في ظل التحولات الكبرى التي يشهدها المغرب، يبرز سؤال جوهري حول موقع الصحافة كفاعل أساسي في تأطير الرأي العام، وحمايةالمكتسبات الديمقراطية، وتقديم صورة تعكس التقدم الذي تحققه البلاد على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟ فبين استضافة كأس العالم 2030، والإنفراج في قضية الصحراء المغربية، وتنزيل الحكم الذاتي، وبين الشراكات الاستراتيجية التي تعزز موقع المغرب كقوة إقليمية ودولية، تبرز الحاجة إلى صحافة مسؤولة تُواكب هذه الدينامية، بعيدًا عن الفوضى الإعلامية التي تكرّس خطاب الإثارة والتشهير.
لاشك إذن أن التجارب الدولية الناجحة، مثل السويد والنرويج وكندا، أتبتت أن الصحافة الحرة لا تُقاس فقط بغياب القيود القانونية، بل أيضًا بوجود مسؤولية مهنية واضحة تحميها من الانزلاقات، هذه الدول تعتمد على قوانين صارمة تمنع التدخل السياسي في العمل الإعلامي، كما توفر حماية قانونية للصحفيين تضمن لهم الاستقلالية والقدرة على مساءلة السلطة دون خوف، على النقيض، هناك دول تسمح بمنسوب معين من الحرية لكنها تحتفظ بحق فتح تحقيقات في ما يُنشر، كما هو الحال في فرنسا والولايات المتحدة، حيث يتم التدقيق في بعض المواد الصحفية المتعلقة بالأمن القومي أو المعلومات السرية.
في بلادنا المغرب، رغم التقدم التشريعي في مجال الصحافة والنشر، إلا أن هناك مفارقة بين هامش الحرية المتاح ومستوى الممارسة المهنية، حيث أصبحت الرقابة الذاتية أمرًا شائعًا بين الصحفيين بسبب الغموض القانوني والخوف من المتابعات القضائية، هذه الإشكالية تعززها الصراعات الداخلية بين الصحفيين أنفسهم، حيث بات الاختلاف المهني يتحول إلى استقطاب حاد يُضعف النقاش الإعلامي، بدل أن يكون فرصة لتطوير المهنة ومأسسة أخلاقياتها.
رهان المغرب اليوم لا يقتصر على حرية التعبير، بل على كيفية إدارة هذه الحرية بذكاء ومسؤولية، بما يعكس مكانته المتنامية عالميًا، وهنا يأتي دور الصحافة في تعزيز صورة المغرب دوليًا عبر استثمار الأحداث الكبرى مثل كأس العالم 2030 لإبراز مؤهلاته التنظيمية والثقافية، وتوظيف الإعلام الاستقصائي لكشف الحقائق بعيدًا عن الشعبوية الإعلامية، كما أن قضية الصحراء المغربية تحتاج إلى دبلوماسية إعلامية مدروسة، تستثمر في المحتوى الرقمي والنقاشات الإعلامية الدولية لنقل وجهة نظر المغرب بأسلوب أكثر تأثيرًا.
اعتقد جازما ان التعامل الإعلامي الذكي مع تنزيل الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية يمثل ركيزة أساسية لضمان نجاح المشروع، وتعزيز مصداقية الخطاب الإعلامي في مواجهة الأخبار الزائفة، في المقابل فإن الصحافة هناك بحاجة إلى هامش حرية يعكس الواقع المحلي، ويُظهر التحولات الحقيقية، بدل أن تبقى رهينة التوظيف السياسي، وهذا يتطلب دعم المقاولات الصحفية المحلية لضمان استقلاليتها وتعزيز مصداقيتها، وتمكين الصحفيين من الوصول إلى المعلومات الرسمية بطريقة شفافة ودون تعقيدات إدارية، وتشجيع الإعلام الاستقصائي لكشف الحقائق ودحض الأخبار الزائفة المنتشرة عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
في تجارب دولية مثل إسبانيا في قضية كاتالونيا، لعب الإعلام دورًا حاسمًا في توضيح أبعاد المشروع السياسي داخل المنطقة، وإبراز إيجابيات الحكم الذاتي، ومنه فالمغرب يمكنه أن يستفيد من هذه التجربة عبر إنتاج محتوى إعلامي رقمي يخاطب مختلف الفئات، ويستهدف الرأي العام الدولي بأسلوب احترافي، بدلًا من الاكتفاء بردود الفعل التقليدية.
ان أهمية التحولات الاقتصادية التي يشهدها المغرب تُحتم على الإعلام أن يكون جزءًا من استراتيجية التنمية، من خلال دعم الابتكار وريادة الأعمال، وتسليط الضوء على المشاريع الكبرى في الطاقات المتجددة والصناعة، وإعادة بناء الثقة بين الإعلام والجمهور عبر تقديم محتوى مسؤول يحترم القيم الأخلاقية والمهنية، وينوع الاداء الإعلامي المتخصص في الاقتصاد، الصحة ،التعليم، علوم الإجتماعية ، العلوم السياسية...
بلدنا المغرب يواجه تحديات كبرى، تحتاج تظافر جهود الجميع والمستقبل لن يكون لصوت مرتفع بلا مضمون، بل لصحافة نقدية واعية، وضمير مهني حي، ورؤية استشرافية تُحسن الإصغاء قبل أن تجيد الكلام.