دون شك أنه لا اختلاف في أهمية الثقافة ودورها الفعال في التلاقح بين الحضارات والحوار بينها ولنا في التاريخ أكثر من محطة ناصعة ساهمت بشكل كبير في إنتاج أروع الآثار الإنسانية والنماذج الثقافية التي مازالت لحد الآن شاهدة على إمكاناتها في القدرة على الخلق والإبداع الإنساني رغم التنوع والاختلاف، وترسيخ ثقافة الحوار والتسامح واحترام الآخر حتى في ظل الصراعات السياسية والتجاذبات، لأن الثقافة يمكن أن تصلح ما تفسده السياسة، وبمقدورها أن تحافظ على الحبل السري بين الأطراف السياسية خاصة إذا لم تتلوث بها، ولم تحشر أنفها فيها، وحافظت على قدسيتها،ونقائها، فبإمكانها أن تعمل على ترميم ما تصدع، وترتيب ما تبعثر كلما دعت الضرورة إلى ذلك،لأن الصراعات السياسية لن تبقى إلى الأبد،وما هي إلا وليدة ظرفية تاريخية تكون قد أملتها تقديرات سياسية معينة مرتبطة بمصالح معينةوما بالك إذا كانت بين أشقاء تحكمهم الجغرافيا والتاريخ واللغة والعقيدة والعادات والتقاليد والدم...في هذه الحالة على المثقف أن يكون أكثر حذرا، وأن يكون في مسعاه أكثر استحضارا لهذه المعطيات، لأن تأجيج الصراع والحلول في الخطاب السياسي حتى ولو كان خطابا ضد التاريخ،وتبنيه جملة وتفصيلا لن يعمل سوى على نشر الكراهية، وتأزم العلاقات أكثر، كما في الحالة المغربية الجزائرية، فمما لا يختلف عليه اثنان أن الصراع السياسي القائم بين البلدين مرده أولا وأخيرا إلى الصراع المفتعل حول الصحراء المغربية، والذي كان نتاج حقبة تاريخية معينة ارتبطت بمرحلة الحرب الباردة، وزرع جمهورية الوهم جاء في هذا السياق التاريخي المتسم بالتوتر بين البلدين الشقيقين والجارين مما يحتم تجاوز هذه المرحلة بإعادة قراءتها من جديد باحترام اختيارات كل طرف على المستوى السياسي وترتيب العلاقات الثنائية بما يضمن الحقوق التاريخية ورقي ونهضة المغرب الكبير باعتباره الحلم الذي كان يراود المثقف المغاربي ،فهذا مفدي زكرياء شاعر الثورة الجزائرية يقول في قصيدته "البردة الوطنية" سنة 1937، وهو يدعو إلى الإتحاد بين شعوب المغرب العربي باعتبارهم شعبا واحدا:
تونس والجزائر اليوم،والمغرب.... شعب لن يستطيع انفصـــالا
وحدة أحكم الإله ســـــــــــداها،... من يرد قطعه أراد محــــالا
نبتت من أب كريم وأم سمت.... في الحياة عما وخـــــــــــالا
نصبوا بينها حدودا من ال.... ألواح، جهلا وخدعة، وضلالا
فالوطنيون الأحرار وعلى امتداد خريطة المغرب الكبير كانوا يحلمون بوطن يسع جميع أبنائه ،الذين امتزجت دماؤهم في محاربة المحتل لا فرق فيهم بين هذا وذاك ماداموا جميعهم من دم واحد ،هكذا كان حالهم وهم يواجهونه في الشعاب والجبال والهضاب في المغرب والجزائر وتونس والتي خلدتها الذاكرة الشعبية الجمعية وخلدها الشعر :
سلام على المغرب الكبير على طبعه الناصع الأطهر
وما بخلوا بالدم المغربي على دمنا الفائر الأحمر
متى كان بين الأشقاء سد يقام. على الزور والمنكر
هكذا كان حال المثقف الحر والثائر في عزائمه وآماله التي كانت شامخة بحجم الجبال تتغنى النهضة والحرية والكرامة قبل أن تتلوث بمفاسد السياسة وأية سياسة ،سياسة تعمل جاهدة وبكل ما أوتيت من قوة ومكر لإضعاف الشقيق ووضع المتاريس أمامه لاغتيال الأحلام الكبرى وتفتيت الوطن الكبير في زمن التكتلات الاقتصادية الكبرى، إستراتيجية سياسية تنبني على استغلال أية مناسبة كيفما كان حجمها ولونها وطبيعتها لإرسال رسائل سياسية مشفرة إلى الآخر الذي هو المغرب كما حدث لي أثناء مشاركتي في الملتقى الدولي التاسع للسرديات بجامعة بشار بالجزائر في رحاب كلية الآداب واللغات والذي دفعني إلى اتخاذ موقف صارم مما حصل بالانسحاب، فكل مثقف حر وأبي إلا ويعتز بانتمائه الوطني،لكن السؤال الذي يطرح وبإلحاح ما موقف المثقف الجزائري من كل هذا؟؟ ألا يعد صمته تواطؤا؟؟ ألم يحن الوقت بعد لاتخاذ موقف مما يحصل من منطلق الدور الفعال والريادي الذي ينبغي للمثقف أن يضطلع به؟؟ أم أن المثقف قدم استقالته من المواضيع الكبرى وأصبح منغمسا في أمور هامشية لا تحدث دبيبا، ولا تثير نقعا كحال المثقف العربي؟؟ أم أنه انغمس في شؤون السياسة حتى النخاع وأصبح لا يتحدث إلا باسم الحزب الحاكم؟؟
هذه أسئلة ليس بالضرورة الإجابة عليها ،وما طرحنها إلا لنعيد التأكيد على دور المثقف الفاعل والريادي في الجهر بحقائق التاريخ دون خوف أو زيف أو مكر فغدا سوف يسائلنا الأحفاد على قطع الرحم وعلى قطع الصلات وعلى عدم استغلال ما كان متاحا للتقدم والرقي لأن التاريخ يسجل كل كبيرة وصغيرة ولن يفلح أبدا من يقوم بتزويره فمتى يدرك الجميع وزر ما يسكت عنه؟؟