نبيل عادل: همسة اللبؤات في أذن الأسود.. كأس العالم لا يُرفع بالأقدام وحدها

نبيل عادل: همسة اللبؤات في أذن الأسود.. كأس العالم لا يُرفع بالأقدام وحدها نبيل عادل
في زمن كثر فيه الصراخ وقل فيه الفعل، جاءت زمجرة اللبؤات لتدوّي في أذن الوطن. نعم، لبؤات كرة القدم داخل القاعة لم يرفعن الكأس فقط، بل رفعن معنويات وطنٍ بأكمله، وألقمن أفواه المترددين درسًا في الكبرياء الرياضي من العيار الثقيل الكأس لم تكن تتويجًا، بل إعلانًا: "لدينا في المغرب من يعرف كيف ينتصر، متى آمن بأن الانتصار قدر لا خيار".
 
كنا متأخرين 2-0. العالم من حولنا بدأ في طقوس العزاء. اللاعبات يصرخن، الجمهور ينكس الأمل رغم تشجيعه لآخر ثانية، حتى الميكروفونات بدأت تعد الثواني نحو النهاية. لكن اللبؤات كن في مكان آخر: في تلك المنطقة الغامضة من النفس البشرية التي لا تعترف بالخسارة، حيث تتحوّل الهزيمة إلى شهوة انتقام ناعم. قلبن النتيجة، وانتزعن الكأس، في 11 ثانية فقط. لا، لم يكن حظًا. كان "إيمانًا متطرفًا" بأن اللقب لهنّ، لا يقبل القسمة ولا القفز في الهواء.
 
هذه ليست حكاية مباراة، بل درس في الوطنية والانضباط والجنون الجميل. حكاية فريق لا يملك "تمويل أوروبا"، لكن يملك شيئًا لا يشترى. ذلك، أصدقائي، يُسمّى "شخصية البطل". تلك المادة الخام التي لا تُدرّس في المدارس، ولا تُحشى في الدورات التدريبية. إنها نار داخلية لا تطفئها لا صافرة الحكم، ولا عَرق الهزيمة، ولا حتى تقدير الخصم.
وهنا، لا بد من المقارنة المؤلمة: هل نسيتم مباراة فرنسا في نصف نهائي كأس العالم 2022؟ أنا لم ولن انساها. المغرب لعب كُرة جميلة، وخلق فرصًا أجمل، وكان من الناحية التقنية ندًا إن لم نقل أفضل. لكن شيئًا ما كان مفقودًا: تلك اللمعة في العيون، ذلك الزئير الخافت في الأعماق الذي يقول "هذه فرصتي ولن أتركها تمر". فاز الديوك لأنهم دخلوا المباراة كما لو أن الفوز حقهم الطبيعي، دخلوا المباراة كما لو أن الكأس وُلدت في مهدهم، وأنهم سيتسلّمونها من صاحب الدار ولو زحفًا على البطون، بينما دخلناها بمنطق الاحترام الزائد والتوجس المحترم... فخسرنا برقي، ولكن خسرنا.
 
نعم، فرنسا التي صارت قوة كروية، بدأت هذا المجد من لا شيء. سنة 1998، لم يكن أحد يراهن على فوز "الديكة" بكأس العالم، بعد خروج مذل من نسخة سابقة، وتعيين مدرب كان يُعامل في الصحف كأضحوكة بربطة عنق. لم يُحدث ثورة تكتيكية ولا أدهش العقول بخطط معقدة، لكنه خلق في نفوس لاعبيه اعتقادًا خطيرًا: "الكأس لن تغادر فرنسا، ولو على جثثنا". وهكذا كان.
 
وفي نهائي مونديال قطر، رأينا معجزة تُكتب بالأقدام والدموع. ستة أهداف وركلات ترجيح وعرق أممٍ كاملة. لا فرق بين فرنسا والأرجنتين إلا أن كل فريق دخل وكأنه الوريث الشرعي للكأس، لا مجرد متسابق عليها. لا تعجب إن قال لك ميسي إن اللقب كان حقًا له، ورد عليه امبابي بنفس الجملة. إنها عقلية البطل... من جهتين مختلفتين.
 
ثم جاءت كأس إفريقيا، ومعها إخفاقٌ جديد. لا لضعفٍ فني، ولا لعقمٍ هجومي، بل لأن شخصية القائد لم تكتمل بعد. ووليد الركراكي، رغم حبنا له، ما يزال يمشي على الحبل بين الواقعية والإيمان، بين الحذر والثقة، لكنه لم يقفز بعد إلى الضفة الأخرى: ضفة من يؤمن بأن اللقب حق مشروع لا يُعطى بل يُنتزع.
 
وهنا نعود إلى لبؤاتنا، فما قمن به يجب ألا يُدرس في أكاديمية محمد السادس فحسب، بل في كل مدارس المملكة الشريفة، لا كمباراة، بل كعقيدة. فالبطولة ليست فقط قدمًا تلمس الكرة، بل نفسًا تعرف متى ترفض الهزيمة. وقد رفضته لبؤاتنا، وانتصرن. والآن إلى السؤال المؤلم: لماذا لم نر هذه الروح في المنتخب الأول؟ فالمشكلة ليست في التمرير، بل في التمرّد. ليست في الخطة، بل في الايمان بالقدر. حين لا يدخل اللاعب المباراة وكأن التاريخ ينتظره، لا يمكن أن يصنع مجدًا. الركراكي، بكل ما له من كاريزما، لم ينجح بعد في زرع "الأنفة"، تلك العجرفة النظيفة التي تُرهب الخصم دون أن تُقلل من قيمته، وتُشعل الحماس دون أن تحترق به.
 
والآن، نحن على بعد خمس سنوات من استضافة كأس العالم. والكل يتحدث عن البنية التحتية والملاعب والتنظيم المحترف. حسنًا، هذا جيد. ولكننا لا نريد "مونديالاً يليق بصورة المغرب"، بل نريد "مغربًا يرفع الكأس". لا نريد منتخبًا يشارك بشرف، بل فريقًا يدخل البطولة وفي عينيه نظرة واحدة: "صاحب الجلالة حفظه الله لن يُسلّم الكأس إلا لنا".
 
من الآن، يجب أن تبدأ الأكاديميات في تربية البطل، لا اللاعب فقط. نحتاج إلى جيل يتغذى على مزيج من التقنية، والإيمان، وشيء من الغرور النبيل. لا نريدهم أن يحترموا الخصم حد الخوف، بل أن يدخلوا الملعب كما تدخل الأسود حلبة الصيد. لأن العرش لا يُمنح للمهذبين... بل يُنتزع من المترددين.
 
فيا أيها الأسود، خذوا من اللبؤات كبريائهن، ومن فرنسا 1998 قسوتها، ومن نهائي 2022 عناد الأبطال. واحفروا في ذاكرة أطفالكم منذ اليوم أن كأس العالم حلم لا يؤجَّل. لا نريد أن نستضيف البطولة فقط... نريد أن نكتب اسم المغرب على الكأس، بالحروف الذهبية التي لا تمحى.
 
د. نبيل عادل/ أستاذ باحث في الاقتصاد والعلاقات الدولية