حميد لغشاوي: الاستحواذ على السلطة والمال يبني مجتمعا فاقدا للتوازن والنتيجة كثرة الفقراء

حميد لغشاوي: الاستحواذ على السلطة والمال يبني مجتمعا فاقدا للتوازن والنتيجة كثرة الفقراء حميد لغشاوي، باحث سوسيولوجي
ارتفع عدد الفقراء في المغرب ارتفاع من 623 ألف سنة 2019، إلى 1,42 مليون سنة 2022. هذه الأرقام المفزعة تشير بحسب الباحث السوسيولوجي حميد لغشاوي إلى حقيقة مفادها أن الفقر بمختلف أبعاده (التفقير، الهشاشة، الإقصاء) يعد إشكالية كبرى تسائل سياسة الدولة الاستحواذ على السلطة والمال يبني مجتمعا فاقدا التوازن الطبقي، ويصير منقسما إلى طبقتين غير متوازنتين: الأولى قاهرة، تمتلك السلطة والمال، والأخرى مقهورة وهي التي تشكل الأغلبية المسحوقة، مقابل إعدام الطبقة المتوسطة التي تشد توازن المجتمع، وهذا هو حال المغرب، فكلما ازداد الآخرون ثراء ازداد الفساد السياسي والمالي، وقلت مساهمة الدخل في الرفاهية والنتيجة كثرة الفقراء، وقلة الأغنياء.

ما هو تفسيرك لاستمرار تنامي الفقر في المغرب رغم مرور أزيد من 60 سنة من الاستقلال؟

لكي نفهم وضع المغرب الحالية الذي تحول كابوس الفقر فيه إلى حقيقة عامة، وتجاوز ما هو مادي إلى ما هو ثقافي وسيكولوجي، لابد أن نستوعب الأسباب التي جعلت "طوماس بيكيتي" يقول: "الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقرا". يثبت التقرير السنوي للمندوبية السامية للتخطيط، هذه المقولة؛ حيث ارتفع عدد الفقراء من 623 ألف سنة 2019، إلى 1,42 مليون سنة 2022.
تنبهنا هذه الأرقام المفزعة إلى حقيقة مفادها أن الفقر بمختلف أبعاده (التفقير، الهشاشة، الإقصاء) إشكالية كبرى تسائل سياسة الدولة العمومية أو تلك التشكّلات السياسية والاقتصادية والقانونية والتعليمية، التي تبني الإطار العام للدولة.
عرف المغرب، تاريخيا، تطاحنات كانت محور اهتمامها الصراع (السياسي /الإيديولوجي) بين السلطة الحاكمة والنخبة السياسية، حال دون التفكير في حلول جذرية تخفف من حدة الفقر والفوارق الاجتماعية، بل سادت ثقافة النقد المضادة لعمودية السلطة والمؤسسات التابعة لها، لتنخرط بعد ذلك، تلك الثقافة المضادة في النظام السياسي وتحقق مآربها الذاتية. يضاف إلى ذلك، نهج سياسة اقتصادية غير مهيكلة، وموسمية مرتبطة بالتساقطات المطرية. والاعتماد على تصدير الثروات الطبيعية. ساهمت هذه الأسباب في تفاقم الأوضاع الاجتماعية والفوارق في معدل الدخل بين الوسط الحضري والقروي، وتوسع دائرة الفقراء.
أما اليوم فقد تغيرت الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والقيمية والأخلاقية، وتغير مفهوم الفقر وأسلوب حياة الفقراء، فالدخل المادي ـ حسب تعبير السوسيولوجي "جورج زيمل" ليس هو المحدد الوحيد للفقر، وإنما قيم وسلوكيات وثقافة"، فإذا أخذنا بعين الاعتبار هذا التصور، فإن المجتمع المغربي لا يمكن أن يحلو له العيش في سياق تنموي يستغل الموارد والثروات، ويترقى في السلم السياسي، ويقدم أدنى الأجور الممكنة، ويغيّب إمكانية الترقية الاجتماعية. يضاف إلى ذلك المزيج الاجتماعي الذي أنتجه سوق الشغل في المغرب مؤقت وفقير ومهدد بالانهيار. ولذلك يكون العلاج في بعض الأحيان أسوء من المرض. لأنه يثري من هم في قمة السلم الاجتماعي، في المقابل، يفقر من هم في الدرك الأسفل الاجتماعي.
مسألة أخرى ترتبط باليد العاملة المغربية، وهي أنها غير مؤهلة تعليميا لبناء وعي نقابي يدافع عن حقوقها.

