محمد السباعي: الوساطة العائلية في السجون.. مقاربة شاملة بين النظرية والتطبيق

محمد السباعي: الوساطة العائلية في السجون.. مقاربة شاملة بين النظرية والتطبيق محمد السباعي

تشكل الوساطة العائلية في السجون أحد أهم الآليات الحديثة في إصلاح منظومة العدالة، حيث تهدف إلى تحقيق التوازن بين ضرورة تنفيذ العقوبة القانونية من جهة، والحفاظ على الروابط الأسرية كعامل أساسي في عملية إعادة الإدماج الاجتماعي من جهة أخرى. تنبع أهمية هذا الموضوع من كونه يجمع بين الجانب القانوني والاجتماعي والنفسي، مما يجعله من القضايا المعقدة التي تتطلب مقاربة متعددة الأبعاد.

القسم الأول: الأسس النظرية والتشريعية

المبحث الأول: الإطار المفاهيمي والنظري

الفرع الأول: المفهوم والأهمية

تعتبر الوساطة العائلية في السجون عملية منهجية منظمة تهدف إلى تسهيل الحوار بين الشخص المحبوس وأفراد عائلته، تحت إشراف وسيط محايد ومتخصص. تختلف هذه الوساطة عن غيرها من أشكال الوساطة التقليدية بكونها تجري في بيئة استثنائية تحكمها قيود أمنية وإجراءات خاصة، مما يفرض تحديات فريدة على العملية برمتها.

تكمن الأهمية الجوهرية لهذه الوساطة في دورها المزدوج: فهي من ناحية تحاول الحد من الآثار السلبية للسجن على الأسرة، ومن ناحية أخرى تساهم في تهيئة الظروف المناسبة لإعادة إدماج السجين بعد الإفراج عنه. وقد أثبتت العديد من الدراسات أن الحفاظ على الروابط الأسرية خلال فترة السجن يقلل بشكل ملحوظ من معدلات العود إلى الجريمة.

الفرع الثاني: الأسس الفلسفية

ترتكز الوساطة السجنية على مبادئ العدالة الإصلاحية التي ظهرت كبديل عن نموذج العدالة العقابية التقليدي. تستند هذه الفلسفة إلى فكرة أن الجريمة لا تشكل انتهاكاً للقانون فحسب، بل أيضاً للعلاقات الاجتماعية، وبالتالي فإن الهدف يجب أن يكون إصلاح هذه العلاقات وليس مجرد معاقبة الجاني.

تطورت هذه المفاهيم عبر عقود من النقاشات الفكرية والتجارب الميدانية، حيث بدأت كحركة إصلاحية في سبعينيات القرن الماضي، لتصبح اليوم منهجاً معترفاً به في العديد من الأنظمة القانونية حول العالم. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الفلسفة لا تلغي فكرة المسؤولية الجزائية، بل تحاول دمجها مع اعتبارات إنسانية واجتماعية أوسع.

المبحث الثاني: الإطار القانوني الدولي والمقارن

الفرع الأول: المواثيق الدولية

أكدت العديد من المواثيق الدولية على أهمية الحفاظ على الروابط الأسرية للسجناء. فقواعد نيلسون مانديلا الدنيا لمعاملة السجناء (2015) تنص صراحة على أن "يُسمح للسجين بالاتصال بأسرته عن طريق المراسلات والزيارات بانتظام". كما أن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966) يكفل الحق في الحياة الأسرية كحق أساسي من حقوق الإنسان.

وعلى المستوى الإقليمي، نجد أن الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان قد فسرت المادة 8 المتعلقة بالحق في الحياة الأسرية بطريقة تشمل حق السجين في الحفاظ على علاقته بأسرته. وقد أصدرت المحكمة الأوروبية عدة أحكام تؤكد هذا التوجه، مما شكل سابقة مهمة في هذا المجال.

الفرع الثاني: التجارب التشريعية الوطنية

تتباين الدول في تعاملها مع موضوع الوساطة السجنية. ففي فرنسا، ينص القانون على حق السجين في الزيارة الأسرية، كما أن هناك تجارب رائدة في مجال الوساطة العائلية داخل السجون. أما في بلجيكا، فقد أقر قانون 2005 إطاراً شاملاً للوساطة في جميع مراحل الدعوى الجنائية، بما في ذلك مرحلة تنفيذ العقوبة.

وفي السياق السويسري، تعمل جمعيات مثل AJURES على تعميم ممارسات الوساطة السجنية، رغم التحديات السياسية والاجتماعية التي تواجهها. وتظهر هذه التجارب أن نجاح الوساطة السجنية مرهون بوجود إطار قانوني واضح ودعم مؤسسي مستمر.

