"الهرمكة" لسعيد رحيم ليست آلة لطحن القشور فحسب، إنها استعارة للحياة حين تُدار بلا قلب

"الهرمكة" لسعيد رحيم ليست آلة لطحن القشور فحسب، إنها استعارة للحياة حين تُدار بلا قلب غلاف الكتاب

على تخوم وطنٍ ممزق بين استعمارين، وفي أرضٍ كانت في البدء عارية كصفحة نسيها الزمن، تهبط "الهرمكة" كرؤيا… رواية لسعيد رحيم تُقيم في العراء، وتكتب نفسها من لحم الأرض وعرق الفقراء وصدأ الآلات.

 

من أنطوان، المهندس الإسباني الهارب من عباءة الفاشية، إلى كمال، الفتى المغربي المتوهج بأسئلة المعنى والحب والحرية، تنسج الرواية خيوطها حول معمل لتدوير قشور الفلين، فتبدو "البوز" ـ تلك النقطة الهامشية ـ وكأنها نبض مخفي لتاريخ لم يُكتب بعد.

 

"الهرمكة" الصادرة حديثا عن منشورات النورس، ليست آلة لطحن القشور فحسب، إنها استعارة كبيرة للحياة حين تُدار بلا قلب، وللآلة حين تبتلع الإنسان. إنها الرمز المرعب لتحولات المجتمعات التي انتقلت قسرًا من فقر ترابي إلى فقر صناعي، من العبودية للمعمر إلى الاستلاب تحت وطأة "الأجور" و"الوظائف" و"البقاء".

 

كانت أرض "البوز" عندما دخلها أنطوان مستعمرة كمثيلاتها من المستعمرات الفرنسية في المغرب، أراضيها خصبة صالحة للفلاحة موزعة على معمرين كل منهم مختص في نوع من الأنشطة الزراعية وتربية الدواجن والماشية يتم تصدير أغلب منتوجاتها إلى جيوش الحلفاء إبان الحرب ضد الغزو النازي وبعدها لتمويل فرنسا المحطمة جراء الحرب تلك، بينما المغاربة يتضورون جوعا وأمراضا فتاكة واجترارهم تداعيات عام "البون"

 

سنوات فيما بعد، أناط كمال رشدي الذي كادت آلة "الهرمكة" المحورية - التي اشتغل بها في معمل لحاء الفلين أن تودي بحياته - بنفسه رفقة صديقه إدريس، هما من أبناء الهوامش، مهمة البحث عن أصل اسم أرض "البوز" بوزنيقة، حيث ستأخذهما رحلة البحث هذه إلى الكشف عن عدد من الأسرار والمعطيات التاريخية المرتبطة باسم القرية منذ ما قبل النصف الثاني من القرن التاسع عشر على عهد السلطان المولى محمد بن عبد الرحمان، قبل حلول الاستعمار الفرنسي بها بعدة عقود. وكيف انتقلت بفضل فكرة أنطوان، الهارب من نظام ديكتاتوري، إقامة معمل تدوير لحاء شجر البلوط من مجرد قصبة/ نقطة، عبور "المحلات السلطانية" إلى فضاء للعيش.

 

من خيوط الغرام المبتور بين كمال وعفيفة، ومن رسائل كتبها القلب في زمن النسيان، إلى أسئلة الموت، والاختفاء، والمقاومة، تنهض الرواية كنشيد خافت في صخب التهميش. هنا، حيث يُولد الجمال من الحطام، وتتوهج الحقيقة من الرماد.

 

"الهرمكة" ليست فقط حكاية معمل، بل شهادة على جيل طحنته طاحونة التاريخ، وجعلت منه جسرا هشّاً بين زمنين: زمن الحلم وزمن الخراب.

 

هي رواية عن الأمل حين يُولد بين الأسنان المعدنية، عن الذاكرة حين تستفيق على أنقاض المعامل وأرصفة المدن المنسية. وعن الحب، حين يصبح الخلاص الوحيد الممكن، أو المستحيل الأجمل.

 

في النهاية، لا يعود السؤال: من هو كمال؟ أو من كانت عفيفة؟ بل: من نحن وسط هذا الدوران الأبدي للـ"هرمكة"؟ ومن بقي يحمل في قلبه رماد الحلم الأول… وألم الطاحونة الأخيرة؟