لحسن العسبي: ترامب ليس أحمق.. الأحمق من يعتقد ذلك

لحسن العسبي: ترامب ليس أحمق.. الأحمق من يعتقد ذلك لحسن العسبي والرئيس الأمريكي دونالد ترامب
هل هو زلزال في التجارة العالمية؟
نعم.. له كل عناصر الخريطة التكتونية لأي زالزال..
المفارقة هي أنه زلزال متحكم فيه.
نعم، هناك طبيعيا قراءات مختلفة ومتعددة لقرار الرئيس الأمريكي العائد إلى البيت الأبيض دونالد ترامب وضع "نظام جديد" للتعرفة الجمركية للتجارة العالمية من موقع مصالح بلاده الإستراتيجية ضمن الاقتصاد العالمي (القوة الأولى حتى الآن). ضمنها قراءة أهل الإختصاص من قبيلة علماء وخبراء الاقتصاد والبورصة، التي هي قراءة تقنية في غالبها الأعم. لكن هناك قراءات أخرى سياسية وحتى ثقافية لمغامرة الرئيس الأمريكي غير المسبوقة هذه.
يمكن للمرء الجزم بدون تردد على أن دونالد ترامب يمنح لنفسه بتراكم منجزه السياسي مكانة في ذاكرة التاريخ الأمريكي (وربما العالمي) لعقود قادمة، بذات الأثر الذي نعرفه اليوم عن رؤساء أمريكيين مثل جيمس مونرو (صاحب مبدأ الحمائية الأمريكية وإبعاد الدولة الجديدة من حسابات القوى الأروبية وخصوصا حروبها التنافسية بالعالم في النصف الأول من القرن 19)، أو أبراهام لينكولن (موحد أمريكا ومحرر العبيد ومؤسس نظرية الاقتصاد الليبرالي الأمريكي عبر قانون تشجيع العقار في النصف الثاني من القرن 19)، أو وودرو ويلسون (واضع المبادئ الأممية 14 لحق الشعوب في تقرير مصيرها وحرية التجارة العالمية ما بعد الحرب العالمية الأولى سنة 1918، التي دشنت لأول التجاوز الأمريكي لمبادئ مونرو وعودة واشنطن إلى الساحة العالمية).
الأساسي هو أنه بعيدا عن لغة أغلب الإعلام الأروبي (خاصة الفرنسي منه)، الذي يقول بجنون ترامب، فإن الرئيس الأمريكي يصدر عن مرجعية سياسية أمريكية خالصة يوجهها ما تعتبره "حق المصلحة" العليا للسيادة التجارية عالميا. وأن ترامب بالتالي رأسٌ بارزٌ فقط لتيار أمريكي ظل يَتَبَرْعَمُ في عمق التربة السياسية هناك الصانعة للقرار الإستراتيجي لواشنطن بخصوصيات ثقافية ودينية قليل ما ينتبه إليها كما يجب. فالرجل تاجرٌ نعم، لكنه رجل سياسة أيضا. وأن مخططه السياسي يمتلك عناصر إيديولوجيته التبريرية المؤطرة، المسنودة بخطاب ثقافي وديني كامل الأضلاع، له بنية مؤسساتية تنظيمية جلية ضمن نسيج المجتمع الأمريكي.
إن الأكثر أهمية هنا هو واجب الإنتباه للعمق الفكري الذي تصدر عنه هذه السياسة الترامبية التي هي مسنودة ببناء نظري يقول بواجب حماية الحقوق التجارية والإقتصادية والريادية لأمريكا وأيضا لنموذجها العالمي (ليس بالضرورة بشعار الحرية الكلاسيكي المعروف، بل لنموذجها الثقافي والعرقي والديني). إذ ليس اعتباطا هنا كل تلك الترسانة "الأخلاقية" التي يصدر عنها الرئيس الأمريكي المتعلقة بنموذج الفرد المواطن المثالي بالتقاطع مع مؤسسة الأسرة ومؤسسة التربية ومؤسسة الإعلام. بل إن البنية المسنودة لهذا التوجه تواصليا كما تمثلها قوة الآلية التكنولوجية لإيلون ماسك تقدم الدليل الأبرز فعليا على ذلك.
