاريخ إحالته إلى البرلمان، على إمكانية تغريم أولياء الأمور بمبالغ قد تصل إلى 100 مليون سنتيم، في حال تورط أبنائهم في سلوكيات إجرامية. وتبرر وزارة العدل هذا التوجه بضرورة تعزيز الرقابة الأسرية وردع التفكك القيمي داخل المجتمع، في ظل تزايد الجرائم المرتكبة من قبل أطفال قاصرين، وفق ما ذكره وزير العدل الذي اختزل الإشكال الاجتماعي والتربوي في دور الأسرة.
تحميل الآباء مسؤولية أفعال أبنائهم قد يبدو حلاً سهلًا ومباشرًا، بل هروبا إلى الأمام، لكنه يخفي خلفه أزمة أعمق ترجمها غياب سياسات عمومية فعالة تدمج الشباب، وتؤطرهم، وتوفر لهم البدائل التربوية والاجتماعية التي بوسعها أن تقلص من رقعة الإجرام والانحراف والعنف. وهو ما يطرح السؤال التالي: هل يضعنا «قانون وهبي»، الذي قال عنه الوزير: «النص لا بد أن يعكس قناعاتي»، أمام إصلاح حقيقي أم هو مجرد قناع قانوني وتجاوز دستوري لاستقالة الدولة من أدوارها ومسؤولياتها الأساسية؟ بأي منطق عقلاني وحقوقي يتحمل الآباء مسؤولية انحراف أبنائهم؟ ألا يعني ذلك أن المغاربة متهمون بتحريض أبنائهم على الإجرام إلى أن يثبت العكس؟ هل قدر الآباء، في حالة المصادقة على هذا المشروع، أن يتركوا أشغالهم وقوت يومهم ويسيحوا في الأرض لمرافقة أبنائهم في كل الاتجاهات؟ هل معنى ذلك أن الوظيفة الجديدة للآباء في المغرب هي حراسة الأبناء وفض النزاعات بينهم، وزجرهم وتكبيلهم وإغلاق البيوت عليهم، حتى يتمكن الجميع من النجاة من عقاب الوزير؟
لقد أعرب العديد من المراقبين أن مشروع هذا القانون الذي تحدث عنه وهبي يعكس توجها عقابيا يعفي الدولة من دورها، ويبطل المسؤولية عن سياساتها الاجتماعية، بل يتنافى مع القاعدة الدستورية التي تُحمّل الفرد وحده مسؤولية أفعاله، ذلك أن هذا المشروع، إذا أُقر بصيغته الحالية، سيخترق مبدأ العدالة الجنائية، ويخلق نوعًا من العقاب الجماعي. وتساءل هؤلاء:
هل تسعى الدولة من خلال هذا المشروع إلى نقل عبء الوقاية من الجريمة إلى الأسرة، وخاصة الأسر الفقيرة والمهمشة؟ هل انتقلت مسؤولية الدولة من «القضاء على الفقر» إلى «القضاء على الفقراء»؟
هل يمكن أن يؤدي هذا التوجه العقابي إلى مزيد من الضغط النفسي والاقتصادي على العائلات؟ وألن يتحول هذا القانون إلى سكاكين ابتزاز على رقاب الآباء من قبل القاصرين المنحرفين، ما دامت مسؤولية ردع السلوك الإجرامي للطفل القاصر رميت إلى الأب أو الولي؟
ما البديل الحقيقي لتعزيز الانضباط الاجتماعي دون المساس بالحقوق الأساسية؟ وما هو دور المجالس المختصة في كبح جماع مشاريع القوانين التمييزية وغير الدستورية؟
ويرى هؤلاء أن تحميل الآباء المسؤولية الجنائية عن أفعال القاصرين يخالف منطق العدالة، وقد يؤدي إلى نتائج عكسية، أهمها الضغط النفسي والاجتماعي على العائلات، خاصة تلك التي تعاني أصلاً من الفقر والهشاشة. كما يرون أن هذا المشروع يصطدم بجوهر القوانين الجنائية؛ ذلك أن «المسؤولية الجنائية شخصية»، ولا يمكن إطلاقا معاقبة شخص على فعل لم يرتكبه. وإذا كان هناك تقصير في التربية، فذلك شأن اجتماعي وتربوي، لا يُعالج بالغرامات أو العقوبات.
