عبد الواحد الفقيهي: القصعة الطينية.. ذاكرة الأرض والروح

عبد الواحد الفقيهي: القصعة الطينية..  ذاكرة الأرض والروح الكسكس المغربي
في زاوية معتمة من المطبخ التقليدي، تقف القصعة الطينية، ساكنة وصامتة، لكنها مفعمة بالحنين والحياة. ليست مجرد إناء، بل هي ذاكرة الأرض وقدرتها العجيبة على منح الحياة للأشياء البسيطة. من طين خام أخذت شكلها، ومن النار استمدت قوتها، لكنها ظلت تحتفظ بروح الأرض في مساماتها الخفية.

القصعة الطينية ليست مجرد وعاء للأكل، بل هي حاضنة للأسرار، وجامعة للأيدي، ومائدة تنسج خيوط المودة بين الجالسين. حين توضع على الأرض أو فوق الطاولة، تكون دائمًا في مستوى العين، حيث تلتقي النظرات، وتتشابك الأيدي، وتتبادل الأرواح همسًا غير منطوق.

حين يمتلئ بطنها بالكسكس الدافئ، أو بخليط العجين، تصبح القصعة الطينية كتابا مفتوحا، تقرأ فيه الأمهات تاريخ النكهة، ويروي فيه الأطفال قصصهم من خلال لمساتهم الفوضوية. في كل جرح صغير على جدرانها، حكاية عن حرارة النار التي صقلتها، وعن ملامسة الأيدي التي حملتها، وعن الملاعق الخشبية التي حركت فيها المكونات.

في أعماقها، يتسرب الماء، لكنه لا يفقد برودته، ويظل نقيا، كأنه ينتمي للأرض التي جاءت منها. وفي فصل الصيف، تصبح القصعة مكانا للطهي ببطء، حين يمتزج الطين برائحة الطعام، فتكون النكهة مزيجا من التراب والبهارات، من الصبر واللهفة.

ليست القصعة مجرد إناء، بل هي رمز للتقاسم، للبركة التي تزول حين تتفرق الأيدي، وللبساطة التي تخفي في عمقها حكمة الزمن. حين تلتف حولها العائلة، تصبح القصعة الطينية شاهدة على الحب الصامت، وعلى العطاء الذي لا يشترط فيه الشكر.

إنها ذاكرة الأجداد، حيث لم يكن هناك طبق فردي، بل كان هناك فضاء مشترك، حيث الطين يحفظ المذاق، والحب يحفظ في الصمت.