انتقل إلى جوار ربه الشيخ المتألق الفنان ضابط الإيقاع المايسترو عبد الدايم وَلْدْ الضَّوْ، عشية يوم الثلاثاء 29 أبريل 2025، بعد صراع طويل مع المرض، تاركا وراءه سجلا حافلا على مستوى اشتغاله بالعديد من المهرجانات الوطنية، ومصاحبته لعمالقة رواد العزف والطرب والإيقاع والغناء الشعبي وفن العيطة بكل أنماطها وتفرعاتها الفنية. في هذا السياق تعيد جريدة "أنفاس بريس" نشر وصياغة تصريحات سابقة كانت أسبوعية جريدة "الوطن الآن" قد خصصت ملفا خاصا للفنان المرحوم عبد الدايم قيد حياته خلال مهرجان لوتار بمدينة سطات الذي تقيمه جمعية المغرب العميق.
الشيخ والفنان العبدي عبد الدايم وَلْدْ الضَّوْ، ابن منطقة سبت جزولة، من مواليد سنة 1965 بمدينة أسفي، احترف ميدان ضابط إيقاع آلة الطَّعْرِيجَةْ منذ سنة 1983 (متزوج وله أربعة أبناء)، ويعتبر أحد رواد الإيقاع العيطي.
صاحب المايسترو عبد الدايم في حياته الفنية، الكثير من شيوخ العيطة ومجموعاتها الفنية الشعبية، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، الشيخ الحلاوي، والشيخ مبارك الجمل، والشيخ الدعباجي، والشيخة عيدة، وأيقونة العيطة الشيخة فاطنة بنت الحسين، ـ رحمهم الله ـ بالإضافة إلى الفنان عبد العزيز الستاتي، والشيخ جمال الزرهوني.
كان رحمه الله يحتفظ في متحفه الخاص بـ 51 آلة "طَعْرِيجَةْ" من كل الأصناف والأنواع والألوان، وكان يعتبرها كنزا ثمينا يؤرخ لمشواره الفني، ولكل واحدة منها حكاية ودلالة تراثية وفنية، حيث صرح في لقاءات سابقة مع جريدة "الوطن الآن" بأنه يفضل صناعة آلاته الإيقاعية لوحده من خلال اختيار أجود الجلود المميزة بعد صقلها ودباغتها بطريقته الخاصة.
في حديث سابق مع الراحل مايسترو الإيقاع العيطي بامتياز، أكد أن آلة "الطَّعْرِيجَةْ" المحبوبة، تصدر رنينا شبيها بذبذبات موسيقية تتقاسم مع دقات قلبه الدّم والرّوح، ويحس أثناء النقر عليها، أنها جزء من ذاته، وعضو أساسي من جسمه حينما يضمها لصدره وتلتصق على ذراعه مستسلمة لنقر أنامله التي تنبع منها كل إيقاعات أنماط الغناء الشعبي (لبطايحي / لكباح / المدسوس / لمجرد/ الحمدوشي/ المسموكي/ الهواري/ الروداني...).
كان رحمه الله يعتبر أن "الطَّعْرِيجَةْ" مكوّن ضروري وأساسي وملزم للإيقاع العيطي الحقيقي، وهي بمثابة زوجته الثانية في حله وترحاله، التي يغضب عليها في أوقاته العصيبة، ويخاطبها بلطف في أحيان كثيرة. يقلق ولا ينفر منها قطعا، يتواصل معها ليل نهار، ويلمس طينها صباح مساء، وينقر على جلدها كلما احتاج للتواصل معها في خلوته، دائمة الحضور في باله، حيث يقيم لها طقوسا خاصة لا يجيدها إلا هو ولا تتجاوب معه إلا هي، وبدونها لا يستقيم لا العزف ولا الغناء العيطي لأنها بمثابة "الأم" الحاضنة لأبنائها...هي الحياة، هي الحركة، هي ﮜوَّادْ الرّْبَاعَةْ وسائقها الخاص...وبحضورها تتفتق عبقرية الشيخ العازف على الكمان أو آلة لوتار، وتتألق الشيخة الطباعة والناظمة.