ومع ذلك، يطرح هذا المشروع سؤالًا جوهريًا: من يتحمل فعليًا مسؤولية تقويم السلوك والانحراف لدى القاصرين؟ وهل تملك الدولة رفاهية التنصل من أدوارها التربوية والاجتماعية، فقط لأنها عاجزة عن مواكبة تحولات المجتمع؟
هل من السهل على الوزير والحكومة ومؤسسات الدولة والمجالس الاجتماعية والحقوقية والقضائية إلقاء اللوم على الأب أو الأم، وتبرئة مؤسسات التنشئة الاجتماعية وتمتيع الدولة بصك البراءة وكفى الله المؤمنين شر القتال؟ ألا يعبر هذا المشروع عن استقالة الدولة؟ وما الحاجة إلى الدولة إذا كان الآباء هم الذين سيتكلفون بالأمن العام، وهم الذين سيقومون بالردع والمراقبة؟ ومن المسؤول المباشر عن ابتكار الحلول الاجتماعية والتأطير الاجتماعي، خاصة أن ظاهرة إجرام القاصرين (تشكل جرائم العنف حوالي 15% من مجمل حالات اعتقال القاصرين في المدن الكبرى خلال السنوات الثلاث الماضية) مرتبطة أساسًا بسياقات اجتماعية مركبة: البطالة، الهدر المدرسي، التفكك الأسري، وضعف البنيات الترفيهية والثقافية؟
لقد صرح وزير العدل «إذا لم يُربِّ الأبوان أبناءهما، فمن سيربّيهم؟ لا يمكن للدولة أن تضع شرطيًا خلف كل طفل». وبالمثل يرد عليه مراقبون: «هل يمكن منطقيا وحسابيا واجتماعيا أن تضع الدولة أبا أو وليا خلف كل طفل؟ هل هكذا يفهم الوزير الأمن ويختزله في الشرطة وأدوات الردع؟ أين هو دور الدولة في إنتاج بيئة حاضنة وآمنة للأطفال، قبل أن تفرض على أوليائهم غرامات مالية قد تعجز بعض العائلات عن تحمّلها؟».
صحيح أن القانون في فرنسا، مثلًا، ينص القانون على إمكانية مساءلة الآباء مدنيًا - لا جنائيًا - عن أضرار يرتكبها أبناؤهم القاصرون، لكن الدولة توفر في المقابل برامج واسعة للرعاية الاجتماعية، والمرافقة النفسية، والتعليم الإجباري. وفي كندا، يتم التركيز على «الإصلاح التربوي»، وليس «العقاب المادي». ولهذا، فالسؤال المطروح هو: كيف تسعى الحكومة، بإلحاح من الوزير وهبي، إلى التنصل من مسؤوليتها في التأطير والمرافقة وتأمين الفضاء العام إلى محاسبة من لا يملك أصلاً الأدوات للقيام بذلك (الآباء)؟
إن هذا المشروع المثير للجدل لن يساهم في تعزيز الرقابة الأبوية للأبناء القاصرين باي شكل من الأشكال، بل سيؤدي إلى مزيد من التوتر الاجتماعي والاصطدام بين الآباء والأبناء في الأسر الفقيرة والمهمشة، خاصة أن الجزء الأهم من القصة هو النشوة العميقة التي سيشعر بها «راعي هذا المشروع» بإلقاء اللوم على هذه الأسر، وتحميلها مسؤولية فشل «السياسات العمومية» الدامجة والمؤطرة للقاصرين، والحال أن تأطير الشباب اختبار صعب لبناء الإنسان المغربي الذي سنراهن عليه لبناء المستقبل.
تفاصيل أوفى تجدونها تجدونها في العدد الجديد "الوطن الآن "