ماذا استفادت الدولة من توزيع القفف الغذائية في المناسبات؟

من الصعب القول إن القفف الغذائية غير مجدية، وإنكار أثرها البالغ على الفقراء في المناسبات، يمكن القول إنها تصنف ضمن القيم التضامنية، وما من حجة، مهما كانت باهرة ومصقولة، يمكن أن تبرهن أو تفند حقيقة قيمة من القيم، فالقيم لا تخضع لمعايير الصحة والخطأ بل لمعايير القبول أو الرفض، القفة مقبولة ما دام هناك مواطن مغربي في حاجة إليها. لكن حين يقل الفقر ويتطور المجتمع فالرؤية ستختلف، وستتخذ القفة أشكالا تضامنية أخرى كتلك التي تلجأ إليها الدول المتقدمة مثل (نظام المساعدة، الرعاية الاجتماعية، الحماية الاجتماعية..إلخ) وهي أسباب اتخذتها "الدولة الاجتماعية" مشاريع مجتمعية في "التأمين الجمعي ضد المصائب التي تصيب الفرد أو الجماعة".


أليس حريا بالحكومة ضمان الشغل لضمان كرامتهم حتى ولو كانت الأجور ضعيفة ؟

الفقر المادي عند المغاربة لغز يحتاج إلى التأمل والتفسير، والشغل بأجر ضعيف هو حل ترقيعي. ولا يوجد سوى تفسير واحد في نظري هو أننا أصبحنا مجتمعا استهلاكيا، والمجتمع الاستهلاكي تتعدد الطرق فيه ولكنها تلتقي في السوق، وارتفاع الأسعار، تدفع الزبائن إلى "الإحساس بالفقر subjective poverty". ولذلك فغلاء الأسعار تشعل سعار الرغبة، وتمارس إكراها على الفرد؛ سواء ذاك الفقير الذي يعيش درجة الصفر في الفقر، أو الذي يحصل على أجر ضعيف.
يضاف إلى ذلك، أن التشخيص في إطار "الظاهرة الاستهلاكية" التي يعرفها العالم اليوم، والمغرب ليس في منأى عنها، يثبت أن القيم تقاس بمعيار قيمتها في السوق، مثل الكرامة وتقدير الذات. وقيم السوق متقلبة على الدوام وهجينة، تساندها في ذلك غياب الديموقراطية التي حلت محلها شعبوية سياسية غير مبررة وعاجزة عن إيجاد حلول لهموم الفقراء التائهين في المجتمع الافتراضي ومنصاته الرقمية.
والأمر من ذلك، هو أن الروابط الاجتماعية الهشة لا تأتي بنخب مواطنة؛ بل بنخب فاسدة، والفساد يستعمل كآلية من آليات احتكار السلطة والموارد، والترقي في السلم السياسي، والقاعدة تقول: إن"معظم السياسيين يدافعون بشكل أساسي عن مصالحهم ولا يقلقون بشأن أشخاص مثلي ومثلك ". وتكون النتيجة هي الإقصاء الاجتماعي، وتتجلى أبعاده في: البطالة وتدني مستوى التعليم والدخل.