الشيخ عبد الدايم المسكون والمهووس بإيقاع "الطَّعْرِيجَةْ"
كانت "الطَّعْرِيجَةْ" بالنسبة للمرحوم الشيخ عبد الدايم سببا رئيسيا في سفره داخل الوطن وخارجه، وهي التي أدخلته إلى البيت الأبيض سنة 1995-1996، فضلا عن سفره إلى عدة دول عربية وخليجية.
للأسف، لم تتحقق تطلعاته وآماله في إقامة معرض خاص بآلة "الطَّعْرِيجَةْ" بكل أشكالها وأحجامها وألوانها، للتعريف بها كآلة إيقاعية فرضت نفسها منذ القدم داخل كل الأنماط الغنائية الشعبية، ومن أجل رد الاعتبار لها كمكون أساسي داخل مجموعات شيوخ العيطة. لقد كان المرحوم حريصا عليها، حتى لا يتم تغييبها وانقراضها أمام هجمة الآلات الإيقاعية الإليكترونية الشرسة، وعلبة الإيقاعات المستنسخة، وكان يمني النفس أيضا برد الاعتبار للصانع المغربي التقليدي الذي يتقن صناعتها وزخرفتها بالعديد من المدن المغربية مثل أسفي والجديدة وأزمور وتارودانت ومراكش.
الشيخ جمال الزرهوني: عبد الدايم كان أحسن طْعَارْجِي ضابط للإيقاع
أكد للشيخ جمال الزرهوني في تصريحه على أن المرحوم المبدع الشيخ عبد الدايم كان يعتبر أحسن طْعَارْجِي، لذلك اختار أن يلقبه بـ "المايسترو" دون منازع، والدليل في ذلك أنه كان يشتغل مع شيوخ الميزان الْحَيْ ـ حسب قوله ـ وكان يعتمد عليه داخل المجموعة العيطية في ضبط الإيقاع والميزان، مستحضرا تاريخه الفني واشتغاله مع العديد من رموز العيطة سواء الشيوخ أو الشيخات.
وشبّه الشيخ جمال الزرهوني العيطة بالبقرة (الرَّازْمَةْ) المنهكة الجسد والتي تحتاج إلى (لَعْوِينْ) أي تعاون العديد من الأشخاص لتنهض ويستقيم جسدها، معتبرا الإيقاع العيطي هو أحد ركائز النهوض بالعيطة. وشدد الزرهوني على أن المايسترو عبد الدايم يرجع له الفضل في ضبط مجموعة من الإيقاعات المرتبطة بالعديد من الأغاني التي سجلها مع جمعية شيوخ العيطة بأسفي كعيطة (كَاسِي فْرِيدْ، بِينْ الجَّمْعَةْ وَالثّْلَاثْ، غْزِيَّلْ، السَّبْتِي مُولَا بَابْ لَخْمِيسْ، خْوِيتْمُو فِي إيدِّيَا وَحْكَامُو عْلِيَّا، الْحَدَّاوِيَاتْ الرِّيصَانِيَّةْ، الْحَصْبَةْ، خَرْبُوشَةْ....)، مؤكدا أن عبد الدايم كان عضوا أساسيا ضمن أعضاء سمفونية لوتار رحمه الله.
الفنان عابدين الزرهوني: عبد الدايم فنان مرهف الحس الإنساني
"لا يمكن الحديث عن الإيقاع ارتباطا بآلة "الطَّعْرِيجَةْ" دون أن نستحضر سيرة المرحوم الشيخ عبد الدايم العبدي" ـ حسب الفنان عابدين الزرهوني ـ الذي أكد على أن المرحوم كان من الأوائل الذين مارسوا الفن والتصقوا بالحرفة والصّنعة على مستوى الإيقاع العيطي، ومنحها كل ما يملك من أحاسيس إلى درجة التملّك. وأوضح عابدين بأن المرحوم عبد الدايم، هو الذي أدخل العديد من التقنيات الإيقاعية، وطور إيقاع الطَّعْرِيجَةْ. ودليله في هذه الشهادة، هو "اعتماد إيقاعاته المتطورة والمنظمة من طرف كل الاستوديوهات التي تشتغل في مجال ترويج الأغنية الشعبية" وأضاف بأنه كان قيد حياته "يتقن ويتفنن في كل الميازين والإيقاعات المغربية التي جعلته فنانا مشهورا يقرن اسمه باسم آلة "الطَّعْرِيجَةْ".
