رشيد صفـر: غنائم حرب تلفزيونية

رشيد صفـر: غنائم حرب تلفزيونية رشيد صفـر
عندما تنظر عيناك إلى مشهد يعرض على شاشة تلفزية، وتتذوقه بصريا ويقع لك ما وقع للكاتب الفرنسي "مارسيل بروست"، حين تذوقه لقطعة من كعكة "مادلين" مغموسة في الشاي، وانبعثت في ذهنه ذكريات طفولته في بلدة "كومبراي" داخل لحظة عاطفية غنية بالتفاصيل، يمكن أن تعيش هذه الحالة الوجدانية المستوحاة من رواية مارسيل بروست "البحث عن الزمن المفقود"، حيث أصبحت عبارة Madeleine de Proust "مادلين دو بروست"، رمزا لما يُعرف بالذاكرة اللاإرادية في بلد موليير، عندما يعيد إلينا المذاق أو الرائحة أو المنظر في سياق آخر، ذكريات قديمة وعميقة، ونحس وكأن الزمن يعود بنا للوراء للحظة، وقس على ذلك مشهدا كنت قد كتبته في عز الليل، أو حلمت به في خلوتك الإبداعية، وجلست جلسة الجندي في مكتب ضبط العقدة الرئيسية والعقد الثانوية، حاملا قلما عوض البندقية أو ناقرا آلاف وملايين النقرات، على لوحة مفاتيح الحاسوب لتفجير طاقتك الإبداعية، وتوثيق الفكرة والأحداث والشخصيات في مشاهد متتالية على الورق، فتجد تلك المشاهد بالتطابق فجأة، بما لايدع مجالا للشك والتخاطر والتوارد والتشابه، في فيلم أو سلسلة أو مسلسل تلفزيوني لم تُشارك في كتابته ولا تمت بصلة لطاقمه لا من قريب ولا من بعيد، فهذا موقف وحدث من أشد التجارب النفسية قسوة على أي كاتب. 

هو ليس مجرد إحساس بالحيف، بل هو شكل من السرقة الرمزية، التي يصعب أن تجد لها عقابا موازيا لما تُخلفه من أثر داخلي.

فعل السرقة الفكرية لا يقتصر على الانتحال أو النسخ الحرفي، بل يشمل أيضا التكييف غير المشروع للفكرة الأصلية، وإعادة تدوير السيناريو، وتغيير العناوين أو أسماء الشخصيات دون الرجوع إلى الكاتب الأصلي. وفي السياق الدرامي، كثيرا ما يتم تبرير هذه السرقات بحجج تقنية، أو بتواطؤ "النية الحسنة"، أو بمجرد وجود اتصال سابق بين الأطراف. لكن الحقيقة أن القانون لا يحمي النوايا، بل يحمي الحق في الإبداع.

حسب القانون المغربي المتعلق بحقوق المؤلف والحقوق المجاورة، فإن كل إبداع أصلي في مجال الأدب أو الفن، يُعتبر محميا تلقائيا بمجرد إنجازه.

لا يشترط القانون الإيداع المسبق أو التسجيل، بل يكفي أن يُثبت المؤلف أنه صاحب العمل عبر المسودات، والشهادات، والرسائل الإلكترونية أو أي دليل مادي يثبت عملية الخلق الفني، لأن القاعدة في القانون تقول :  "الملكية تابثة لكل من يحوز الشيء بحسن نية، ما لم يتم تأكيد العكس".

لكن لا يمكن لشخص أن يدعي ملكية قانونية لفكرة مجردة في ذهنه، إلا إذا قام بتحويلها إلى عمل محدد ومُثبت  (مثل نص مكتوب، سيناريو، براءة اختراع، رسم، منتج رقمي...)، وهي العبارة التي توصف بـ "الإفراغ"، لأن القانون يحمي تجسيد الفكرة وليس الفكرة في حد ذاتها.

ومن هذا المنطلق فالسيناريو مثلا يندرج ضمن "المصنفات المحمية"، باعتباره عملا أدبيا قابلا للتمثيل، وتشمل الحماية في هذا الإطار، الحق الأدبي، وهو ضرورة انتساب العمل لصاحبه الأصلي واحترام اسمه ومنع تحريف المصنف أي الفكرة والنص، وبعد هذا الحق يأتي أيضا الحق المادي، أو بعبارة أوضح الحق المالي، الذي يستفيد منه صاحب ملكية حقوق التأليف عند الاستغلال التجاري، و البث، والاقتباس، و الترجمة وقس على ذلك.

ولا يعلم أغلب الذين يتقافزون بين سطور السيناريوهات، و"يتبضعون" خلسة من السوق السوداء، لأفكار ومشاهد وشخصيات أعمال غيرهم، أنهم يعرضون أنفسهم لعقوبات حبيسة وغرامات "فلسية"، دون الحديث عن احتساب التعويض المدني، الذي يمكن أن يطالب به الكاتب الأصلي أمام المحكمة، إذا ثبت الضرر المادي والمعنوي.
فلا يعذر أحد بجهله القانون.

