ما أكثر الشعوب التي ادعت عبر التاريخ مقام شعب الله المختار بما يستوجبه المقام من تبجيل وتعظيم لرب العالمين. ولعل اليهود من أكثر الشعوب ادعاء لصفة الاختيار هذه بناء على ما فهموه من نصوص الكتاب المقدس قديما وحديثا. فما المقصود بشعب الله المختار ؟ وما مبلغ استحقاق أمة من الأمم للاصطفاء الإلهي ؟ والحق أننا لو استقرأنا آي الذكر الحكيم لوجدنا أن تفضيل بني إسرائيل على العالمين إنما هو تفضيل خاص بزمانهم هم إذ بعث الله في نسلهم من الأنبياء والرسل ما لم يبعث في غيرهم من الأمم، وأمرهم بالقيام بما ورد في التوراة المنزلة من الأحكام والشرائع. وهو تكليف لا بد أن يكون ثقيل الوطء كما جاء في كتاب عاموس (3 : 2)، وما ذلك إلا لما يستوجبه حق العبادة من الامتثال لأوامر الخالق والعمل بما أمر والانتهاء عما نهى على النحو الذي يجعل المؤمنين شهداء على الخلق وقدوة لهم حقا وصدقا. فالاصطفاء إذن لا يفيد تفوقا أو أفضلية على بقية الخلق بقدر ما يستوجب واجب تحمل الأمانة وإقامة التوراة والإنجيل وتبليغهما والالتزام بأحكامها سرا وعلنا قولا وعملا : "قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوارة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أُنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين" (المائدة : 68).
وقد ظهر طوال التاريخ القديم والمعاصر من عقلاء اليهود من رأى أن القرب من الله مدعاة للاجتهاد في العبادة والتواضع لله لا التجبر على الخلق، بل منهم من آمن بما أنزل في التوراة والإنجيل والقرآن جميعا وأسلم وحسن إسلامه في عهد النبي عليه السلام وفي العهود اللاحقة. غير أن طائفة منهم عز عليها أن يظهر نبي من غير اليهود فكفرت بالبعثة المحمدية وجاهدت لمعاداة نبي الإسلام وإظهار زيف دعوته ومكاشفته بالغدر والعداوة. وما لبثت أن تآمرت على قتله أكثر من مرة كما فعلت من قبل مع أنبياء الله ورسله بغير حق. ولا عجب أن يشتد النكير على اليهود بافتخارهم بقتل عيسى عليه السلام على زعمهم، وهي التهمة التي لاحقتهم قرونا عددا حتى داخل أوربا.
هذه الفئة من اليهود حملوا الاصطفاء على أنه صفة أبدية أزلية لليهود ولو خانوا العهد وتنصلوا من أحكام الدين وتنكبوا عن الطريق المستقيم بكفرهم وخيانتهم وعصيانهم وتمردهم وقتلهم لأنبياء الله ورسله : "فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا" (النساء : 155)، "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلِم عن مواضعه، ونسوا حظا مما ذُكِّروا به" (المائدة : 13). وما قيل عن نقض بني إسرائيل لميثاقهم يقال عن النصارى الذين أخذ الله عهدا عليهم ليتبعوا رسوله لكنهم بدلوا دينهم ولم يقيموا كل أحكامه : "ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذُكِّروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون" (المائدة : 14). وأما المسلمون فإن أخْيِرتهم إنما هي موقوفة على شروط : " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" (آل عمران : 110). ولا عجب أن يقترن الإيمان بالعمل الصالح في غير موضع من الذكر الحكيم فلا يكون الأمر مجرد أماني : "ليس بأمانِيِّكم ولا أمانيِّ أهل الكتاب، من يعملْ سوءا يّجزَ به ولا يجِدْ له من دون الله وليا ولا نصيرا" (النساء : 123). وقد ورد عن أوائل المفسرين مسروق وقتادة والضحاك "أنهم افتخروا، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون : نبينا خاتم الأنبياء وكتابنا يقضي على الكتب، وقد آمنا بكتابكم ولم تؤمنوا بكتابنا فنحن أولى". وهو التفسير الذي أيده مجاهد قائلا : "ليس بأمانيكم يا مشركي أهل الكتاب وذلك أنهم قالوا : لا بعث ولا حساب، وقال أهل الكتاب : "لن تمسنا النار إلا أياما معدودة" (البقرة : 80)، و"لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى" 'البقرة : 111)، فأنزل الله تعالى : "ليس بأمانيكم" أي ليس الأمر بالأماني وإنما بالعمل الصالح".