من المعلوم أن جميع بلدان العالم تعاني من الفقر لكن بنسب محدودة في حين أن المغرب يعاني من ارتفاع نسبة الفقراء؟ ما تفسيرك لذلك؟ هل يرتبط بتوزيع الثروة أم بغياب سياسيات عمومية للتنمية البشرية؟

تجد هذه الإشكالية تفسيرا في مفارقة مؤداها أن جمع بين المال والسلطة يفضي إلى الفساد، ومن بين أضرار هذه المفارقة؛ فقدان المجتمع توازنه، وعجزه عن إنتاج برجوازية ملتزمة ومستقلة ومواطنة تضمن كرامة اليد العاملة وتؤدي الضرائب للدولة. من ذا الذي ينكر جشع البرجوازية "الأوليغارشية " التي تجمع بين السلطة والمال وتضارب المصالح، وفسادها الذي أصبح يشكل أخطبوطا يشد بأرجله سفينة التقدم، بعد تطبّعه مع الشّرعية اللاأخلاقية.
إن الذين يمتلكون الثروة يكون لديهم القدرة على تسلق المراتب وتبوء المكانة، ثم القدرة على تحييد الموارد والاستحواذ على الثروات، وتوظيف المحرومين منها ـ الفقراء ـ لمضاعفتها. ولذلك يمكن أن يكون المغرب غنيا وله ثروات، ولكنه يفتقد إلى نجاعة التدبير وعدالة توزيع الثروة، وتدني الأجور.
وعليه، فالاستحواذ على السلطة والمال يبني مجتمعا فاقدا التوازن الطبقي، ويصير منقسما إلى طبقتين غير متوازنتين: الأولى قاهرة، تمتلك السلطة والمال، والأخرى مقهورة وهي التي تشكل الأغلبية المسحوقة. في المقابل، تم إعدام الطبقة المتوسطة التي تشد توازن المجتمع وتبني"البرجوازية المواطنة "، ويعني ذلك في العرف الماركسي موت الصراع الطبقي، حينها "ستفقد السلطة العمومية طابعها السياسي". وهذا هو حال المغرب. وكلما ازداد الآخرون ثراء ازداد الفساد السياسي والمالي، وقلت مساهمة الدخل في الرفاهية . والنتيجة كثرة الفقراء، وقلة الأغنياء.

ما هي مداخيل تجاوز هذا الوضع؟

لا يمكن أن نظن أن أحداً بيده مفاتيح التغيير السياسي والاقتصادي للقطع مع الفقر، وإقامة "مجتمع بديل"، العالم يعرف سلسلة من التغيرات التي أتت اليوم، وستأتي في الغد، وتحصد الأخضر واليابس، وتصطاد الأعداء والأشقاء، الأغنياء والفقراء. لكن يمكن القول، من الناحية التقليدية، إن المجتمع المغربي في حاجة إلى قطاع خاص دينامي يوفر نفقات العامة، وقطاع عام مسؤول عن الصحة والتعليم، ثم القطع مع منطق الفساد الذي يسبب عائقا أمام بناء أسس الدولة الاجتماعية.
ورغم ذلك، تبقى هذه الرؤية تقليدية، إذا أخذنا بعين الاعتبار مرحلة "ما بعد مجتمع المعلومات"، أو "مجتمع الذكاء الاصطناعي والقوة السيبرانية"، الذي بدأت ملامح التحول في نظامه الإنتاجي تظهر على أغنيائه؛ مالكي المنصات الرقمية ومنتجي الخوارزميات ولاعبي كرة القدم وتجار البيانات والسلع والمآسي والأزمات.
وعليه، لا مناص من الانخراط في النظام الإنتاجي الرقمي، حتى نشعر بروح مستجدات العصر، ولا نموت ببطء. ويتطلب هذا الهدف المنشود إعادة بناء تشكلات جديدة تبدأ بتعليم هجين (بالمعنى الإيجابي للمفهوم)، قابل للتغير والتجدد والتعديل كلما استدعت الضرورة إلى ذلك. فمطرقة المجتمع الرقمي تصنع عالما وفقا لرغباتنا، يتجدد على الدوام، ولا ترحم من يولد في غير أوانه، ولا تقبل الثبات، والعجائز والفقراء.