نفايات الثلاثاء.. حين تتحول حركة الرواج إلى كارثة بيئية صامتة

نفايات الثلاثاء.. حين تتحول حركة الرواج إلى كارثة بيئية صامتة مع انقضاء يوم السوق، تنقضّ على المكان فوضى بيئية
كل ثلاثاء، تستعيد جماعة القصيبية القروية نبضها الاقتصادي والاجتماعي عبر سوقها الأسبوعي النشيط الذي يتحول إلى نقطة جذب حيوية للساكنة والزوار من كل الدواوير المجاورة. تتعالى الأصوات والهتافات من كل حدب وصوب. هناك من يبتاع لقمة عيشه، وآخرون يساهمون في بيعها. السوق هنا ليس مجرد فضاء تجاري، بل أيضا مكان للقاء بين الأهل والأحباب. غير أن هذا الزخم يخبئ في طياته أزمة بيئية وصحية تتفاقم بصمت مقلق.

سوق ينتعش ومحيط يختنق
مع انقضاء يوم السوق، تنقضّ على المكان فوضى بيئية: بقايا اللحوم والسمك، قشور الخضر، مخلفات الذبائح، عبوات بلاستيكية مبعثرة وروائح خانقة تعكر صفو عيش الساكنة. تقول السيدة رقية، وهي تقطن بجانب السوق: "بسبب تلك الأزبال والتلوث الناجم عنها، يصاب ابني الأصغر بالحساسية وتأتيه نوبات ربو أحيانا".
الحاج العربي، شيخٌ يسكن بجوار السوق منذ ثلاثين سنة، يصف حالته بمرارة: "كنا نحب يوم السوق لما يجلبه من رزق وحياة، لكن اليوم أصبح عبئا علينا. الأكوام تبقى أياما، والروائح تدفعنا لإغلاق نوافذ بيوتنا".
تتحول هذه المخلفات المتراكمة أسبوعا بعد أسبوع إلى مصدر دائم للتلوث، ما يرفع من معدلات الإصابة بالحساسية، السعال، وتهيّج العيون، خاصة لدى الأطفال.

من الحرق إلى المكب المفتوح
أظهرت المعاينة الميدانية وجود حاويات متهالكة لا تفي بالغرض، ولا تستوعب الكم الكبير من النفايات المتراكمة أسبوعيا. ومع غياب شاحنة مخصصة لجمع النفايات، يُلجأ إلى حلول تقليدية تضر أكثر مما تنفع. الحرق، رغم كونه وسيلة شائعة، يزيد الوضع سوءا. يقول السيد عادل، أحد السكان: "يتم حرق الأزبال كإجراء ضد تكاثرها أو انتشارها، لكنها في الحقيقة تسبب لنا مشاكل أكبر".
رشيد، أحد الشباب المتطوعين بجمعية محلية، يضيف: "نحاول تنظيف السوق كل مرة، لكن المشكلة أكبر منا. لا توجد أي مساعدة، والسلطات المحلية لا تتحرك".
أما يوسف، بائع خضر، فيعبر عن واقع مضطر إليه: "نحن مجبرون على الحرق في غياب البدائل، ولو كانت هناك شاحنة لجمع النفايات، لكنا أكثر حرصا على بيئتنا".

الأثر الصحي والبيئي: خطرٌ متفاقم
يتحول محيط السوق إلى بيئة ملوثة، يلعب فيها الأطفال وسط الأكوام، ويتصاعد فيها دخان الحرق، وتتسرب فيها النفايات إلى التربة المجاورة والفرشة المائية، ما يشكل خطرا على الصحة العامة. الأستاذ محمد غياط، أستاذ علوم الحياة والأرض، يحذر: "الوضع البيئي الحالي يهدد الصحة العامة بشكل خطير. استمرار هذا الوضع قد يؤدي إلى تفاقم الأمراض التنفسية والحساسية لدى الأطفال والكبار على حد سواء".