ونهمس في أذن هؤلاء، أن حق الملكية الفكرية، يندرج  في إطار حماية أوسع أقرتها اتفاقية "بيرن" لحماية المصنفات الأدبية والفنية (1886)، المعتمدة من طرف المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO)، والتي تؤكد أن التمتع بحقوق المؤلف وحمايتها، لا يرتبط بأي إجراء شكلي، وتكون هذه الحماية قائمة في الدول الموقعة على بنود وتوصيات الاتفاقية المذكورة، دون الحاجة إلى إيداع أو تسجيل...

لكل ما سبق ذكره نقول:
 أخي "الناسخ" أختي "الناسخة" بدون ترخيص، فكرا جيدا في هذه الأمور وما جاء في هذه السطور، قبل دفع الأوراق المسروقة للطبع والتسجيل والنشر والبث على شاشة التلفزيون، فإن السيناريوهات المكتوبة والمحفوظة بشكل مادي (رقمي أو ورقي)، تُعتبر محمية دوليا من الاستغلال غير المصرح به.

وتذكر جيدا أيها "الخاطف" وأيتها "الخاطفة" .. بدون عاطفة وسط هذه العاصفة، أن لكل شخص الحق في حماية المصالح الأدبية والمادية المترتبة على أي إنتاج علمي أو أدبي أو فني من صنعه.

لكن لماذا التشديد في هذا الوعيد !؟.
لأن هناك من يستسهل هذا التقليد البليد ويمد يده على إبداع الآخرين من قريب وبعيد، دون أن يعير الاهتمام لشعور صاحب الإبداع الأصلي المسروق، ونصيحة له من "القلب" أن يقلب الأدوار، مادام يضع اليد على حقوق غيره، ليحس إن كان له إحساس، بما يتعرض له المؤلف في هذه الحالة، ففي علم النفس يا "قلال النفس"، يتعرض ضحية السرقة الأدبية لما يُعرف بـالاغتصاب الرمزي، وهو تعبير من الاستعارة، قصد تحرير الاستمارة الخاصة بخانة وصف التجربة التي يُسلب فيها الفرد حقه في انتساب عمله له والاعتراف به، وهو ما يولد شعورا بالصدمة، والحزن، والغضب، بل وأحيانا الإحباط الإبداعي والانسحاب من الساحة في حرب المساحة داخل الجينيريك، وهي حرب ضروس يحترف فيها أشخاص محسوبون على الكتابة، جرم السباحة بين أمواج حروف مسروقة بوقاحة.

في علم الاجتماع، يعتبر هذا السلوك شكلا من أشكال العنف الرمزي، كما عرّفه السوسيولوجي الفرنسي "بيير بورديو"، أي ممارسة أفعال بقوة غير مباشرة، يتم اقترافها تحت غطاء "المشروعية" المهنية، وتخدم مصالح النخبة الإنتاجية على حساب المؤلفين المستقلين.

في غياب هيئات رقابية قوية، ونقابات مهنية جادة، و وعي بقيمة حقوق التأليف، ستصبح الشاشات مجالا لتكريس الرداءة وتدوير المحتوى بشكل انتهازي، حيث يتم استغلال الموسم لجني زيتون التلفزيون، خصوصا لتصفية "الديون الإبداعية"، أو تمرير الأعمال المسروقة بحجة أن "الوقت لا يسمح بالتفاوض" وأن الكاتب الأصلي يطلب مالا حالا.. و يرفع سقف الدراهم، التي تغير الاتجاه من حسابه البنكي أو جيبه إلى جيوب وحسابات "قطاع الطرق" المهاجمين لقوافل سيناريوهات القطاع، في غفلة ممن كتب السيناريو و خبث من من أعطاه.

لكن كل هذا لا يغير من الحقيقة القانونية والأخلاقية قيد أنملة، فالسارق "زيز" والضحية "نملة"، كانت تجد وتعمل في الصيف لكي ترتاح في فصل الأمطار، لكن داهم "الزيز" الذي يكثر من الأزيز في علب الإنتاج، غار النملة واقترب خلسة من مخزن حبوب السيناريوهات اللذيذة وملأ بها كيسه الفارغ لأن خياله فارغ.

لا يمكن تطهير السيناريو المسروق، فهو عمل مختلس، ومنتجه ومخرجه يتحملان المسؤولية القانونية والتاريخية أمام الكاتب وأمام الذاكرة الثقافية للأمة، إذ لا يستقيم الحديث عن نهضة درامية أو صناعة ثقافية دون حماية فعلية لأعمال المؤلفين، لذلك فإن أي تساهل مع سرقة السيناريوهات هو بمثابة التشجيع على دفن الإبداع الحي.

فالنملة المبدعة لن تكون بالتأكيد ضد التعاون أو رافضة للتشارك، لكن يجب أن نكون كلنا ضد السطو، ضد تذويب الهويات الإبداعية، وضد تحويل القنوات إلى أسواق للغنائم الرمزية.

الدراما ليست مجرّد محتوى يُستهلك، بل تعبير عن وعي جماعي، وحين يُسرق هذا الوعي، لا يكون الكاتب فقط هو الضحية، بل نتحول كلنا إلى شركاء في جريمة ثقافية كبرى في غفلة منا، لأن مقترف سرقة الإبداع تحايل على المشاهدين وتحايل على الشاشة وعلى النملة وبدأ يتكلم بتعال تحت سُعار بحرف السين : من نقل انتقل !!!، ولكن قد تتحول هذه القولة إلى عبارة : من نقل اعتُقِلَ.