هل هناك خاسرون في هذا التوجه (الإنعطافة) الأمريكي الجديد بحسابات القرن 21؟
نعم، هناك خاسرون كثر، سيكون من الوهم الإعتقاد أن بينهم المنظومة الآسيوية. بل إن الخاسر الأكبر هي المنظومة الأروبية التي سقطت ببلادة في فخ التفريط في عمقها الروسي ودخلت معه في تنازع مسلح عبر البوابة الأوكرانية، بشكل يجعل المرء يكاد يستغرب من حجم الصمم الذي أصاب أذن السياسة الأروبية في باريس وبرلين التي كما لو أنها لم تسمع كما يجب لنداء الزعيم التاريخي لفرنسا شارل دوغول الذي ظل ينادي بعدم التفريط في العمق الغربي الأروبي كما تمثله موسكو الروسية. مما كانت نتيجته اليوم ليس بالضرورة بروز قوة دهاء زعيم روسي مثل فلاديمير بوتين (الذي فيه بعض من قيصر روسيا وبعض من لينين السوفيات بقفاز يد ستالين)، بل إعطاء المجال الروسي كهدية لبكين وواشنطن على نفس القدر من الأهمية والمستوى. خلاصاته الكبرى القادمة هي التقعيد لميلاد زمن إمبراطوريات جديدة على مدى ما تبقى من القرن 21 كله هي الإمبراطورية الأمريكية والإمبراطورية الصينية وبينهما كوسيط الإمبراطورية الروسية. بكل ما سيفضي إليه ذلك من إعادة ترتيب شمولية لمنظومة هيئة الأمم المتحدة التي صارت اليوم بنية فارغة متجاوزة، لأن منطق توازنات ما بعد الحرب العالمية الثانية سنة 1945 قد انتهى اليوم أمام ميلاد منطق توازنات عالمية جديدة بأقطاب جدد (جزء وازن منها من الجنوب).
هل انتهت المركزية الغربية الأروبية عالميا كما تبلورت منذ القرن 18 حتى أواسط القرن 20؟
الجواب الأسلم ربما أنها أصبحت متجاوزة وأنها تعيش أزمة وجود وهوية. بل إن مأساتها الكبرى كامنة في أنها أصبحت متجاوزة هذه المرة بيد أمريكية، ويُخشَى أن الباب الوحيدة المفتوحة أمامها هي باب "بيت الطاعة الأمريكية" لا غير. بالتالي فكل ما يسجل من ردود أروبية هذه الأيام ليس أكثر من "مناحة الخاسرين" بحسابات خطو التاريخ. يهمنا فيها مصالحنا الحيوية القومية مغربيا ومغاربيا وشمال إفريقيا بسبب قوة ارتباطنا مصالحيا معها.
لنعد قليلا إلى القصة الترامبية.
إن العنوان الأبرز الذي يمكننا توصيف الحالة الأمريكية به اليوم، هي أن العالم يعيش مرحلة انعطافة غير مسبوقة في منظومة "السياسة الأمريكية" يمكن توصيفها إجرائيا بأنها تجاوز (وإنهاء) للتوجه الريغاني الذي اتبع منذ بداية ثمانينات القرن 20، المتأسس على ليبرالية مطلقة تنتصر للسوق (MARKET) على حساب الدولة (STATE)، أفضى إلى خلق نظام عالمي جديد للتجارة طموحه الأكبر الذي نجح فيه إلى اليوم هو تحويل العالم إلى ما يشبه شركة متعددة الجنسيات، أسقط الحدود التقليدية للدول. وأن كل الأنظمة السياسية التي لم تنجح في الإنخراط ضمن هذه المنظومة العالمية الجديدة (الشركة العالمية الكبرى) تنهار مثل جبل ثلج في صحن بركان حام (ذلك ما حدث لسورية وليبيا وفنزويلا كمثال فقط)، وأن التي ظلت تنازع منها قد بدأت الآن تدخل إلى بيت الطاعة مثلما يحدث مع إيران وربما غدا قريب بشكل مختلف مع الجزائر.