إن التمعن فيما يدعيه اليهود الصهاينة لأنفسهم من التمجيد والاصطفاء والميثاق الذي واثقهم الله به لا تدانيه إلا النزعة الآرية العنصرية المستعلية على بقية الخلق، فكلاهما عملة لوجه واحد وهو "عقدة التفوق" بما يعنيه ذلك من إضمار لأحاسيس وتمثلات تملأ صاحبها عُجبا ورفعة وتعاليا قد يفضي به إلى الاعتداد الزائد بالنفس والحط من قدر الغير والاستهانة به. غير أن التحليل العميق لمن كان هذا شأنه يكشف عن مشاعر دفينة من الضعة والنقص والخسة والافتقار إلى الثقة بالنفس. فعقدة السمو إذن إن هي إلا حيلة نفسية لاشعورية يداري بها صاحبها جوانب القصور والخلل المستحكم في أعماقه حتى لا يظهر على ما هو عليه. ولذا يسارع إلى تبخيس المحيطين به والحط من أقدارهم أو السخرية منهم مدفوعا في ذلك بعجرفة صاخبة وتعال صارخ لا أساس له من الصحة. فلا جرم أن يتأفف صاحب عقدة التفوق من كل اعتراض ويتضايق من كل انتقاد لفرط امتلائه بنفسه. فكيف إذا ازدوجت هذه العقدة بشعور قومي ينزع منزعا عصبيا طاغيا يحمل أهله على الاستكبار والتعالي ؟ لقد قال أحد حاخامات اليهود قبل عقود قليلة : "يمكن تصنيف سكان العالم إلى صنفين : إسرائيل من جهة والأمم الأخرى مجتمعة من جهة ثانية. إن إسرائيل هي الشعب المختار : هذه عقيدة أساسية"[1]. وهم بعد يتباهون يما يدَّعونه لأنفسهم بقول قائل منهم "نحن أكثر إنسانية عندما نكون أكثر يهودية"، أو حينما يتبجح أحد فلاسفتهم قائلا : "إن اليهودي أكثر قربا من الإنسانية من أي إنسان آخر" (م. ن. ص. 306) ، ويدعي آخر بكثير من الصفاقة والفجاجة والبجاحة بأن الجيش الإسرائيلي وقد ارتكب من المجازر ما ارتكب بأنه أحسن الجيوش خُلقا في العالم أجمع !
ومن شأن هذا الاستعلاء أن يجعل أمثال هؤلاء وبالخصوص إذا انضووا تحت لواء حركة قومية كالصهيونية جبابرة عتاة طغاة يعيثون في الأرض جورا وفسادا وتحريقا وتجويعا وتعذيبا وتقتيلا حتى لقد تحالف بعض زعمائهم كإسحاق شامير مع أدولف هتلر وحزبه النازي. ثم يسترسلون في ادعاءاتهم فيزعم كبيرهم موشي ديان (1967) قائلا : "بما أننا نملك كتاب التوراة ونحن شعب التوراة فإن علينا أن نمتلك جميع الأراضي التوراتية" (م. ن.، ص. 36). وتنفي رئيستهم غولدا مايير (1969) وجود "شعب فلسطيني" أصلا قبل أن تنكر عليه حقه في استعادته أرضه (م. ن. ، ص. 178). وإذا ما هب أصحاب الأرض للذود عن أرضهم وجدوا أحد أراذلهم وهو أبو النتن يصف المقاومين الفلسطينيين بالحيوانات والمتوحشين والإرهابيين ويدْعُ إلى استئصالهم وقطع دابرهم. ومن عجب أن كل سعي لمراجعة تاريخ "المحرقة" وعدد ضحاياها وكل نقد لما يفعله هؤلاء الطغاة يحملونه على محمل المعاداة للسامية وما ذلك إلا لاستضمارهم لعقدة دفينة مفادها أنهم "شعب مختار" يستأهلون دعما مطلقا بلا قيد ولا شرط. وهم لذلك لا يتورعون عن المزايدة في عدد ضحايا النازية واتخاذ "المحرقة" وسيلة للابتزاز والمساندة غير المشروطة لجرائمهم مع استصدرا القوانين التي تجرم التشكيك أو المراجعة التاريخية لما كتب عن الجرائم النازية. ثم إنهم بعد أن بسطوا سلطانهم على المؤسسات الإعلامية يجرمون مساندة الشعب الفلسطيني والتشنيع على كل من خرج للتظاهر والتنديد في شوارع أوربا وأمريكا بالمجازر التي يتعرض لها أهل غزة منذ أزيد من سنة. وما أجمل قول الفيلسوف الفرنسي روجي جارودي : "إن الإحساس بالتفوق عند الصهاينة يشبه كثيرا تمجيد العرق الآري حين يستخدم تبريرا لكل سيطرة سياسية دموية" !(م. ن.، ص, 306-305 بتصرف). وهذا بالضبط ما حصل في أواخر القرن التاسع عشر حينما تسربلت العنصرية بسربال العلم القائل بأن البشر طبقات بعضها فوق بعض وأنهم ليسوا سواء. وفي خضم تصاعد نزعة معاداة اليهود بالخصوص في أوربا عُد الجنس الآري والجرماني تحديدا جنسا أرقى وأسمى الأجناس قاطبة ووسم الجنس السامي بالانحطاط والانحلال والفساد. ولذا فقد ارتأى غير واحد من مفكري القرن التاسع عشر بأن عدم نقاء الدم.
د. أحمد المطيلي (عالم نفس).
...............
[1] مذ. في : روجي جارودي (1995). الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية. تر : قسم الترجمة بجريدة الزمن. الدار البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، 2009، ط. 5، ص. 47.
الجرماني واختلاطه بالدم السامي منذر بزوال الحضارة وانحدراها ! فهل نعجب أن نجد الصهاينة اليوم ومن والاهم من القتلة وسفاكي الدماء بغزة الجريحة والضفة الغربية والقدس يحذرون من همجية المقاومة الفلسطينية وتهديدها للحضارة الغربية برمتها ويدعون إلى محاربتها واستئصالها من الوجود ؟ ألا ما أشبه اليوم بالبارحة !