العبارة الوازنة والثقيلة أعلاه، ليست من بنات أفكاري، وإن كنتُ في حقيقة الأمر أوافق قائلها تمام الموافقة، بل هي نتيجة تحليل وئيد ومعمَّق للسفير الفرنسي السابق بالجزائر، "كزافيي دريانكور"، الذي يمكن اعتباره أحد الفرنسيين، بل الغربيين القلائل، الذين خَبَروا بلاد "الثلاثين مليون شهيد"، بعد أن عاش فيها فترة طويلة نسبياً، امتدت على مدى تعيينين اثنين على رأس نفس السفارة، كما قضى ردحا من الوقت بتلك الحديقة الفرنسية الخلفية كباحث وكاتب ومحلل، ولذلك لم يستطع السكوت بعد مغادرته إيّاها، لأن ما شاهده وعاشه تحت سقفها، الضيّق إلى درجة الاختناق، دفعه دفعاً مُوجِعاً إلى البوح بعيدا عن الخطوط الحمراء التي كانت الدبلوماسيا تلفّها كالأغلال حول قلمه ولسانه... ولذلك يبدو الآن وكأنه يتنفّس الصعداء!!
الواقع أن السفير دريانكور لم يكن السبّاقَ إلى وصف منظومة الحكم في الجزائر بالهيمنة الشاملة للكابرنات، مع الاعتذار لاصطلاح "منظومة"، لأن الوضع هناك لا علاقة له بأي شكل من أشكال التنظيم والتخطيط والمَنهجة... بل هي عبارة عن فوضى سائبة وشبيهة بأحوال الأسواق السوداء، التي يباع فيها كل شيء ويُشترى خارج أي معايير مهما كان نوعها... وبالإضافة إلى ذلك، فالجيش هو الذي يبيع هناك، وهو الذي يشتري، وهو الذي يأذن بأي شكل من أشكال الأخذ أو العطاء... باختصار فالجيش هو الكل في الكل!!
كنت أقول، إن هذا السفير لم يكن أول من وصف الجزائر بهذا الأسلوب القادح، بل قد سبقه إلى ذلك الرئيسُ إيمانويل ماكرون، عندما صرح ذات مناسبة سابقة بأن الرئيس الجزائري "عالق في وطنه بين أجهزة عسكرية فظّة ومهيمِنة"، وهي الوضعية التي نعبر نحن عنها في أدبياتنا بكونه طرطورا وليس أكثر، تُقضى به حوائج أجهزة عسكرية، ومخابراتية عسكرية، يقودها عجزةٌ كسيحون أذكاهم أبله، وأقواهم لا يستطيع الخروج من غرفة نومه بلا حفّاظات، وبلا مِشدَّات بلاستيكية تحول دون انزلاق مفاصله وغضاريفه وشحومه وجلوده وما تبقى من عضلاته... وهذا واقع لا يستطيع أن يُنكره أحد!!
فما الذي عناه السفير دريانكور بذلك التعبير الجهنمي؟!
لاشك أنه يشير بذلك إلى حقائق يعرفها الآن الخاص والعام:
* فالجزائر، منذ تأسيسها تحت هذا الإسم بواسطة قرار تقرير المصير الموقع عليه من لدن الجنرال شارل ديغول، لم تفرح بما تسميه كذباً وافتراءً ب"ثورة التحرير" إلا بضعة أشهر، إذ سرعان ما اختَطَف العساكر ثورتها المزعومة، ومن غريب الصدف أن يكون المختطِفون من العناصر العسكرية المكوَّنة والمدرَّبة والمؤهَّلة داخل المغرب، وعلى أيدي الضباط المغاربة... فما الذي يمكن أن ينتج من خير على أيدي نكرات اختُطفوا ثورتهم، بعد أن عمدوا إلى تصفية قادتها الأصليين، أمثال الرئيس فرحات عباس، والزعيم أيت أحمد، والمغربي الحموتي، الذي قدّم اسمه وماله وكل ما كان يملكه في سبيل أن تتحرر الجزائر، فكان مآله أشبه بمآل المهندس "سِلِمَّار"، الذي يُحكى أنه بنى لمَلِكه برجاً شاهقاً ومحكم الصنعة، فلما صعد مع الملك إلى سطح البرج دفعه هذا الأخير فألقى به إلى الهاوية حتى لا يُشيّد برجا مماثلا لغير ذلك الملك!!