لقد أدرك خبراء الإستراتيجية الأمريكية (من سلالة منظرين هائلين مثل كيسنجر وبريجنسكي) أن الرابح الأكبر من ذلك التوجه الريغاني الأمريكي هو "الجنوب الجديد" كما تمثله السوق الآسيوية في المقدمة منهم السوق الصينية والسوق الهندية وتوابعهما في المجال الهندو – صيني بالمحيط الهادئ. وأن الكفة مالت لأول مرة (في دورة تاريخية جديدة كما نظر لها من قبل المفكر الاقتصادي الفرنسي جاك آتالي) من الفضاء الأطلنتي صوب الفضاء الهادئ. فأصبح السؤال هو:
ما العمل؟
إن العمل بالنسبة لخبراء واشنطن الجدد (من خارج الأنتلجنسيا التقليدية للحزبين الجمهوري والديمقراطي) هو إعادة ترتيب شمولية للسياسة الاقتصادية والتجارية الأمريكية، ليس باستعادة لمبادئ إنشاء صندوق النقد الدولي الشهيرة كما بلورها مؤتمر برايتون وودوز بأمريكا، بل بتطوير حمائي وإنقاذي لها بحسابات القرن 21 وليس بحسابات ما بعد الحرب الثانية في القرن 20. وأن الطريق إلى ذلك هي استعادة دور الدولة وتلجيم (تقليم) دور السوق. كما لو أن دونالد ترامب هنا يطبق نظريات كارل ماركس في مكان ما، التي سبقه إليها الرئيس الأمريكي الديمقراطي باراك حسين أوباما أثناء مواجهة الأزمة المالية الخانقة لسنة 2008.
ليس اعتباطا إذن أن شعار ترامب الأكبر اليوم هو عودة الرأسمال الأمريكي إلى داخل الجغرافية الأمريكية، بل عودة استقطاب الرأسمال العالمي إليها. وأن تفويض الإنتاج إلى العالم بمنطق "الشركة العالمية" بسبب غلبة نظام السوق منذ الثمانينات الذي فيه أرباح للبورصات العالمية تأسيسا على فرص تقليص كلفات الإنتاج في جغرافيات العوز بآسيا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا، يجب تجاوزه لأنه أفضى فقط إلى ميلاد التنين الصيني وتغيير ميزان القوى العالمي الذي نتيجته القادمة هي سيادة بكين على العالم تجاريا في أفق 2049 (مرور قرن على الثورة الماوية في الصين).
باختصار إن ترامب يقود توجها أمريكيا جديدا لعودة "الدولة" (STATE) لتلجيم "السوق" (MARKET) الذي لم يعد في مصلحة القيادة الأمريكية للتجارة العالمية. لهذا السبب حين ينادي الرئيس الأمريكي الأشقر الأمريكيين ب "الصبر" فإنه يكاد يردد حكمة أمازيغية مغربية من عندنا تقول: "اصبر على الشِّعْبِ الضيق فهو الذي سيفضي بك إلى البراح الواسع". حتى وهو يقوم بذلك من باب "دهاء التاجر" الذي يُصَعِّدُ الموقف للوصول إلى أفضل تفاوض. علما أنه هنا مع فريقه لا يفاوض جهة واحدة فقط، بل إنه يفاوض العالم كله من خلال مداخله الكبرى الجديدة التي هي المجال الآسيوي بطقسه الصيني، بدليل كل العنف الرقمي الممارس على التجارة الصينية.