القسم الثاني: التطبيقات العملية وآفاق التطوير

المبحث الأول: آليات التنفيذ والتحديات الميدانية

الفرع الأول: نماذج العمل والتشغيل

تتخذ الوساطة السجنية أشكالاً متعددة حسب طبيعة كل حالة ودرجة تعقيدها. ففي الحالات التي تتسم بتوتر عالٍ بين الأطراف، غالباً ما يبدأ الوسيط بما يعرف بـ"médiation navette"، حيث يقوم بنقل الرسائل بين السجين وعائلته، مع العمل على تهيئة الأجواء للحوار المباشر.

أما في الحالات الأقل تعقيداً، أو بعد نجاح مرحلة الوساطة النقالة، يتم الانتقال إلى جلسات الحوار المباشر التي تعقد في غرف مخصصة داخل السجن. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الجلسات تخضع لضوابط أمنية صارمة، لكنها تحاول في نفس الوقت توفير مساحة من الخصوصية والاحترام المتبادل.

الفرع الثاني: الصعوبات والتحديات

يواجه تطبيق الوساطة السجنية العديد من التحديات العملية. فمن الناحية اللوجستية، تعاني العديد من السجون من نقص في المساحات المخصصة لمثل هذه الأنشطة، كما أن أنظمة الزيارة الصارمة غالباً ما تعيق تنظيم الجلسات بالشكل الأمثل.

أما على المستوى النفسي والاجتماعي، فإن الوصمة المرتبطة بالسجناء وعائلاتهم تشكل عائقاً كبيراً أمام نجاح الوساطة. كما أن بعض السجناء أنفسهم قد يقاومون عملية الوساطة خوفاً من مواجهة عواقب أفعالهم، أو اعتقاداً منهم أن الاعتراف بالخطأ قد يضعف موقفهم.

المبحث الثاني: سبل التطوير والتوصيات

الفرع الأول: التطوير التشريعي والمؤسسي

يتطلب تطوير الوساطة السجنية إصلاحات تشريعية عميقة. أولاً، يجب إدراج الوساطة العائلية كحق أساسي للسجين في القوانين الوطنية، مع تحديد آليات واضحة لتنفيذها. ثانياً، لا بد من تخصيص موارد مالية كافية لتدريب الوسيطين المتخصصين وتجهيز البنية التحتية اللازمة داخل السجون.

على المستوى المؤسسي، يتعين تعزيز التعاون بين إدارات السجون والجهات القضائية من جهة، والجمعيات المتخصصة في الوساطة من جهة أخرى. كما أن إنشاء وحدات متخصصة في الوساطة السجنية داخل المؤسسات العقابية قد يشكل خطوة مهمة نحو تعميم هذه الممارسة.

الفرع الثاني: التوعية المجتمعية

لا يمكن فصل نجاح الوساطة السجنية عن السياق المجتمعي العام. لذلك، يجب العمل على تغيير الصور النمطية السلبية عن السجناء وعائلاتهم عبر حملات توعية مكثفة. كما أن إشراك وسائل الإعلام في نقل قصص نجاح الوساطة السجنية قد يساهم في كسر الحاجز النفسي لدى الرأي العام.

ومن الضروري أيضاً تعزيز الشراكة مع المجتمع المدني، حيث يمكن للجمعيات المتخصصة أن تلعب دوراً محورياً في التوعية والتوجيه. كما أن إشراك الجامعات ومراكز البحث في تقييم تجارب الوساطة وتطويرها سيساهم في إثراء المعرفة العلمية في هذا المجال.

الخاتمة

تشكل الوساطة العائلية في السجون نموذجاً عملياً للعدالة الإصلاحية، حيث تهدف إلى تحقيق التوازن بين متطلبات العقاب القانوني والحفاظ على الكيان الأسري. ورغم التحديات الكبيرة التي تواجهها، فإن التجارب الدولية تثبت إمكانية نجاحها عندما تتوفر الإرادة السياسية والدعم المجتمعي.

إن مستقبل الوساطة السجنية مرهون بقدرتنا على تطوير إطار قانوني متكامل، وبناء كوادر متخصصة، وتغيير الثقافة المجتمعية تجاه قضايا السجناء وأسرهم. ولا شك أن الاستثمار في هذا المجال سينعكس إيجاباً ليس فقط على الأفراد المعنيين، بل على المجتمع ككل من خلال تقليل معدلات العود إلى الجريمة وتعزيز التماسك الاجتماعي.