هكذا فعل العساكر القراصنة مع زعماء ثورتهم بمجرد حصولهم على صك تقرير المصير!!
* والجزائر لم تعرف منذ انفصالها ظاهريا عن أمها وولية نعمتها فرنسا أي انتخابات نزيهة وسليمة، ما عدا في المرة التي نجح فيها حزب "جبهة الإنقاذ"، الذي سرعان ما تحوّل انتصارُه إلى عشرية سوداء لم تتخلّص الجزائر إلى غاية يومه من تبعاتها، وربما لن يتسنّى لها ذلك في مستقبل الأيام والأزمنة، مادام العساكر لم يعودوا إلى أماكنهم الطبيعية والمنطقية داخل الثكنات، ولا مكانَ آخرَ غير الثكنات!!
* والجزائر هي التي حكمها تحت الضغط والإكراه العسكريَيْن رئيسٌ مشلول الحركة، مُغيّب العقل والوعي والذاكرة، لمدة عُهدة كاملة امتدت على مدار خمس سنوات، كانت تلك الدولة فيها مثار سخرية واستهجان العالَم برمته!!
* والجزائر هي التي أدمنت تحت سلطة العساكر وتسلُّطهم على تغيير مسؤوليها لسبب ولغيرما سبب، وتبديل سفرائها ورؤساء دبلوماسيتها بعد كل إخفاق جديد، دون أن يطرح أحد هناك السؤال حول المسؤولين الحقيقيين عن كل الأزمات، والانهزامات، والإخفاقات، وإذا قُدّر لأحد أن يطرح ذلك السؤال، من شدة اليأس والقنوط، فإنه لا يلبث في غضون ساعات قلائل أن يُلفِيَ نفسه منفياً إلى ما وراء الشمس، كما يقول أحد المعارضين الجزائريين اللاجئين بعيدا عن تراب الوطن، وما أكثرهم في هذه الظرفية بالذات!!
* والجزائر هي الدولة الوحيدة التي يأوي إلى ترابها لاجئون لا يتمتعون بأي حق من الحقوق التي يرتّبها القانون الدولي والمعاهدات والاتفاقيات الدولية للاجئين، ولمختلف أشكال الأقليات في جميع بقاع المعمور!!
* والجزائر هي الدولة الوحيدة، من بين كل دول العالم، التي تكدّ وتجتهد في خلق الأزمات، وإذا لم تستطع خلق بعضها فإنها تصطنِعُه اصطناعاً وتُفَبركه، وهذا ما فعلته تجاه المغرب، وموريتانيا، ومصر، ومالي، والنيجر، وبوركينا فاسو ، وتجاه نصف الوطن الليبي، ثم تجاه إسبانيا وفرنسا، ثم تجاه معظم دول الخليج العربي والشرق الأوسط، وكل ذلك، بما ظهر منه وما بطن، من أجل سواد عيون مرتزقة البوليساريو، الذين اجتمعت فيهم المَيْتَةُ والنطيحة والمتردّية وما أكل السَّبُع، فعزلت الجزائر بذلك نفسها عن باقي العالم، مع إصرارها على اتهام المغرب بهندسة عُزلتها القاتلة، بينما المغرب منشغل بتنمية ذاته، وبالتأسيس لنهضته الراهنة والمستقبلية، والتي جعلته من الآن فصاعدا يتقدّم على الجزائر ويسبقها بعشرات السنوات الضوئية، أما بحساب السنوات الشمسية والقمرية فحدِّثْ ولا حَرَج!!
كل هذا، وغيره كثير، يقع في الجزائر بسبب استخواذ العساكر الجهلة والمعربدين والأغبياء على مقاليد الحكم، وعلى كل السُّلَط، مما يجعل منها، وبشكل غير مسبوق، بلدا منخرطا في "حالة استثناء" لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد!!
هذا إذَن هو الواقع الذي وصفه السفير دريانكور، بالمختصَر المفيد، بذلك التعبير الراقص، عندما قال: إن الجزائر لا تمتلك جيشاً ككل بلدان العالم، بل الجيش هناك هو الذي يمتلك البلد... وهذه كما نرى، معادلة مقلوبة تتناسب مع العقل والفكر والفهم المقلوبة جميعها لدى حكام ذلك البلد من الكابرانات المتسلقين إلى أعلى المراتب العسكرية بلا تجربة، ولا حنكة، وبلا أدنى معيار غير "الكاس يدور"، و"باباك صاحبي"... عجبي!!!
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي متقاعد