ووصف عابدين الزرهوني المرحوم عبد الدايم بالإنسان المرهف الحس والكريم والاجتماعي الذي كان يسأل عن أصدقائه في الحرفة والصّنعة، وكان يصل الرّحم مع الجميع ويبادر في جمع التبرعات لفك كل ضائقة ألمت بفنان من طينته، معتبرا إياه فردا من أفراد أسرة جمعية شيوخ العيطة بأسفي وعضوا من عائلة الزراهنة التي تربطها معه علاقة فنية خالصة.
الشاعر إدريس بلعطار: شيخ طوع عسر إيقاع العيطة الحصباوية
حسب تصريح سابق للشاعر إدريس بلعطار بجريدة "الوطن الآن"، فإن تعريف الطَّعْرِيجَةْ بلغة محترفي الإيقاع العيطي هو (لَبْجَيْقَةْ)، معتبرا شيخ الإيقاع على آلة الطعريجة كـ "ﮜوَّادْ" وسائق محترف يقود أعضاء الفرقة بشكل منضبط، ويحرص على عدم الوقوع في المحظور، وأكد على أن الميزان الحصباوية يتّسم بالصعوبة والعسر في الإيقاع والعزف والأداء والتلقي، ملوّحا بالدور الرئيسي لضابط الإيقاع صاحب ألة "الطَّعْرِيجَةْ"، مستحضرا مثال (إيقاع الأم) المصاحب لمجموعة من الأغاني العيطية، مشبها إياه بالأم التي يجب أن تحتضن أبناءها ولا تفرط فيهم.
وأشاد الشاعر الزجال إدريس بلعطار بمسار المرحوم الشيخ عبد الدايم كنجم وأستاذ للإيقاع العيطي بـ "الطَّعْرِيجَةْ"، بصفته أحد أهرامات الإيقاع العيطي، دون أن يغفل الحديث عن الشيخ الطْعَارْجِي بَلْعِيدْ عضو مجموعة عبيدات الرمى أولاد إبراهيم من منطقة أحمر، والذي كان حسب تعبير السي إدريس "مايسترو" الطعريجة بالمغرب.
ذ. محمد خراز، مدير سابق للمهرجان الوطني لفن العيطة بآسفي
في شهادته ضمن ملف جريدة "الوطن الآن" عن المرحوم الشيخ عبد الدايم قال بأن الرجل كان قد أسس لمرحلة جديدة لمساره الفني، وهو فعلا مايسترو إيقاعات العيطة بكل أنماطها التسعة، لذلك كانت استضافته خلال الدورة الثانية عشرة لمهرجان العيطة لإبراز مؤهلاته الفنية مع مجموعته الخاصة التي شكلها آنذاك، حيث قدم للجمهور عروضا فنية غاية في الروعة، مخلفا طيب الأثر لدى المتتبعين والباحثين وفي مقدمتهم الدكتور حسن نجمي والباحث سالم كويندي.
وخلال مساره وحضوره الوازن وسط كل المجموعات الفنية التي اشتغل معها طيلة حياته الفنية أكد محمد خراز بأن المرحوم عبد الدايم "كان يتفرد في التعاطي مع الطعريجة وإيقاعاتها المتعددة الروافد وأصولها الجغرافية، وقيمة مضافة ونوعية للإيقاع المغربي". وشدد على أن "كل المجموعات الشعبية الجادة كان لا يكتمل شرط أدائها الفني بدون حضور الشيخ عبد الدايم على مستوى الإيقاع" واستحضر الأستاذ محمد خراز مشوار عبد الدايم الفني مع مجموعة الشيخ ولد أمبارك لخريبكي الذي يكاد يكون لصيقا به في أداء العيطة الزعرية وأنماط غنائية أخرى تعرف بها جهة الشاوية ورديغة.