علينا أيضا ألا نغفل عن معطى آخر مهم، هو أن المخطط الأمريكي الجديد هذا مؤطر بخلفية هوياتية ومعرفية وثقافية، تستند على تفسير حضاري يصدر عن توجه ديني جد محافظ ضمن البنية المسيحية، يمثله التطور الذي بلغ التيار الكنسي الإنجيلي (تيار العنصرة)، الذي يقول بواجب استعادة قيم العائلة وقيم المحافظة وواجب الدعوة الرسولية التبشيرية للقيم الدينية الكنسية المسيحية المتجاوزة للتيارين التقليديين الكاثوليكي والبروتستانتي. إنه في مكان ما كما لو أن طموح واشنطن هو أن تصبح هي روما المسيحية وبابويتها الجديدة، وهذا لعمري مشروع تاريخي غير مسبوق قليلا ما ينتبه إليه (أن يصبح المرجع المسيحي ليس أروبيا بل أمريكيا). دون إغفال أن الرابح الأكبر من هذا التوجه الهوياتي والثقافي الأمريكي الجديد الذي ابتدأ جنينيا منذ بدايات القرن 20 هي دولة إسرائيل كمشروع ديني أصولي متطرف. لأن التيار الإنجيلي بمرجعيته الأمريكية (تيار العنصرة) يؤمن بحق إسرائيل الكبرى في الوجود.
أين نحن من كل هذه الجهنم المفتوحة للتسابق العالمي لإعادة ترتيب العلاقات الدولية؟
مغربيا نحن مرتبطون بالمجال الأروبي تقليديا مما يجعلنا أسرى تطوراته (وهو مجال أزمة مركبة مقلقة). مثلما نحن ضحايا غياب تكتل مغاربي وشمال إفريقي كان من الممكن أن يحررنا أكثر تفاوضيا مع العالم، بسبب ضيق أفق الرؤية السياسية عند الجماعة الحاكمة بالجزائر. على القدر نفسه الذي نحن مطوقون بتداعيات الإنتماء القومي والهوياتي لفضاءنا العربي والإسلامي عبر كارثة الأزمة الفلسطينية (بفاتورتها الرهيبة إنسانيا التي يؤديها الأبرياء في بلاد ثالث الحرمين)، بكل الضغط الطبيعي الهائل شعبيا، والحال أننا مكرهون مصلحيا للتعاون بذكاء مع واشنطن الجديدة بدفتر تحملاتها التي نعرفها جميعا. وأن ذلك كله يتم بالتوازي مع التحديات الجدية لترسيخ عمقنا بغرب إفريقيا الذي هو طوق نجاتنا الإستراتيجي.
كل ذلك دون إغفال نتائج أزمة النخب عندنا مغربيا التي تطرح تحدي وجود أمام "ذكاءنا الجمعي" كإنسية حضارية، بسبب خيارات سياسية تدبيرية جففت للأسف (بعمى تاريخي عجيب) المصادر التقليدية للبناء التأطيري لحماية "الهوية الوطنية" ولتغذية "منظومة القيم الجماعية اللاحمة" عبر مؤسسات التأطير الحزبي والنقابي والجمعوي وعبر مؤسسة المدرسة والتعليم وعبر مؤسسة الإعلام.
الواقع هو الواقع على كل حال، فهو لا يرتفع..
مؤكد أنها دورة زمنية تفرض شروط تطورها على الجميع.. وسيكون من الفطنة عبور هذه الصحراء المقلقة بأقل الخسارات الممكنة وبالرهان على صناعة الكفاءة البشرية المغربية (المدرسة) والتقنية (تكنولوجيا المعلومات) والأمنية (الأمن السيادي هوياتيا وثقافيا وفلاحيا وماليا وصناعيا وحقوقيا وبنية تقنية لأجهزة الأمن) لتحقيق انتقال مفروض علينا بقوة الخارج في أفق سنة 2050.