مراد علمي: "باندونغ" والمظلومية كأصل تجاري

مراد علمي: "باندونغ" والمظلومية كأصل تجاري مراد علمي
انعقد "المؤتمر الاسيوي الافريقي الأول" من 18 أبريل إلى 24 أبريل 1955 في مدينة باندونغ الاندونيسية، كما يعرف أيضا باسم "مؤتمر باندونغ"، شارك في هذا المؤتمر ممثلون من 29 دولة من أسيا وأفريقيا، وهو ما مثل آنذاك نصف سكان العالم، وتعود هذه المبادرة الموفقة لرئيس الوزراء الاندونيسي "علي ساسترومدجوجو" حيث اقترح في 13 يناير 1954 عقد مؤتمر خاص بأسيا وأفريقيا، نظرا لكثير من الدول الافريقية، منها المغرب كذلك، والأسيوية التي لازالت تعيش تحت وطأة العنف، الاستغلال والسيطرة الاستعمارية الأوروبية، حيث لم تحصل الهند وباكستان على استقلالهما من المملكة المتحدة إلا قبل سنوات قليلة، كما لم تعترف القوة الاستعمارية الهولندية باستقلال إندونيسيا إلا قبل أربع سنوات.
 
كان يهدف هذا المؤتمر بالأساس إلى مضاعفة المجهودات والتنسيق في ما بين هذه الدول قصد التخلص واستئصال الاستعمار الذي كان يستنزف الموارد والثروات ويعبث بأرواح الناس، مع الأسف، لا زالت بعض الدول ك "هايتي" تشكو ليومنا هذا من تبعات الاستعمار، نظرا لتسديد الديون المجحفة لفائدة فرنسا التي أشر لها شارل العاشر في 17 أبريل 1825 قصد دفع تعويضات سخية لمالكي العبيد التي بلغت آنذاك 150 مليون فرنك فرنسي ، وهذا المبلغ بمثابة أكثر من 200 مليار دولار اليوم، وهذه الديون عطلت عجلة التقدم والازدهار لعقود، وها هايتي اليوم تعتبر من أفقر الدول في العالم أين خربت جميع المؤسسات وتعيش الدولة فوضى عارمة لا مثيل لها أين الميليشيات واللصوص المدججة بأسلحة فتاكة تقوم بترويع الساكنة.
 
وفي ضوء ظهور خطابات شعبوية وتشديد الخناق على حرية التعبير في أوروبا والتحريض على المهاجرين فإن هذه اللحظة تكتسب أهمية خاصة، نظرا للمرحلة التي مرت منها نهاية الحرب العالمية الثانية حيث اعتبرت ما بعد هذه الفترة الحالكة من تاريخ البشرية كبداية لنظام عالمي عادل وكقفزة نوعية في مجال القضاء الجنائي الدولي وتبني حقوق الانسان، أما اليوم، فأصبحت جل هذه المكتسبات والتوافقات موضوع تساؤل وجدل.
 
ورغم استقلال العديد من الدول لا زال البعض منها يعاني من الاستعمار ولم تحصل أي قطيعة، ونوع من الاستمرارية هو سيد الموقف اليوم، حيث لا زال قسط مهم من التحف الفنية يزين كثير من متاحف الدول الغربية ولم تتمكن الدول الاسيوية أو الافريقية من استرجاعها إلا في بعض الحالات النادرة بعد سنين طويلة من الصراعات في دهاليز محاكم الدول الغربية، لقد ارتكبت الدول الأوروبية جرائم فضيعة ضد المدنيين في مستعمراتها، وجلها لم تبح بكلمة اعتذار واحدة لحد الان: جرائم البريطانيين في الهند، الالمان في ناميبيا، هولاندا في اندونيسيا، فرنسا في شمال أفريقيا وأسيا، ووفقا لمعايير نظام نورمبرغ يشكل هذا النوع من التقتيل جرائم ضد الإنسانية، وبالنسبة لكثير من الدول المستعمرة سابقا، النظام العالمي لم يبدئ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بل 10 عشر سنوات من بعد، يعني مع مؤتمر باندونغ، بمشاركة العديد من الدول الواعدة كالهند والصين، في هذا الوقت، لم يكن للسودان أي علم، تم طرز قطعة من القماش على عجل التي قامت من بعد بمثابة علم لدولة السودان، ويرجع الفضل لنهرو، أول رئيس وزراء للهند، لما أعلن أن الحقبة الاستعمارية ولت، كما قال الرئيس الأول لإندونيسيا سوكارنو أن مؤتمر باندونغ هو المؤتمر الأول الذي لا تشارك فيه القوى البيضاء حيث يمكن له أن يعتبر "بداية جديدة في تاريخ العالم"، جلمة أثارت سخط العديد من المراسلين البيض، وها هو العالم اليوم منقسم إلى "دول الجنوب" و"دول الشمال"، ولم ننسى الازمة الصحية الفارطة لما كانت "دول الشمال" تقتني الملايير من أقنعة التنفس ولا تبالي ماذا سيحدث في "دول الجنوب"، بالأخص الفقيرة منها، كما لم ننسى جميل دولة الصين التي زودت المملكة المغربية بالمعدات الطبية الازمة قصد تطويق الوباء، ويا لها من حكمة وعمق للأمثال التي ترصد وتسجل قيم المجتمع كما تنظم العلاقات في ما بينيا : "عند الشدائد تظهر معادن الناس".
 
نظرا لدهاء وحكمة الدولة عرفت كيف تتجاوز هذه الصعب وأن لا تعتبر هذه الحقبة الحالكة من التاريخ كعبء أو تسخر هذه الفترة كأصل تجاري تبتز به دوما الدولة المستعمرة سالفا، ولكن كفرصة لتعاون أفضل وأنجع في تناغم وتماهي كلي، لأن المظلومية غير مفيدة وستكون حجرة عثرة بالنسبة للمستقبل، لأنه يجب أن نكون إيجابيين ونرى في هذه الفترة تحديات واعدة وفرصة للنمو، الازدهار وتعاون متكافئ، وإلا سنشعر دوما بالإحباط والكآبة ونلفق جميع الإخفاقات للغير ولا نكن صريحين، واضحين مع ذواتنا، والمظلومية تستغل دوما في الصراعات السياساوية بغية تبرير القمع والعنف أو لمكاسب سياسية محضة قصد تخليد النظام كما يحصل في بعض الدول أو المليشيات الإرهابية الموالية لها.