الحلول الممكنة: نحو تدبير بيئي مستدام
لأننا لا نريد فقط أن نحلم بمستقبل نظيف، بل نريد أن نعيشه ونكون جزءا من صناعته، فقد خلصنا من خلال استطلاع آراء السكان والخبراء المحليين إلى جملة من الحلول العملية: توفير شاحنة نظافة مخصصة للسوق الأسبوعي تعمل على نقل النفايات بشكل منتظم، وإنشاء محطة صغيرة للتسميد العضوي (الكمبوست) بالقرب من السوق لتحويل النفايات العضوية إلى سماد طبيعي يُستخدم في الأراضي المجاورة، وتوزيع حاويات منفصلة حسب نوع النفايات (عضوية، بلاستيكية، زجاجية)، وتدريب التجار والساكنة على استخدامها، إضافة إلى تنفيذ حملات توعية بيئية منتظمة تستهدف التجار والزوار، بتنسيق مع الجمعيات المحلية والمدارس، وفرض مساهمة رمزية على الباعة تخصص لإدامة النظافة وصيانة الفضاء أسبوعيا، وتعزيز ثقافة المشاركة المجتمعية من خلال تحسيس السكان بدورهم في حماية بيئتهم وصحتهم.

تنمية مستدامة بأبعاد بيئية واجتماعية واقتصادية
الرهان اليوم لا يقتصر فقط على الحفاظ على جمالية الفضاء العام، بل يمتد ليشمل بناء توازن بيئي متكامل يحمي صحة السكان ويضمن جودة حياتهم، وإنشاء اقتصاد محلي دائري يحول النفايات من عبء خانق إلى مورد اقتصادي ثمين يخلق فرص عمل ويدعم الابتكار المحلي، بالإضافة إلى تحقيق عدالة اجتماعية حقيقية تؤكد حق الجميع في بيئة نظيفة. تلك هي الروح الحقيقية للتنمية المستدامة التي ننشدها في جماعة القصيبية.

نداء للتغيير: مستقبل بيئي مستدام
سوق القصيبية الأسبوعي قصة نجاح تجاري تفسدها نفايات مهملة لا تجد من يعتني بها، بين غياب الوسائل وتجاهل الخطر.
"كل ما نريده هو سوق نظيف يليق بنا كبشر"، تقول تلميذة من الثانوية وعضو في نادي التنمية الذاتية، وتضيف بحماس: "يمكن أن يحدث التغيير إذا تكاثفت الجهود. نحن الشباب مستعدون للمساهمة والعمل، لكننا نحتاج إلى دعم حقيقي من السلطات والجماعة".
 

نحن تلاميذ ثانوية القصيبية نؤمن بأن التغيير الحقيقي ينطلق من وعينا، ومن قدرتنا على إيصال صوتنا بوعي ومسؤولية. وهذه الكلمات التي نسطرها اليوم ليست سوى بداية لحراك بيئي محلي تقوده مدرسة، وتحلم به جماعة، ويتحقق بالتعاون بين الجميع.

بهذا الأمل، يبقى سوق القصيبية فرصة للتغيير الإيجابي ومثالا يحتذى به في التدبير البيئي، إذا ما التقت الإرادة السياسية مع الوعي الجماعي للسكان، وإرادة شباب قادرين على حمل رسالة التغيير وتحويل الأزمة إلى فرصة لتحسين جودة الحياة.
 
............
إعداد: مجموعة تلاميذ أعضاء بنادي التنمية الذاتية بثانوية القصيبية التابعة لمديرية سيدي سليمان (خديجة حنين، فاطمة الزهراء داويني، ابتسام المسن، وئام الفلاق، ملاك الزهاني)، تحت إشراف الأستاذة جهان وريع (منسقة نادي التنمية الذاتية بالمؤسسة). 
ويندرج هذا الربورتاج في إطار مشاركتهم في برنامج "الصحفيين الشباب من أجل البيئة" في دورته الـ23.